هناك إتفاق عفوي بين شرائح العروبيين، سواء كانوا كتّاباً أو عسكريين، أو شعراء، وفي جحر عنصرية متخلفة متراكمة عبر الأزمان، تجاه الكُرد وغيرهم من القوميات والأمم في المعمورة.


هذا الإتفاق العفوي يتضمن هيستيريا الرفض لـ (الآخر)، بشق الجيوب، والسخرية النابعة من قعر الأحقاد وعقدة النقص، وتهديد أجوف فارغ المحتوى، ومن ثم شئ من البكاء والتحسر على ما آلت إليه أمور الزمان، لإقناع النفس بزيفِ وهمٍ يَخالُ لمصابه ماضياً زاهراً ولّى لطارئٍ سيزولُ حالَما يتعافى جسد quot;الأمةquot; العليل: كوضع العراق وطارئ الهيمنة الكُردية!


لكن المشهد ليس مقصوراً على إنفعال بدائي، إنه مدى واسع ومفتوح، يتشارك فيه سياسييون، إعلامييون، عسكرييون ومثقفون.


إمتحانُ جوهرِ هؤلاء وعلاقتهم الفعلية بماهياتهم، وبما يدّعون، ليس من واجبنا ولا من عملنا. لذا سنخوض معهم، مع ما هم عليه في المظهر.


عليّ أن اعترف سلفاً أنّ ذكر أسماء هؤلاء، وما سجلوه من مواقف عابرة، زادت من أكوام مواقفهم المتكدسة على الدوام، صعبٌ يبلغ مرتبة المستحيل. والدليل على ذلك، وفي ما يتعلق بالكُرد على الخصوص في موضوعنا، تجد الأكراد يحتفلون فوراً إذا شذّ أحد العرب عن القاعدة العامة، وكتب كُليماتٍ في الدفاع عنهم وعن حقوقهم المغموطة!


وأحياناً يكون هذا التفرد quot;الشذوذquot; ـ بحسب تعبير العروبيين الناقمين على من رفع صوتاً بصيصاً للدفاع عن الكُرد ـ موقفاً عابراً، يزول بزوال أسبابه!


وخيرٌ مثال على ذلك، التناقضات التي بدرت من المقالات الفورية التقريرية للصحافي المصري فهمي هويدي، أثناء كانت لمصر خصوماتٌ عالقة مع العراق، فكتب مذكّراً بمحنة الأكراد، فعاد بُعيد سقوط نظام البعث يتحدث عن quot;الإنفصاليةquot; و quot;الشعوبيةquot; وquot;الإستكراد: تكريد كركوكquot; وما إلى ذلك من الألحان غير المتغيرة، كثبات أهرام مصر!


الحديث عن الكُرد وكُردستان، لدى عموم العرب، بإستثناء القلّة القليلة، هو حديث عن quot;شعبٍ معاديquot; و quot;الجيب الإنفصالي أو العميلquot; و quot;عملاء أعداء العربquot; و quot;الطارئون على جغرافية وتأريخ العربquot; و quot;الدخلاءquot; و الكثير من الهذيانات والخزعبلات الأخرى!


يرافق هذه التعابير، والأصوات والألحان التهديد والوعيد (ما ظهر منه وما بطن) للأكراد، حال quot;خروج الإحتلالquot;، وأن quot;كُردستان غير ذات منفذ إلى البحرquot;، و quot;أن تركيا وإيران وسوريا ستكون عوناً لنا للقضاء على الجيب العميلquot;!
وعليه فليستعد الأكراد إذن، ليوم قيامة العروبيين، قبل قيامة الخلائق أمام رب العالمين!


وجملة المشاكل والفوضى المنطلقة من قبل العروبيين تجاه الكُرد، ليس مردّها إلى النزاع على كركوك، أو مطالبة الأكراد بالمناطق الأخرى في quot;العراق الأزليquot;: ملك العروبة والجزء العزيز في الوطن العربي!


ففي سوريا لا توجد كركوك، وليس هناك من نزاع على مدينة نفطية. القضية هناك محسومة سلفاً. فمناطق الأكراد منذ زمن بعيد وقعت تحت حصاد التعريب، وشريط العروبة، الذي جرّد الأكراد من أموالهم، وأراضيهم ومزارعهم وأسمائهم ولغتهم وهويتهم!


