المبادئ الثانوية التي أرسل من أجلها الأنبياء بما فيهم أولي العزم تتفرع جميعها على الأساس الذي يكفل للإنسان السعادة الأبدية ويكون ملتقى تلك الفروع في توحيد الله تعالى، فالأصل في الدعوة يتلخص في نبذ جميع العبادات المؤدية إلى الطرق الجائرة عن الإستقامة التي أمر الله تعالى بها على لسان رسله، ولذلك نجد أن الناس قد إنقسموا إلى قسمين فمنهم من شقى بسبب الرسالة ومنهم من سعد بها علماً أن الشقاء لم يكن إبتداءً وإنما هو نتيجة عدم القبول بالتكاليف التي بينها الله تعالى على لسان الرسل.
ولذلك نجد أن الأنبياء جميعهم يدعون إلى نبذ جميع العبادات غير الشرعية والإتجاه إلى عبادة الله تعالى،
كما قال جل شأنه: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) الأعراف 59. وكذلك قال تعالى على لسان هود: (ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون) الأعراف 65. وكذا في صالح مع ثمود وشعيب مع مدين.
وبما مر يظهر أن الرسالة التي جاء بها الأنبياء على إختلاف العصور والمراحل يغلب عليها طابع التوحيد بغض النظر عن الإلتزامات الأخرى التي تأخذ الجانب الثانوي للأصل الذي بني عليه التشريع.
وهذا التشريع لايمكن أن يحقق أغراضه مالم تنبذ على ضوءه جميع العبادات ويجتنب الطاغوت كما قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) النحل 36.
وهذا هو المؤشر الذي يقود الإنسان إلى الطريق القاصد إلى السعادة الأبدية التي بينها الحق تبارك وتعالى، أما الشق الثاني الذي يريد الإنفصال واتباع طريق الأشواك لابد أن يكون ملاكه قد إنسل من الطرق والسبل الجائرة التي أراد الرسل دفع الناس عنها بواسطة الوسائل التي عملوا عليها، وهذه هي الحكمة الإلهية في هذه الدعوة التي أشار إليها تعالى بقوله: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) النحل 9. وفي الآية عدة مباحث أعرض لها على النحو التالي:
المبحث الأول: قال الزمخشري في الكشاف: المراد بالسبيل: الجنس، ولذلك أضاف إليها القصد وقال: [ومنها جائر] والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد، يقال سبيل قصد وقاصد، أي مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لايعدل عنه، ومعنى قوله: [وعلى الله قصد السبيل] أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه، كقوله: (إن علينا للهدى) الليل 12. فإن قلت: لم غير أسلوب الكلام في قوله: [ومنها جائر]؟ قلت: ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لايجوز، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل: [وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها] أو [وعليه الجائر]. إنتهى. والإعتزال ظاهر عليه في مهاجمة الأشاعرة.
المبحث الثاني: قال الفخر الرازي: في الآية حذف، والتقدير: [وعلى الله بيان قصد السبيل] ثم قال: [ومنها جائر] أي عادل مائل، ومعنى الجور في اللغة: الميل عن الحق، والكناية في قوله: [ومنها جائر] تعود على السبيل، وهي مؤنثة في لغة الحجاز، يعني ومن السبيل ماهو جائر غير قاصد للحق وهو أنواع الكفر والضلال، وأضاف الرازي في مسألة أخرى على لسان المعتزلة قوله: دلت الآية على أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار لأنه تعالى قال: [وعلى الله قصد السبيل] وكلمة (على) للوجوب قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت) آل عمران 97. ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لايضل أحداً ولايغويه ولايصده عنه، وذلك لأنه تعالى لو كان فاعلاً للضلال لقال: [وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها] أو قال: [وعليه الجائر] فلما لم يقل كذلك بل قال في قصد السبيل إنه عليه، ولم يقل في جور السبيل إنه عليه بل قال: [ومنها جائر] دل على أنه تعالى لايضل عن الدين أحداً. ويضيف الرازي رداً على المعتزلة ويقرر الإجابة بقوله: أجاب أصحابنا: أن المراد على الله بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح، فإما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال فذلك غير واجب، فهذا هو المراد والله أعلم. إنتهى.