رسمت إنتخابات مجالس المحافظات الأخيرة خارطة سياسية جديدة للعراق، وأفرزت حالة من الوعي وإن جاءت متأخرة بأهمية الممارسة الديمقراطية والحقوق الإنتخابية سبيلا لإجراء تغيير سياسي ديمقراطي بديلا عن ثقافة الإنقلابات العسكرية والحزبية في العراق..

فلو تمعنا في النتائج التي أفرزتها تلك الإنتخابات والتي حددت بإعتقادي الوزن الحقيقي لكل الكيانات السياسية المستحوذة على الحكم في العراق، ستقودنا الى حقيقة أعتقد أنها ستكرس بثبات من الان فصاعدا، وهي إنهيار ثقافة الحزب القائد، وإستحالة حكم العراق الديمقراطي مستقبلا بمفهوم الحزب الواحد، فلم تستطع جميع القوى السياسية التي جاءت الى حكم العراق بعد سقوط النظام السابق، وهي بمعظمها أحزاب وتكتلات طائفية من الحصول على نسب كبيرة من أصوات الناخبين. وأظهرت تلك النتائج أن بعض تلك الأحزاب والتنظيمات لا تتمتع بالدعم حتى داخل الكيانات الطائفية التي تقودها منذ بداية العملية السياسية التي إستندت بشكل مخيف على المحاصصة الطائفية،وأظهرت كذلك أن هناك أشخاص وأحزاب لا يتمتعون بالأهلية والشرعية لقيادة البلد، منهم من فرض لأسباب طائفية على أول مجلس للحكم في عراق ما بعد صدام، من هذا المنطلق أعتقد أن إنتخابات مجالس المحافظات الأخيرة وضعت النقاط على الحروف، وأظهرت حقيقة دور ووزن كل حزب وكتلة سياسية على مستوى الشارع العراقي.

باديء ذي بدء وقبل الخوض في التفاصيل أود أن أشير الى أنني أعتبر المشاركة الإنتخابية لمجالس المحافظات بأنها كانت حزبية أكثر منها شعبية، بدليل حجم المقاطعة الشعبية لتلك الإنتخابات، فالأحصاءات الرسمية التي أشارت الى نسبة تصويت تتجاوز نسبة 50% بقليل، تشكل عندي دليلا واضحا على وجود مقاطعة شعبية واسعة النطاق، لمن أسميهم بـquot; الشعب غير المتحزب quot; إن جاز التعبير، وأن النسبة التي صوتت في الإنتخابات، وتشكل نصف عدد من يحق لهم التصويت، هي النسبة الحقيقية للمتحزبين والطائفيين والمستفيدين من السلطة والذين يشكلون القاعدة الأساسية للأحزاب والكتل السياسية المستحوذة على السلطة في العراق، ولذلك نرى بأن المنافسات كانت حادة الى درجة أن أي من تلك الأحزاب المتصارعة لم تتمكن من الحصول على النسب المعقولة في الإنتخابات المذكورة.

هذه الصورة التي أرسمها إجتهادا مني للخارطة السياسية الجديدة على الساحة العراقية،وهي نتاج قراءة متأنية مني لنتائج إنتخابات مجالس المحافظات الأخيرة،تختلف عندي بإستقراء الوضع السياسي في كردستان عن الصورة التي ستكون عليها الأحزاب الكردستانية في إنتخابات الإقليم القادمة..
فعلى الرغم من عدم معرفتي بالأسباب الموضوعية الداعية لتأجيل إنتخابات مجالس المحافظات في الإقليم، وإستثناء محافظاته من الإنتخابات التي جرت على مستوى العراق، ولكني أعتقد بأن هذه الصورة ستختلف كليا في كردستان مع الإنتخابات البرلمانية أو البلدية القادمة، والسبب يعود بإعتقادي الى حالة الفساد الفظيع التي تضرب إقليم كردستان منذ آخر إنتخابات جرت فيه، مما أفرز حالة من التذمر الشعبي تحولت شيئا فشيئا الى حالة من الغضب، وإستقرت اليوم على حالة من المقاطعة الشاملة لسلطة الإقليم.
فهناك مؤشرات عديدة نلمسها هنا في كردستان تدعم توقعاتنا بأنه ستكون هناك مقاطعة واسعة من الناخبين لأية إنتخابات قادمة في الإقليم، ولعل هذه الحقيقة لم تكن خافية عن قيادة الإقليم عند طلبها تأجيل إنتخابات مجالس المحافظات، لأنه لم يكن هناك أي تفسير أو تبرير آخر معقول ومقبول يستدعي التأجيل.
ورغم أن رئيس البرلمان الكردستاني أشار في تصريحات متكررة الى إجراء الإنتخابات البرلمانية القادمة على مستوى الإقليم في موعدها المحدد بالتاسع عشر من شهر مايو/ أيار القادم، ولكني أعتقد وفي ظل قراءتي للوضع الحالي للإقليم والعلاقة المأزومة للحزبين الحاكمين بالشعب، أضيف إليها الأزمة الداخلية التي تعصف بالإتحاد الوطني الكردستاني وهو الحليف للحزب الحاكم الآخر الديمقراطي الكردستاني، فإن هذه الأحداث والتطورات لا تسمح بإعتقادي بإجراء إنتخابات البرلمان الكردستاني في ذلك الموعد المحدد، وأتوقع أن تتأجل بدورها الى وقت آخر قد تصل الى نهاية العام الجاري لتجري بالتزامن مع الإنتخابات البرلمانية على مستوى العراق.
وأظن بأن قيادة الإقليم باتت اليوم تشعر بحجم المقاطعة الشعبية للسلطة في كردستان،وتأثيرها على نتائج أية إنتخابات قادمة، ولذلك تتردد في خطواتها السياسية،خصوصا وأنها تشعر بإن سبب تلك المقاطعة يعود الى فقدان ثقة الشعب بها.

