ظهور بعض من الظواهر المعاصرة للعالم إنعكس مباشرةً على نمط الحياة الثقافية للمجتمع الكردي أيضاً. وقد أصبحنا نعيش اليوم في عالم يخرق بسهولة، سيما من خلال العولمة الثقافية والإعلامية وتكنولوجيا الإتصالات والمعلومات، الحدود الثقافية التي ترسمها كل دولة لتُُمَيّز هويتها المحلية. إحدى تلك الظواهر التي تتفشى في عصر العولمة هي ظاهرة الإستهلاك Consuming.

هذه الظاهرة، أصبحت اليوم نوعاً من الثقافة التي تُدَغّدِغ الجوانب الغريزية للإنسان وعالم شكلياته ومظاهره، كما أنها تتجلى لنا أحياناً وكأنها، فعلاً، ثقافة مستبعدة لبعض القيم الإجتماعية النبيلة التي تحترم الإنسان كإنسان وليس كشيء آخر خاصة إذا ما سَلّمَنا مع بعض من الباحثين المعنيين والمختصين في حقل الأقتصاد والسوسيولوجيا بأن هذه الثقافة الجديدة الدخيلة والعصرية!هي، في وجه آخرمن وجوهها، ثقافة مُحَدِدة لقيمة الفرد الذي، وفقاً لمنطقها، لايساوي في النهاية، سوى ما يمتلكه من مال ومقتنيات مادية.


يذكر لنا أريك فروم (1900-1980) في كتابه (الإنسان بين الجوهر والمظهر، نمتلك أو نكون؟) حقيقة دامغة في هذا المضمار مفادها أنه حتى كينونة الإنسان في هذا العصر صارت متوقفة على القدرة الإمتلاكية والإقتنائية والمادية لهذا الأخير وتملكه لعالم الأشياء، والمقصود منها هنا مدى عبودية الإنسان للسوق والسلع المنتجة ومدى خضوعه للأيدولوجية الحديثة التي تفرضها الشركات الانتاجية الكبيرة على أغلب المجتمعات البشرية.


الفرض الأكثر إخافة في هذه الظاهرة، أي الإستهلاك، الذي يشترط قبولنا كإنسان هو أن نتفاعل بسرعة مع الموضات المنتجة والسلع المعروضة الواحدة تلو الأخرى، والأسوء من ذلك يتمثل في أن إرادة هذا الفرض لاتكمن في أن نكون أحراراً في العلاقة التي نقيمها نحن كمستهلكين مع السلَع، وإنما الخضوع لمنطق الإستهلاك الذي في وجه من وجوهه، لايعني سوى أقتناء السلَع المنتوجة حديثاً وإستهلاك السلَع الماضية، أي روح الطلب أبداً على المعروض جديداً.


وقد تَسَرَبت اليوم هذه الظاهرة الثقافية- الأقتصادية الى داخل نمط من معالم حياتنا الثقافية نحن أيضا في أقليم كردستان العراقً، والدليل هو أن أزدهار مظاهر السوبرماركت والأسواق الحديثة وظهور الإنسان المُنفق بدرجة غير معهودة بات وجها من الوجوه الساطعة للعيان، أما وجهها الرهيب والمخيف فهو تأثر المجتمع بها وتقسيمه عمودياً على شرائح غنية وأخرى فقيرة، أي من يقدر على الشراء والأقتناء ومن لايقدر على ذلك. ولامراء من أن مع هذه الظاهرة يصبح الإنفاق الفائق، بوجه من وجوه، موضةً طاغيةً على النمط الجديد لحياتنا، وتضعف معها من جانب آخر، روح الإنتاجية الى أبعد حدود، وبذلك ينتهي سؤال الإنسان ومعناه الجديد عن مدى إنتاجيته، وانما يكون السؤال حصراً عن مدى إنفاقه وصرفه للمال وإقتناء السلع والمنتوجات.


من هنا إذا كان لدينا اليوم تفسيراً ما لبعض من مظاهر الإحتجاجات المجتمعية التي تعني في الوقت نفسه ردوداً على غياب العدالة الإجتماعية في المجتمع الكردستاني، فيمكن إرجاع ذلك دون شك الى شعور طبقات إجتماعية فقيرة ومحدودة الدخل بإستحالة التحرر من مظالم الإستهلاك. ولا غرابة في أن يستخدم الفيلسوف الفرنسي جان بودرياد (1929- 2007) في نتاجاته ودراساته مفهوما ملفتاً كمفهوم ديكتاتورية الإستهلاك، ذلك لأنه مقتنع بأنه إذا كان التحرر من الديكتاتوريات العسكرية صعباً في بعض الأحيان، فإن التحرر من ديكتاتورية الإستهلاك سيكون معقداً لأن المواطنين يشكلون الحلقة الأقوى فيها. وبهذا المعنى لامفر لنا نحن أيضاً من هذا النمط الجديد من الديكتاتورية النمطية النزعة للحياة إلا إذا قَبِلنا الإنغلاق بوجه التاريخ بمعطياته السلبية والإيجابية، ولامفر من الوقوع في مطب هذه الآفة العصرية التي تُغيّر معاني كينونة الإنسان وقيمه وثقافته الأصيلة التي كانت قائمة، بفعل الحضارة والأديان السماوية، على إحترام الأفراد والجماعات والنظر اليهم نظرة إنسانية، أي خالية من أي تمييز عنصري إجتماعي فما بالك من التمييز والتصنيف على أساس سؤال غير إنساني هو: من منا يمتلك و من لايمتلك.؟

عدالت عبـدالله

[email protected]