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: السبيل هنا مفرد اللفظ وآل فيه للعهد وهي سبيل الشرع وليست للجنس، إذ لو كانت له لم يكن منها جائر، والمعنى: وعلى الله تبيين طريق الهدى، وذلك بنصب الأدلة وبعثة الرسل، ثم ينقل عن إبن عطية قوله: ويحتمل أن يعود [منها] على سبيل الشرع، وتكون [من] للتبعيض، والمراد: فرق الضلالة من أمة محمد (ص) كأنه قال: ومن بنيات الطرق في هذه السبيل، ومن شعبها. ثم ينسب أبو حيان إلى قيل قوله: آل في السبيل للجنس وانقسمت إلى مصدر وهو طريق الحق، وإلى جائر وهو الطريق الباطل، والجائر العادل عن الإستقامة والهداية كما في قول طرفة:
عدولية أومن سفين ابن يامن******يجور بها الملاح طوراً ويهتدي
أو كما قال آخر:
ومن الطريقة جائر وهدى******قصد السبيل ومنه ذو دخل. إنتهى
أما الطبرسي في مجمع البيان فيقول: [وعلى الله قصد السبيل] أي بيان قصد السبيل عن إبن عباس ومعناه واجب على الله في عدله بيان الطريق المستقيم وهو بيان الهدى من الضلال والحلال من الحرام ليتبع الهدى والحلال ويجتنب الضلال والحرام وهذا مثل قوله: [إن علينا للهدى]. إنتهى.
وللطباطبائي رأي آخر حيث يقول في الميزان: إن من نعم الله تعالى التي من بها على عباده أن أوجب على نفسه لهم سبيلاً قاصداً يوصلهم إلى سعادة حياتهم فجعله لهم وهداهم إليه، وقد نسب سبحانه قصد السبيل إلى نفسه دون السبيل الجائر لأن سبيل الضلال ليس سبيلاً مجعولاً له وفي عرض الهدى وإنما هو الخروج عن السبيل وعدم التلبس بسلوكه فليس بسبيل حقيقة وإنما هو عدم السبيل. وكيف كان فالآية ظاهرة في نسبة قصد السبيل إليه تعالى وترك نسبة السبيل الجائر المؤدي بسبب المقابلة إلى نفي نسبته إليه تعالى، وإذا كان من الممكن أن يتوهم أن لازم جعله قصد السبيل أن يكون مكفوراً في نعمته مغلوباً في تدبيره وربوبيته حيث جعل السبيل ولم يتركه الأكثرون وهدى إليه ولم يهتد به المدعوون دفعه بقوله تعالى: [ولو شاء لهداكم أجمعين] أي إن عدم إهتداء الجميع ليس لعجز منه سبحانه عن ذلك أو غلبة من هؤلاء المتخلفين وظهورهم عليه بل لأنه تعالى لم يشأ ذلك ولو شاء لم يسعهم إلا أن يهتدوا جميعاً فهو القاهر الغالب على كل حال. إنتهى.
أقول: الآية المبحوث عنها وقعت بعد قوله: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لاتعلمون) النحل 8. وكأن في الآيتين نوع من الطرد بين تعداد النعم الناتجة عن وسائط النقل التي ذكرها تعالى متمثلة في الخيل والبغال والحمير التي يهتدي بها الإنسان إلى الطرق التي يسلكها، وهذه الطرق على حقيقتها الحسية لابد أن تكون سالكة وقاصدة إلى البغية التي يطلبها الراكب دون التخلف عن إختياره، ومن هنا إنتقل تعالى إلى الطرق المعنوية التي تؤمن لسالكها البغية التي تؤدي به إلى السعادة الأبدية فلذلك قال جل شأنه: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) النحل 9. ثم إستأنف تعداد النعم المادية التي من بها على الإنسان، فكأن الآية المبحوث عنها أشبه بالجملة الإعتراضية بين تعداد النعم المادية، فهي نظير قوله: (يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سؤاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير) الأعراف 26. فجمع تعالى في هذه الآية بين اللباس المادي واللباس المعنوي، فهكذا في موضوع البحث فإن الله تعالى قد جمع بين الطرق المادية والطرق المعنوية التي تؤدي بسالكها إما إلى قصد السبيل وإما إلى الجور عنه.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]
التعليقات