قولُ المُفكر مارك توين quot; من السهولة أن تجعل الناس يصدقون كذبة، ومن الصعوبة أزالة تأثيرها عليهم quot; يمثلُ في رأيي طيبعة الخلاف الحاد في الشارع العربي بالنسبة لأثبات نظرية المؤامرة وتمييزها عن فصول حقيقية للمؤامرة.


وعند يتسائل مثقفونا ومفكرونا وأدباءنا : هل أنتهى عصر الهيمنة والمؤامرة الصهيونية الأنجلوسكسونية على العالم العربي؟ فالجواب البسيط هو لا، لم ينتهِ. فالعصر الجديد تختلط فيه المؤامرة الحقيقية بوهم المؤامرة ويُشارك فيها لاعبون دولييون وأحزاب سياسية وهيئات مالية في عالم أصبح في غاية التعقيد والغرابة. تطرقَ أغلبُ المؤرخين الذين كتبوا عن سقوط الحضارة، الى الأمم التي سادتها الحروب الوباء الجفاف المجاعة الكوارث الطبيعية والأزمات الأقتصادية، ونادراً ما أشاروا الى دور المؤامرة في سقوط حضارة أمة.


تعمّرُ نظرية المؤامرة وتدوم وفق ثقافة المجتمع والقوى المُحرضة الذي تنتشر فيه. فقد تعيش فترة زمنية أطول في مجتع ما مما تعيشه في مجتمع أخر. عناصرعديدة تدخل في الجدل (القديم منه والحديث ) القائم حول نظرية المؤامرة وتَقَبُل أو هياج الناس والأحزاب بخصوصها. ولتوخي الدقة، لابد من التأكيد بأن كلمة quot; نظرية quot; لاتنطبق على مايُعرف عن النظريات التحليلية البحثية العلمية، كنظرية دارون مثلاً، ولكن العبارة تُستَخدَم مجازاً لشيوعها الوصفي. والنقطة الأخرى التي ينبغي التأكيد عليها هي أن هذه النظرية تحتاج الى التمعن والأنتباه والدراسة ألأجتماعية، لما قد تجلبه وتسببه من كوارث دينية وسياسية تنخرُ وتُحل المجتمع الواحد وتُمزقه الى طوائف متقاتلة.


ماجلب أنتباهي تاريخياً الى نظرية المؤامرة هو ماتطرق اليه مجموعة من الأفاضل بالكتابة والحديث المتلفز عن الصحابة الكرام والخلفاء الراشدين بعد وفاة الرسول الأعظم محمد (ص) والفتنة التي تعرض لها المسلمون. وهي في الأساس، وجهات نظر وتفسير لِخلاف، يُفسَّره كل فريق من وجهة نظره، كما يُفسر البعض، معركة الجَمل، غياب الأمام المهدي، أو رجوع السيد المسيح ويوم القيامة. ويشارك علماء الفقه والشريعة والمفكرون المسلمون والمسيحيون في النظرية بوعي منهم أو بدون وعي في أبداء أراء وخُلاصات، وهو موضوع أُحاول أن أتجنبه أحتراماً لحساسيته الدينية الفائفة وجهلي التام عنه. ألأمر الذي يدعوني للتوجه الى التاريخ المعاصر لهذه الظاهرة.


عاش العراق نظرية المؤامرة منذ موت الملك غازي عند أصطدام سيارته بشجرة في قصر الزهور في نيسان أبريل 1939. وقد تم الترويج لنظرية المؤامرة من مصادر مختلفة بأن الملك الهاشمي الأصل كان قد قُتِل وكانت فصول موته مرتّبة ومحبوكة،لأنهُ كان على وشك طرد البريطانيين من البلاد، أو تمّ قتله لخلاف مع نوري السعيد ومابيته الأخير له مكيدة بسبب أفكار الملك التحررية، كما وُصفَ بأنه كان بصدد أرسال قوات عسكرية لأحتلال الكويت بالقوة. وأستمرتْ نظريات المؤامرة مع تاريخ الوزارات العراقية المتعاقبة بشكل أو بأخر، منذ ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، ثم (معاهدة صالح جبر، أرتباطات نوري السعيد وحلف بغداد، موت عبد السلام عارف، وعدنان خير الله في الجو، ثم نظريات المؤامرة التي أستحوذتْ على أفكار الرئيس صدام و أسرعتْ من ظنونه وشكوكه الشخصية بأن أعضاء من داخل الحزب السياسي الحاكم وأعضاء في القيادة القطرية العراقية يتأمرون سراً ضده، فبادر بأعدامهم بالصورة البشعة التي يتذكرها العراقيون بعد 6 أيام من تسلقه السلطة في 16 تموز يوليو عام 1979. وأستمر الأعلان عن المؤامرات الداخلية والخارجية الى عام 2003 وبعده.


