جعل الله تعالى في الإنسان مجموعة من التركيبات الغرائزية التي تقوده إلى حب الدنيا والتعلق بها، ولولا هذه التركيبات لايمكن للنوع أن يستمر، فإن لم يجد الإنسان هذا التعلق في نفسه لايمكن أن يقدم على العمل والتناسل والتكاثر وغير ذلك من متطلبات الحياة التي جبل عليها، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) الكهف 7. وكذلك قوله: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) آل عمران 14.

ولو تأملنا الآيتين لوجدنا أن التزيين نوعان: نوع راسخ في الدنيا بأمر تكويني لايتخلف، وآخر لايخرج عن سعة الإذن التي أوجدها الله تعالى وجعل النفس البشرية هي التي تتحكم بها، ويتفرع على هذه السعة إختبار عسير يترتب عليه سعادة الإنسان وشقاوته، فكلما كان الإختبار أصعب كانت النتائج أكثر إطمئناناً، ومن هنا يظهر أن التركيبات الغرائزية قد أوجدها الله تعالى وبنفس الوقت جعل التحكم بها عائداً إلى الإنسان نفسه، فإما أن يأخذ بها إلى تغيير الفطرة الإلهية وإما أن يبقيها على أصلها الذي وجدت عليه.

وهنا تبدأ نقطة التلاقي التي يشترك فيها الإنسان مع الكائنات الأخرى والتي يطلق عليها مصطلح الممكنات لفقرها إلى واجب الوجود [جل شأنه]. وهذه الممكنات تشترك جميعها في الدعاء إلى سد النقص الراسخ لديها، سواء كانت هذه المخلوقات عاقلة أو غير عاقلة، كما بين تعالى ذلك في قوله: (يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن) الرحمن 29.

ومن هذه المقدمة نحصل على أن السؤال إرتبط بقرينة اليوم الذي تتغير فيه الأحداث، مهما كان نوع التفسير الذي فسر به اليوم المشار إليه في الآية آنفة الذكر، وهذا يتفرع على علاقة السؤال بالأيام التي خلقت فيها الأرض كما في قوله تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) فصلت 10.

وفي الآية إشارة ضمنية إلى عدم توقف الخلق إذا ما قرناه بقوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق......الآية) فصلت 53. ومن هنا تظهر حاجة الممكنات لإستمرارية الطلب كما مر عليك في قوله: [للسائلين] أي الذين هم بحاجة إلى السؤال الذي يكفل لهم إستمرارية البقاء سواء كان ذلك السؤال المشار إليه بالدعاء أو مطلق الطلب الحاصل لدى الكائنات الأخرى.

ولايخلو التوجه الإنساني من هذا الإنقياد أيضاً كما في قوله: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه......الآية) الأنفال 24. وكذا قوله: (وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) النور 43. إلا أن السعة الشاملة لهذه التوجهات قررها تعالى بقوله: (إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم......الآية) الرعد 11. وقريب من هذا اللفظ الأنفال 53.

ولذلك نجد أن التكامل المقرر قبال هذا التشريع يظهر في نظام الكون الذي يسير دون تخلف ودون تغيير إلى أن يشاء الله تعالى كما في قوله: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) يس 38. وهذا المستقر ماهو إلا أحد الأجزاء الضئيلة التي تسير إليها جميع الممكنات، ولكن الفرق بين هذه المخلوقات وبين الإنسان هو أن الثاني لديه القدرة الجزئية على التمهيد الذي يبين له نوع النهاية التي يحصل عليها من خلال السبل التي يتبعها نحو ذلك المستقر الذي هو كادح إليه كما قال جل شأنه: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) الإنشقاق 6.

وهذا الكدح لابد أن يكون متفرعاً على الدعاء الذي يطلبه الإنسان خلال مسيرته في الحياة الدنيا، ولذلك أصبحت طبيعة الإنسان تدعوه إلى الإستعجال في نوع الطلب الذي يكفل له البقاء في هذا الوجود على ضوء الطريقة التي يراها تناسب الإتجاه الذي يقرره سواء في عمله المؤقت أو العمل الذي يظن بعدم تخلف نتائجه عن مقدماته، ولهذا فهو يسعى في الغالب إلى الحصول على النتائج دون أن يراعي المقدمات ودون التحفظ على أسبابها، ولذلك فإن الله تعالى سجل عليه هذا النوع من عدم المسؤولية التي يطلبها والتي تأخذه في الغالب إلى طلب الشر وكأنه يسأل الخير سواء كان ذلك الطلب قولاً أو فعلاً ولهذا قال جل شأنه: (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً) الإسراء 11. وفي الآية مباحث:

المبحث الأول: قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: القياس إثبات الواو في قوله: [ويدع] إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة لأنه لايظهر في اللفظ، أما لمَ لم تحذف في المعنى لأنها في موضع الرفع ونظيره: [سندع الزبانية] العلق 18. [وسوف يؤت الله المؤمنين] النساء 146. [ويوم يناد المناد] ق41 [فما تغن النذر] القمر 5. ثم يضيف الرازي: ولو كان بالواو والياء لكان صواباً هذا كلام الفراء. وأقول: إن هذا يدل على أنه سبحانه قد عصم هذا القرآن عن التحريف والتغيير، فإن إثبات الياء والواو في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتهما في هذه المواضع المعدودة يدل على أن هذا القرآن نقل كما سمع أو أن أحداً لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوة عقله. إنتهى.

المبحث الثاني: الذي عليه أكثر المفسرين قولان: الأول: إن الإنسان المقصود في الآية هو آدم (عليه السلام) وقد أجمعوا على رواية ابن عباس التي أشار بها إلى أن الله تعالى حين نفخ الروح في آدم عطس وأبصر، فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقه أعجبته نفسه فذهب يمشي مستعجلاً فلم يقدر، إلى آخر الرواية. وقد ذكر أبو حيان هذه الرواية ثم قال: إن هذا القول تنبو عنه ألفاظ الآية.
الثاني: المراد بالإنسان جنسه. أقول: أين ما ذكر الإنسان في القرآن دون قرينة صارفة فالمراد به الإنسان دون التشريع.

المبحث الثالث: يقول الطبرسي في مجمع البيان: قوله: [ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير].. قيل في معناه أقوال: أحدها: إن الإنسان ربما يدعو في حال الزجر والغضب على نفسه وأهله وماله بما لا يحب أن يستجاب له فيه، كما يدعو لنفسه بالخير فلو أجاب الله دعاءه لأهلكه لكنه لايجيب بفضله ورحمته عن ابن عباس والحسن وقتادة.
والآخر: أن معناه أن الإنسان قد يطلب الشر لإستعجاله المنفعة.
وثالثها: أن معناه ويدعو في طلب المحظوركدعائه في طلب المباح. [وكان الإنسان عجولاً].. يعجل بالدعاء في الشر عجلته بالدعاء في الخير عن مجاهد، وقيل: يريد ضجراً لا صبراً له على ضراء ولا على سراء. إنتهى.

المبحث الرابع: قال الطباطبائي في الميزان: قوله تعالى: [ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً].. المراد بالدعاء على ما يستفاد من السياق مطلق الطلب سواء كان بلفظ الدعاء كقوله الهم ارزقني مالاً وولداً وغير ذلك، أو من غير دعاء لفظي بل بطلب وسعي فإن ذلك كله دعاء وسؤال من الله سواء اعتقد به الإنسان وتنبه له أم لا إذ لا معطي ولا نافع في الحقيقة إلا الله سبحانه. قال تعالى: (يسأله من في السموات والأرض) الرحمن 29. وقال: (وآتاكم من كل ما سألتموه) إبراهيم 34.

فالدعاء مطلق الطلب والباء في قوله: [بالشر] و [بالخير] للصلة.

ويضيف الطباطبائي: والمراد أن الإنسان يدعو الشر ويسأله دعاءً كدعائه الخير وسؤاله وطلبه، وعلى هذا فالمراد بالإنسان عجولاً: أن لايأخذ بالأناة إذا أراد شيئاً حتى يتروى ويتفكر في جهات صلاحه وفساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الأمر فيطلبه ويسعى إليه بل يستعجل في طلبه بمجرد ما ذكره وتعلق به هواه فربما كان شراً فتضرر به وربما كان خيراً فانتفع به. إنتهى.

المبحث الخامس: تأتي [كان] في اللغة على عدة أوجه.. الأول: على بابها كما في قوله: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين......الآية) البقرة 213.
الثاني: تأتي بمعنى الدوام والإستمرار كما في قوله: (إن الله كان تواباً رحيماً) النساء 16. ومنه قول الشاعر:
وإني لآتيكم لذكري الذي مضى......من الود واستئناف ما كان في غد.
الثالث: تأتي بمعنى [وجد] كقوله تعالى: (إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً] النساء 22. وكذا قوله: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً) مريم 29.
ومنه قول حسان بن ثابت:
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا......وكان الفتح وانكشف الغطاء.
أي وجد الفتح.. وهناك وجوه أخرى ليس محلها التفسير من أرادها فليراجع المعاجم.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]