لم أجد أفضل من تلك النصيحة الساخنة المخلصة الثمينة التي نصحنا بها الشهيد رفيق الحريري قبل خمس سنوات، لأتحدث عنها اليوم في الذكرى السادسة للاحتلال الأمريكي للعراق.


فقد كان الشهيد الحريري بحق أحد أبرز ثلاث شخصيات طغت على ما عداها في منتدى جدة الاقتصادي الخامس الذي أقيم بين 17 و19 يناير/كانون الثاني 2004، إلى جانب الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، ورئيس وزراء مالييزيا الأسبق مهاتير محمد، رغم أن المنتدى المذكور ضم شخصيات مهمة بارزة أخرى في عالم السياسة والاقتصاد، أمثال رئيس وزراء تركيا رجب أردغان والمدير العام لمنظمة التجارة العالمية د.صباحي بانيشباكدي والملكة رانيا العبد الله ورئيس جمهورية كازاخستان د. قاسم زومارت توكايين.


كان الوفد العراقي برئاسة الأستاذ سمير الصميدعي عضو مجلس الحكم، يومها، وسفير العراق الحالي في واشنطن، وعضوية وزير الزراعة د. عبد الأمير العبود وأنا. ورغم أن مدة المنتدى القصيرة جدا وكثرة النشاطات والفعاليات شغلت الوفود عن اللقاءات التي تعقد عادة على هامش المناسبات المشابهة، إلا أن الشهيد الحريري تكرم، هو شخصيا، وبادر إلى دعوة الوفد العراقي إلى جناحه الخاص، واعتذر عن لقاء عدد كبير من رؤساء وأعضاء الوفود الأخرى.


ثم جلسنا معه في خلوة حقيقية لم يحضرها سوى مديرة مكتبه ومرافقه وأحد موظفي وزارة الخارجية اللبنانية. بادرنا بترحيب مفعم بالحميمية الساخنة. قال مازحا، أهلا بأخوال أولادي. وراح يحدثنا عن حبه للعراق والعراقيين.


ثم انتقل بسرعة إلى السياسة. قال، بحب وأخوة صادقة أقول لكم من وحي تجاربنا كلبنانيين، لا ترتكبوا الخطأ المميت الذي ارتكبناه حين اخترنا الصيغة الطائفية في نظامنا السياسي، فجعلنا رئاسة الجمهورية لهذه الطائفة، ورئاسة الوزراء لتلك، ورئاسة البرلمان للأخرى. ثم أوغلنا فيها، فوصل التقسيم الطائفي إلى جميع الوزارات والمؤسسات. وها أنتم تروننا قد دفعنا ثمن ذلك باهضا، وما زلنا ندفعه إلى اليوم، إلا إذا حلت علينا رحمة الله، وأزاحت عنا هذه الغمة.


أنتم الآن في بداية تشكيل دولتكم، وما زال في إمكانكم أن تقاوموا الأيادي الخفية المغرضة القادمة من خارج الوطن لتورطكم، مثلما ورطتنا من قبل. توجهوا إلى النظام العلماني الديمقراطي الذي لا يصلح سواه لبلدين مثل بلدينا، لبنان والعراق، بشكل خاص. وافتحوا قلوبكم لبعضكم، وفاجئوا العالم بعلو همتكم وسمو عزائمكم وقوة وطنيتكم التي لا تفلح جهود المخربين في إفسادها وقهرها. وسيفرح جميع محبيكم الحقيقيين في العالم كله، حين يرون رئيس جمهوريتكم، مثلا، أو رئيس وزراءئكم أو رئيس البرلمان عراقيا مستحقا لمنصبه بوطنيته وكفاءته وخبرته ونزاهته، وحدها، مهما كانت طائفته أو قوميته أو ديانته. وافتحوا باقي المراكز والوظائف لجميع العراقيين، كل وفق جدارته وأهليته لا حزبه وطائفته وعشيرته. طبعا أنا رجل واقعي ولست خياليا يصر على إقامة المدينة الفاضلة، ولكن إرساء المبدأ الديمقراطي العلماني أساسا لدولتكم الجديدة هو الذي سيحميكم من حرائق الطائفية والعنصرية والعشائرية التي احترقنا بها قبلكم.


ثم ابتسم ابتسامته النقية الرقيقة الهادئة، وقال، أتعلمون؟ كنت دائما معجبا بأسلوبكم في عدم ميلكم لمنح ألقاب الفخامة والدولة والمعالي لرؤساء الجمهورية والوزراء، واكتفائكم بلقب (السيد) الذي يوحد الجميع، قادة ومواطنين، على حد سواء. إنها قد تبدو مسألة شكلية عابرة وهامشية، ولكنها تساعد على أشاعة روح المساواة، ومنع التسلط/ والحماية من ولادة الديكتاتوريات.


ثم تطرق الحديث إلى الكميات الضخمة من الدينار العراقي الجديد التي ضبطتها سلطات مطار بيروت، وكانت مهربة من قبل وزير داخلية العراق آنذاك، نوري البدران، بطائرة خاصة إلى لبنان. وكان الشهيد الحريري مصرا على معاقبة اللبنانيين المشاركين في تهريبها من بغداد. فرجاه الأستاذ سمير بالإيعاز بإنهاء حجزها، وإعادتها إلى العراق أولا، وقبل انتهاء التحقيق، فأمر على الفور بإعادتها إلى بغداد.


وقبل أن نخرج من جناحه الخاص، سألته عما إذا كان يسمح لي بنشر ما دار في هذا اللقاء، فلم يمانع. وبالفعل، نشرت هذا الحديث في أكثر من صحيفة محلية عراقية، يومها، لأكون أمينا على أيصال نصيحته الغالية إلى أخوال أولاده في العراق. لكن أحدا لم ينتصح، مع الأسف الشديد.

إبراهيم الزبيدي

[email protected]