الزعيم الراحل عبد الناصر عاشَ نظرية المؤامرة منذ الخمسينات وصرح بها وأدخلها في مُخيلة أنصاره وتيار كبير من المثقفين، فشملت خطورة المؤامرة (ألأخوان المسلمين، نوري السعيد، بورقيبة، السعودية ).


وفي المنتديات السياسية العربية والعراقية الرفيعة تسري نظرية المؤمرة كسريان الدم في الجسم، ويأخذ الجدل طابعاً لاذعاً حتى في داخل المجالس النيابية العربية والقوى المتألفة فيما بينها ( القضية الفلسطينية، أتفاقيات السلام مع أسرائيل، ألأتفاقية العسكرية بين العراق وأمريكا ). التصريحات المُثيرة للسناتور الأمريكي جوزف بايدن (نائب الرئيس الأمريكي الآن) بشأن العراق، دخلتْ عنوة في تصنيف المؤامرة لأقتراحه بالحاجة الى تقسيم العراق الى ثلاثة كيانات بسبب تدهور الحالة الأمنية في حينها. ولعل أبرز مثال يراود مُخيلة المثقفين في العالم العربي اليوم وتدور حوله نظرية المؤامرة هي أحالة الرئيس السوداني عمر البشير الى محكمة دولية وفق أدعاء أرتكابه جرائم غير أنسانية في دارفور؟ وشملت نظرية المؤامرة كذلك أحداث 11 أيلول سبتمبر عام 2001 التي أستُهدفتْ فيها المصالح الحكومية والتجارية في الولايات المتحدة. فهناك شريحة كبيرة من الرأي العام الأمريكي تؤمن بأنها كانت مؤامرة أمريكية دبرتها بعض الأوساط الحكومية الأمريكية لتغيير الخارطة السياسية في بعض بلدان العالم بغرض أحكام السيطرة على مقدراته.


أن العالم يعيش هوج Myth الخرافات والحقائق في أسوأ صورها ولاتُعرف الدوافع النفسية لأسبابها. وأصبح التمييز بين مكيدة التأمر الحقيقية وبين نظرية المؤامرة من الصعوبة بمكان لأنجراف الكثير من العاملين في السياسة والصحافة في تيارات تأييد أدعاءات وأسنادها وتعميمها وأيصالها الى العالم أو نقضها جملة وتفصيلاً دون دلائل.


المثل الذي يقول quot; لاتجادل الأحمق،لأنه ليس في أستطاعة الناس معرفة الفرق بينكَ وبينه quot;، يدخل في الخلاف على سيطرة الأقلية الحاكمة أو الأكثرية المحتكرة للسلطة في بلد ما. وله من الطرفين، من يبرره ويسوق له الأصحية القانونية والأخلاقية وفق نظرية المؤامرة. وقد يتعذر كبح جماح الجماهير عند وقوع خلاف عقائدي أو روحي يتعلق بتفضيل سيطرة سلطة على أخرى وقد يستفحل الخلاف ليطال المجتمع نتيجة أنقسامات توارثها الأبناء من الأباء في مسائل سياسية ودينية حساسة، بعضها حقيقي والبعض الأخر عاطفي.


تتبلور نظرية المؤامرة نتيجة حدث أو مجموعة أحداث وأزمات أو خلافات حادة بين مشاركين يراد لها غرض وغاية. وتخضع كما أظن الى تكهنات وأفتراضات قد تكون كاملة الصحة أو صحيحة في أجزاء منها، أو قد تكون مُغرِضة، كمؤامرة الشركات البترولية العالمية وسيطرتها على الطاقة، أو التنبوء بقرب أستخدام قنبلة نووية ضد دولة. فكيف يُمكن التحقق من وجود مؤامرة؟


