أكتب هذه المقالة من أجل الأشارة الى الفرق الشاسع ما بين الاحلام والشعارات المثالية التي تنادي بالتطور والتقدم والعقلانية والحداثة... وما بين الواقع ودون مراعاة حاجات المجتمع الى التخلف (وفوائده النفسية) كأحد الحلول اللاشعورية التي يلجأ لها الانسان للتخلص من أزماته.

في الاسبوع الماضي أخبرتني أمي انها مشت ثلاثة أيام من مدينة كربلاء الى مدينة النجف لزيارة قبر الامام علي بن ابي طالب من اجل الدعاء لي بالعودة الى العراق، والنجف تبعد حوالي 80 كيلو مترا عن بيتنا، وأمي تبلغ من العمر 68 ستين عاما والظاهر انها ذهبت مع مجموعة من النساء وكن يمشين بالنهار بشكل بطيء متقطع ويسترحن في دور الأستراحة المجانية المنصوبة على طول الطريق و فيها الطعام وأماكن للنوم ايضا.

طبعاً امام مشاعر أمي هذه لاأستطيع مناقشتها أبداً وتسقط كافة قناعاتي الفكرية والدينية وأعتراضاتي واحلامي برؤية وطني العراق وطنا مزدهرا بالتطور والحداثة، فأنت امام مشهد انساني خارق لاتفعله ألا الأم مدفوعة بمشاعر الأمومة الخرافية، أنه لأمر مذهل أن يفكر بك الأخرون بينما أنت تعيش بعيدا عنهم خلف البحار ولم تقدم لهم شيئا يذكر، ياإلهي ماأعظم العواطف الانسانية بين البشر !

سأحاول تفسير سلوك أمي هذا أعتماداً على كلام الدكتور مصطفى حجازي في كتابه حول سايكولوجية الانسان المقهور، فأمي أمرأة أمية لاتقرأ ولاتكتب وأنجبت من والدي 14 طفل وطفلة وأنا كبير الذكور لديها، وهي مفجوعة بسفري الطويل خارج العراق اذ أنها لاتستطيع تخيل انفصال أحد أبناءها عنها ومغادرة البيت، فهي أمراة بسيطة لم تحقق في الدنيا أي شيء من ذاتها ومازالت لغاية هذه اللحظة تعيش عيشة بسيطة فقيرة.

والانسان المقهور الذي لم يحقق شيئا في الحياة جهازه النفسي وتحديدا منطقة اللاشعور يبحث له عن حلول ومعالجات لغرض احداث التوازن النفسي في داخله وتخليصه من مشاعر الأحباط والخيبة والشعور بالقهر... فتراها يلجأ الى الأنتماء والانضمام الى قوة ورمز يحقق له ما فشله هو في تحقيقه أو ما يريد ويتمنى تحقيقه، فيندفع بقوة خارقة الى الذوبان والتماهي في شخصية معينة كأن تكون رياضية أو فنية أو سياسية أو دينية، أو تجده يتعصب الى عشيرته وقوميته وطائفته.

فعملية الانتماء والذوبان التي يقوم بها الشخص المقهور تشعره ان صفات هذا الرياضي او الفنان او السياسي او الحزب اوالعشيرة والقومية والطائفة.. صفات البطولة والقوة هذه سيشعر انها أصبحت صفاته هو شخصيا وتجده ينتشي ويفخر ويكون في غاية الاندفاع والهياج في التعبير عن مشاعره أزاء رمزه المقدس.

وأمي نفسيا بحاجة للأنتماء الى بطل هائل مثل الامام علي بن ابي طالب بكل ما يمثله من رمزية وقداسة قي مخيلتها وما يحمله من صفات الشجاعة والعلم والتقوى، وانا على يقين ان لامام علي لو خرج بنفسه الى أمي وطلب منها عدم المشي لرفضت على الفور وأصرت على مواصلة السير على أقدامها، فهي من الناحية السايكولوجية اللاشعورية ليست معنية بشخصية الامام علي، والموضوع ليس له علاقة بالدين، وانما توجد حاجة نفسية تدفعها، وتدفع ملايين البشر الى التعلق بالرموز الدينية وغيرها لتحقيق هدف نفسي يوفر لهم الراحة ويخدر في دواخلهم مشاعر الألم من الخيبة والفشل في هذه الحياة.

والشيء الجدير بالذكر ان أمي لاتفكر بالذهاب الى الحج وزيارة الكعبة التي هي دينيا تعتبر أقدس من قبر الامام علي، والسبب لأن رمزية الكعبة.. رمزية مجردة وليست مشخصة ومرتبطة بشخص مادي كالامام علي تتخيله مخيلة محبيه بأعظم الصفات، ففكرة الله فكرة عقلية مجردة الناس البسطاء لايستطيعون هضمها والإيمان بها مالم يصاحبها وسائط بشرية كالانبياء والأئمة ورجال الدين والطقوس المختلفة.

وخلاصة الكلام.. ان الاصلاح الدين والفكري والسياسي والاجتماعي... لاينفع معه التوعية والحوارات العقلانية واصدار الكتب وتسخير وسائل الاعلام من أجله، وانما مشاريع الأصلاح يجب ان تبدأ في أصلاح النفوس من عصابها وأزماتها النفسية، وتقوية الشعور بالذات والأعتداد بها وتنمية حس الاستقلال فيها وفصلها عن التعصب التعصب القومي والطائفي والايديولوجي وغيرها من أنواع التعصب، فالثقافة والعقلانية لاتصنع مجتمعات متطورة مالم يتم معالجة سبب المشكلة وهو الواقع النفسي للانسان وتعديله وتجهيزه لإستقبال مفاهيم المنطق والعقل والحداثة والقيم الانسانية الجميلة والأرتباط بالله تعالى في علاقة قائمة على الفهم والادراك والحب.

خضير طاهر


[email protected]