يذكر زملائي في مجلس إعادة الإعمارIRDC (غفر الله ذنوب قاتليه) أن أول لقاء جمعنا، لأول مرة، بالسفير بول بريمر كان في بغداد في أواسط شهر أيار/ مايو 2003 في القصر الجمهوري، وتحديدا في عرين القائد الضرورة نفسه. القاعة بهرتني أكثر من بريمر ومن الاجتماع. فقد كانت واسعة جدا، وعالية السقف بصورة غير اعتيادية لم أشاهدها في جميع القصور التي دخلتها في حياتي، جمهورية أو ملكية. وكانت محاطة بجدران مرمرية ضخمة ولامعة. وعلى كل جدار ثلاثة أعمدة رخامية مهيبة. وفي نهاية كل عمود تماثيل أو تمثال. والغريب أن القائد الضرورة المعروف بعشقه لذاته، وبكثرة تماثيله التي دخلت في كل شيء حتى في المطاعم والبارات، لم يكن له نصيب من كل تلك التماثيل. لكنها جميعا جميعها تصور شخصيات مختارة من جماهيرنا المناضلة، عسكرية ومدنية، نساء ورجالا، شيوخا وشبابا وحتى أطفالا، وهي تقاتل من أجله وباسمه الميمون.

كان الحر شديدا في القاعة، وكان بريمر لا يكف عن تجفيف عرقه وتهوية وجهه بورقة جدول أعمال الاجتماع، لأن بغداد كانت يومها بدون كهرباء ولا ماء، وكان واحدنا يدخل حمامامات القصر الجمهوري ومعه قنينة أو مجموعة من قناني المياه المعدنية لكي يغتسل بها أو يتشطف.

لكنني رغم حرارة الجو وحرارة إيماني بعدالة بريمر وقواته الضاربة وحلفائه العراقيين فرسان النظام التحاصصي العتيد، كنت سارحا شارد الفكر والنظرات، أتأمل هذه الجموع المرفوعة على أعالي الأعمدة الرخامية. أشخاصها جميعا كانوا يصرخون. يهتفون. يقاتلون. هذا بالسيف، وذاك بالبندقية، وتلك الماجدة بذيل عباءتها، والأخرى بمنجل زوجها، وآخر بمحراث، وحتى الرايات والأعلام واللافتات كانت تقاتل هي الأخرى وتعارك الرياح وتهتف بحياة القائد العظيم. صراخ لا يتوقف. حتى تخيلت نفسي في مسيرة جماهيرية صاخبة، كتلك التي عودنا عليها زعماء نضالنا القومي، عند كل حفلة إعدام لأحد أعداء الوطن بتهمة التجسس لإسرائيل أو السي آي أي أو مخابرات جيبوتي أو الصومال، أو عندما يطفح كيل المجتمع الدولي بأحد قوادنا الأشاوس فتضطر الأمم المتحدة إلى التجني على أحدهم، وتتجرأ وتتهمه بخرق حقوق إنسانه العربي أو المسلم في بلاده المحروسة بالعدل الإلهي وبحكمة القائد الإمام. في بعض اللحظات كنت أحس بدوخة من عنف ذلك الضجيج. حتى أن بريمر ضبطني مرة وأنا أدور بناظري في السقف والجدران، فابتسم ابتسامة عتب، معتقدا بأنني لا أريد سماع صوته الهامس الرقيق.


في تلك الساعة بالضبط تذكرت رئيس بنما الأسبق مانويل نورييغا حين شق عصا الطاعة على العمة أمريكا عام 1989، ورفض الانصياع لتعليمات مخابراتها بشأن عمليات تهريب السلاح والمخدرات إلى دول أمريكا اللتينية الأخرى. أنذرته فرفض إنذارها. هددته فسخر من تهديدها. وطلبت منه الرحيل عن بنما فأعلن من على شاشات التلفزيونات العالمية كلها أنه باق صامد رغم أنف بوش وأهله وعشيرته.

صورة نورييغا التي هجمت على خاطري في تلك الساعة، وأنا أراقب تماثيل قاعة اجتماعات صدام حسين، هي تلك التي رأيته فيها يحمل سيفا، نعم سيفا، ويشهره أمام كاميرات التلفزيون، هاتفا صارخا مهددا بقطع رقبة بوش وتمريغ كرامة أمريكا بالتراب. ولم تمض سوى أيام قليلة على تلك الصورة التلفزيونية لنورييغا حتى فاجأه بوش بإنزال صاعق لم يترك له فرصة للاختباء في حفرة في مزرعة، مثلما فعل غيره فيما بعد، فهرب متخفيا من قصر الرئاسة، وتسلل إلى مبنى مقر البعثة البابوية، طالبا اللجوء السياسي. ولم تشأ القوات الأمريكية الغازية اقتحام سفارة الفاتيكان لإلقاء القبض على الهارب من وجه عدالتها، فعمدت إلى استخدام سلاح الصوت العالي نفسه الذي شهره هو بوحهها. فوجهت مكبرات صوت عملاقة على غرفته في مبنى السفارة، بعد أن غادرها جميع موظفيها، وراحت تبث موسيقى الروك أند رول بأعلى ما يمكن من الضجيج، إلى أن فقد أعصابه، واضطر للخروج من مخبئه وسلم نفسه، طائعا.

الآن، وبعد كل تلك السنين، أتذكر صورته وهو مستسلم بهدوء ويمد يديه لجندي أمريكي لكي يقيده أمام عدسات التلفزيون، تماما كما يحدث دائما مع جميع زعماء الصوت العالي الآخرين.

هل رأيتم أسدا يزأر إلا حين يقرر الهجوم الكاسح على فريسته لالتهامها؟ أما نحن فنزأر دائما، ليلا ونهارا، ولا نتوقف عن الزأير. وحين تحين ساعة الجد، ونواجه خصمنا وجها لوجه، نجبن ونبلع أصواتنا العالية ولا نستحي.

إبراهيم الزبيدي