وبلغ الأمر بالعروبيين (الذين ينددون بإسرائيل بكرة وأصيلا)، أن يجردوا ثلاثمائة ألف كُردي حتى من الجنسية السورية العروبية، ليتضاعف العدد إلى الضعفين وأكثر من ثلاثمائة ألف quot;أجنبيquot; إلى ما يقارب من (مليون) مكتوم، من أبناء الأجانب أي الأكراد!!


وليس ذلك فحسب، وإنما سبّبت الهوية الكُردية (لم يخلق الأكراد أنفسهم أكرادا)، جلب الموت إليهم وهم يخدمون علم الدولة السورية. فقد قُتل ما لا يقلّ عن خمسة عشر عسكرياً كُردياً، في quot;حوادث الإنتحارquot; حسب زعم الحكومة السورية العروبية!

مقالاتُ تلو مقالات، قصائدٌ تعقب قصائدا، كتاباتٌ و تحليلاتٌ وبرامج تلفزيونية وإخبارية، محورها الوحيد رسم الأكراد كشرّ مطلق، وجانب معادي لعروبة مزعومة تثير ـ ربما ـ حتى سخرية ميشيل عفلق وشفقته!


في الآونة الأخيرة أتحفنا العسكري البعثي سابقاً، وفيق السامرائي، والذي أدار زمناً إدارة الإستخبارات العسكرية، والتي بنيت بجماجم ودماء أبناء (العراق العروبي)، بمقالاتٍ بدت لاهثة، لكثرة ما استنفدت من الأنفاس، لإطلاق صوت ما في بوق العروبة المهترئ المكسور!


وما يجمع هذا العسكري، وذاك الكاتب، وذاك الشاعر هو تلك الإنفعالات البدائية، وخلطة المشاعر المتناقضة، التي سويّة تتشبث بأرداء هذا الزمن المتحول، في تطور عظيم، لا مجال له للإلتفات إلى من تخلّف عن الركب، فيغزل الحسرة بالشعر والربابة والغثاء من المقال!


فالسامرائي حاله حال زميله الشاعر والصحافي، يهدد الأكراد بطوق جغرافي مغلق حولهم، يرفضهم، ثم يعود ويربط بينهم وبين إيران الصفوية، التي تريد أن تسحق العروبة في عقر دارها، متناسياً أن الجغرافيات المغلقة صارت من قاموس الماضي، الذي قضت عليه العولمة والقرية الكونية، التي تنقل للعالم مشاهد البؤس في زوايا دارفور المنسية بلحظات!


ويعطينا الرجل (مشكوراً)، هذه الكلمات تحت عنوان التحليل وقراءة العالم المعاصر، ومعرفة الإستراتيجيات المطروحة!
والجميع يتفقون quot;أن الإحتلال سيغادرquot; (ليس هناك إحتلال في السودان ورئيسه من الخوف يرقص)، لذا quot;فعلى الأكراد الإستعداد لعقوبات العروبة المهدِدةquot;، اللاغطة بالصراخ والعويل!


وكان من الأولى، كما يوافق العرب أيضاً، أن يكون التهديد المبطن والعلني للعروبيين بإتجاه إسرائيل التي تفتك quot;بعروس عروبتهم في القدس وفي غزةquot;، وفق تعبير شاعر عراقي، بدل إطلاق مفرقعات الحقد والضغينة تجاه كُردستان!


وكأنه لقرن كامل لم تكن مخالب وأنياب العروبة، منغرسة في جسد كُردستان، وبدعم دولي مباشر، حتى عكست الآية فتكسرت المخالب والأنياب بقبضة غضب ذلك الجسد، فردّت قطيع العدوان على أعقابه منذ عام 1991!


أما حكاية الإحتلال ومطاياه الحقيقية، فسردٌ طويل، خضنا فيه بهدوء وموضوعية، في مقالات عديدة لا سيما في (كيف تحول الأكراد من حماة الشرق الى متحالفين مع القوى الخارجية ضده؟*)، ونشر على quot;إيلافquot;.


ففي بداية القرن العشرين، حيث إستأبط العرب جناح الإحتلال الفرنسي والإنكليزي، فقامت لهم كيانات مزيفة (منها العراق طبعاً)، إنطلقت في عموم كُردستان ثورات ثقافية وعسكرية ضد هذا الإحتلال الخارجي بقيادة بديع الزمان سعيد النورسي، والشيخ سعيد بيران في شمال كُردستان (تركيا)، وإبراهيم هنانو في غرب كُردستان (سوريا)، والشيخ محمود الحفيد في جنوب كُردستان (العراق)، وسمكو شكاك في شرق كُردستان (إيران)!