ففي الإنتخابات السابقة كانت هناك عدة شعارات نجحت القيادة الكردية في الترويج لها وإستخدامها كدعايات إنتخابية إستطاعت بواسطتها من كسب التعاطف والتأييد الشعبي لها، ولكن اليوم بات من الصعب إقناع الناخب الكردي بتلك الشعارات، مثل العزف على الوتر القومي من خلال التلويح بفزاعة تجدد الصراع الكردي العربي، وكذلك تسويق شعارات المطالبة بالحقوق الدستورية، مثل الفدرالية والمادة 140 والمناطق المتنازع عليها، وغيرها من الشعارات التي أثبتت الأحداث خلال السنوات الخمس الماضية زيفها وبطلانها. فهذه القيادة لم تستطع طوال تلك السنوات الماضية سوى من تثبيت حقها في الحصول على نسبة 17% من ميزانية الدولة العراقية، وإختزلت كل صراعاتها ومعاركها في العاصمة المركزية بحصة الإقليم من تلك الموازنة، أما مسألة الفدرالية التي صورتها القيادة الكردية كأنها من المقدسات النازلة من السماء على الدستور، فقد تم تمييعها،والمادة 140 المتعلقة بتطبيع كركوك ومحاولة إستعادتها الى إقليم كردستان ألغيت عمليا بتوقف عملية التطبيع، وأختزلت بدورها بحفنة من الدولارات على سبيل تعويض المهجرين والمرحلين، أما المناطق المتنازع عليها فقد بقيت على حالها حتى تلك التي كانت بالأصل جزءا لا يتجزأ من حدود إقليم كردستان التاريخية، مثل مخمور وخانقين وسنجار، وإنشغال القيادة الكردية بمعاركها على الميزانية أودت بجميع الآمال الشعبية بإمكانية إستعادة تلك المناطق المنزوعة عن إقليم كردستان.

في ظل هذه الحقائق التي يلمسها المواطن الكردي على الأرض، سيكون من الصعب على القيادة الكردية الحالية أن تنجح مرة أخرى في إستخدام تلك الشعارات والدعايات لكسب التعاطف الشعبي، وما يعرقل جهود القيادة الكردية بهذا الشأن، هو حدوث تطورات سياسية لافتة على مستوى الإقليم في الفترة الأخيرة، والمتمثلة برغبة بعض الأحزاب والشخصيات السياسية لخوض الإنتخابات القادمة على شكل كيانات مؤتلفة أو مستقلة أو بقوائم منفردة، وهذا يشعر القيادة الكردية بمخاوف كبيرة على تحالفاتها المصلحية القائمة حاليا، وتجعلها ترتعب من نتائج أية إنتخابات قادمة في الإقليم.

في هذه الإيام تحتفل الجماهير الكردية بأعياد الإنتفاضة الشعبية التي إجتاحت مناطق كردستان عام 1991 والتي وصلت بلهيبها الى حدود جبل حمرين،وإنتهت بتحرير جميع مناطق كردستان لأول مرة من الحكم الدكتاتوري الصدامي، وكانت تلك الإنتفاضة التي إندلعت نتيجة تصاعد الغضب الشعبي على السلطة الدكتاتورية ونجحت عبر الدعم والإلتفاف الشعبي حولها، قد يوحي إسٍتذكارها اليوم بمدى قدرة الشعب على تغيير وتحريك الوضع السياسي الراكد في الإقليم، ففي تلك الظروف من عام 1991 كانت الجماهير تواجه السلطة بنضالها المسلح للخلاص من حكم الدكتاتورية، واليوم وفي ظل الديمقراطية النسبية وحرية الإنتخاب المكفول بالدستور، من الممكن لهذه الجماهير أن تنتفض ديمقراطيا لتسترجع زمام المبادرة بيدها مرة أخرى عبر صناديق الإقتراع،وتقود عملية التغيير المنشود عبر إستخدام الورقة الإنتخابية،وهذا حقه الدستوري المشروع..

شيرزاد شيخاني

[email protected]