وتتضخم نظرية المؤامرة مع حضارة القرن الحادي والعشرين بسبب أن ألاحداث (خاصةً السياسية والقومية والدينية منها) لاتسير وفق منهجية أو خطط متفق عليها مُسبقاً. وتنتشر الأشاعات في شتات وجزيئات تُنشرُ وتقالُ عن تصرفات قادة و أفراد دون تفاصيل أوأدلة حسب الحاجة والغرض....... هذا الملك نَصّبتهُ بريطانيا والرئيس الأخر جاءت به أمريكا وخبير الأمم المتحدة صهيوني وذاك يمثّل مشروعاً أسرائيلياً أو تركياً، والحزب الأخر محسوب على أيران أو يُدفع له من دولة خليجية، لتعم على ضوء هذه النظرية الفوضى والنزاع الفكري والأخلاقي ليتجاوز في بعض الحالات الحدود الأدبية بتوجيه أتهامات العمالة والجاسوسية. والتاريخ الحديث مليئ بأحداث تعليلية وتفسيرية يجدها مروجيها على أنها مؤامرة.


ومايتداوله العراقيون عن شراء بعض اليهود أراض في شمال العراق أو أحتلال أيران للعراق مع وجود قَدَم الأحتلال العسكري الأمريكي، ماهي أِلا أجزاء جديدة لفصول من نظرية المؤامرة تتداخل مع نظرية الأمن القومي لا أجد فيها أِلا غرض تعميق الكراهية والعداء. والسهولة في طرح نظرية المؤامرة من هذا الطراز وبهذه الطريقة، هي أنها لاتحتاج الى ختم رسمي لتصديقها ولاتحتاج الى أكثر من مصدر واحد موثوق أو مزيف لأنتشارها، كما أنها قد تخدم جهة معينة بتعميمها. ولعل أطرفها أو أسخفها ماتم ترويجه في الشارع العربي بأن الرئيس السابق صدام حسين كان عميلاً لوكالة المخابرات الأمريكية عندما كان يعيش في القاهرة.


أخذت نظرية المؤامرة دوراً أستخبارياً في أشعال الحرب بين العراق وأيران، فجاء التحريض للحرب بهدف أسترجاع أراض عراقية سلبها الشاه ونظام الخميني من العراق، لتأخذ لاحقاً مفهوماً أخر في أستمرارها لثمان سنين، بتأثر الرئيس العراقي وقيادات أيرانية بأجزاء من نظرية المؤامرة أستحوذتْ على تفكيرهم الشخصي مع عوامل أخرى شجعتْ عليها، كتحريض دول الخليج لصدام بأن هناك مؤامرة حقيقية تُحبَكُ خيوطها في أيران ضد العراق ودول الخليج.


ورغم كون نظريات المؤامرة هي الوحيدة التي لا تحتاح الى طرق ألإثبات والبحث والدلالة، أِلا أنها تجد قبولاً وألتهاماً شعبياً لها في المجتمعات المتخلفة والمتحضرة على السواء لوجود وسائل أعلامية وأجهزة مؤسسات حكومية ضخمة تصوغ الخبر وتدسُه لوكالات الأستخبارات في دول عديدة، ولم تقتصر النظرية في هيمنتها على الحياة السياسية فقط فالشركات التجارية والمالية تشارك وتتأثر بها في عالم يسوده الأحباط والتأزم الأقتصادي والجشع المالي، وتقوم بتغطية أجزاء مُختارة من خبر حقيقي أو زائف ويُغلف لجهة معينة ولينتشر بسرعة عند برمجته كنظرية كاملة.


ولربما الأقرب الى خيال القارئ العربي هي وجود أو عدم وجود أسلحة للدمار الشامل في العراق.
ونظرية المؤامرة رغم بؤسها عند التحليل ورغم سخافة وزيف مروجيها وجهلهم بنظم العالم الخارجي وعلاقات الدول، أِلا أن لها شعبيتها في الشارع وتكتسب جمهورها وتلعب أدواراً مؤثرة في مُخيلة الناس وصياغة أفكارهم السياسية والأجتماعية لأن العقل البشري لا يتصدى بما فيه الكفاية لنظرية المؤامرة وأنما يستخدمها لأغراض معينة. والواضح أن نظرية المؤامرة ستستمر في الوقوف على قدميها بعيوبها وصيغها، صامدة للزمن الطريقة التي تُقدَم للعرض ومن يستهلكها من الزبائن.


ضياء الحكيم

[email protected]

ملاحظة: لأسباب تتعلق بأصول النشر، يرجى عدم الأقتباس دون الرجوع الى الكاتب.