في تلك الأيام كانت العروبية الصاعدة، المنتفخة بفوهة الإحتلال الخارجي، تصف هذه الثورات الكُردية بالتخلف والرجعية والعصيان!


لذلك فقد تقدمت جحافل الجيش العراقي quot;الباسلquot; قيادة وقوات الإحتلال الإنكليزي، لسحق الشيخ محمود الحفيد وثورته.
والإحتلال الإنكليزي والفرنسي نفسه أمدّ تركيا الطورانية بالسلاح والعتاد والدعم الجوي، وعبر سكك القطار، لسحق ثورة الشيخ سعيد بيران، وثورة إحسان نوري باشا ضد الإحتلال الخارجي ومشاريعه التقسيمية!


والإنكليز أنفسهم شاركوا بالعون والعُدّة مع الأتراك مرة، ومع الإيرانيين مرة للقضاء على سمكو وثورته.
وفي كلّ ذلك، وقفت العروبة تصفق وتهلل لتدمير كُردستان!


أما في نهاية القرن العشرين، وفي العراق ـ على سبيل المثال ـ قام إسلامييون أكراد بالعمل المسلح ضد نظام البعث (الذي عطل الشريعة الإسلامية لعقود). فما كان من العرب السنّة إلا الوقوف ضد هؤلاء الأكراد، ونعتهم بأوصاف شتى: عملاء، بغاة، عصاة، quot;خوارجquot; عن طاعة الحاكم المسلم (وإن ضرب ظهرك بالسياط وفق حديث أموي!)!


وقبل سقوط نظام البعث خرج أنصار الإسلام في كُردستان، يستعدون لمقاومة الأميركان، وفعلوا، كما أسسوا أنصار السنّة التي زعمت في جناحها العروبي أنها تجاهد في سبيل إقامة شرع الله، الذي كان معطلاً طيلة أيام البعث ومن سبقهم، ولم يتفوه أهل السنّة والجماعة في العراق بحشوة واحدة، لإسترجاع ذلك الشرع الغائب!


رغم ذلك، ولمن يتجول في الإعلام العروبي، لا يبرح حتى يجد اللافتات والشعارات الزائفة التي تنال من الأكراد، وتصفهم بالعملاء للإحتلال!

وجوهر المسألة ليست العمالة للإحتلال، أو موالاته. فالأنظمة العراقية المتعاقبة كانت كلّها موزعة الولاء والخدمة للأنظمة الخارجية وعلى الأغلب أميركا، ومن ثم روسيا. ولم تكن العروبة (التي تلبس لبوس المقاومة والجهاد مرة بسم الإسلام، والحداثة والعلمانية بسم الولاء للخارج في تناقض بائس) تشكو من علّة في تلك الأيام الخوالي!


ولو ردت أميركا اليوم، قرص الحكم لهؤلاء العروبيين، فلن تجد في باحاتهم من يطلق رصاصة واحدة، تجاه الإحتلال الخارجي المزعوم!


والأكراد الذين لم يجنوا من مقاومتهم للإنكليز والفرنسيين، في بداية القرن العشرين، سوى النكبات والمآسي والويلات، ليسوا أغبياء أن يستجدوا عروبة معطلة، لبناء العلاقة مع العالم المعاصر، في هذا الزمن المتطور حقاً!


وإن كان الأكراد أنفسهم يعانون من فساد سلطة منحطة بسم القومية الكُردية، فدورة الزمان لن تستقر على حال، ولا يدوم على حال لها شأن.


ولكن في المحصلة فإن الأكراد، يتجهون نحو المزيد من بناء العلاقة مع العالم الخارجي، للمزيد من تثبيت حقوقهم، ولن يعيق هذا الإندفاع الرشيد، المُزق التي تلحن الأصوات على أنغام مراعي الصحراء في كليمات شويعرة، أو مقالٍ عسكري، أو تقرير صحافي!

علي سيريني

[email protected]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* لقراءة المقال أنظر إن شئت الرابط الآتي:ـ
http://www.elaph.com/ElaphWeb/AsdaElaph/2007/9/266042.htm