أثارت تصريحات رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني التي أدلاها لصحيفة quot;لوس أنجلوس تايمزquot; مؤخراً، ردود فعلٍ شعبيةٍ ورسميةٍ، عربيةٍ وأعجميةٍ كثيرةٍ.
التصريحات quot;الناريةquot; هذه، جاءت quot;تهديداًquot; مباشراً لعراق بغداد، ممثلاً برئيس حكومتها نوري المالكي، حيث أعلن فيها الرئيس بارزاني بأنه quot;سيعمل على فصل الإقليم عن العراق في حال تعديل الدستور العراقي بشكلٍ يقوي صلاحيات الحكومة المركزية، واستمرار ما اسماه بتسلط وانفراد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في اتخاذ القرارات داخل الحكومة العراقية متهمًا اياه بـالانجراف نحو الحكم الاستبدادي، والتقرب إلى القوميين العرب. واضاف ان المالكي يعمل على تطهير قوات الأمن العراقية من الأكراد، محذرًا من انه اذا استمر بما قال انها محاولاته لإجراء تعديلات على الدستور وتغيير روح عراق ما بعد صدام حسين فمن الممكن أن ينظر الأكراد في إعلان استقلالهم عن العراقquot;(إيلاف، 13.01.09).
هذا التصريح/ التهديد، يذكرنا بتصريحٍ quot;ناريٍّquot; آخر للبارزاني، أطلقه في 26 فبراير 2007، على قناة العربية، quot;هددّquot; به تركيا قائلاً: quot;اذا اعطى الاتراك الحق لانفسهم بالتدخل في شأن كركوك والتركمان فلنا الحق بالتدخل بشؤون شعب كردستان في تركياquot;.
وهو الأمر الذي أدى، تاريخئذٍ، إلى ردة فعل تركيةٍ عنيفة، جاءت على لسان رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان، قائلاً: quot;يجب أن يكون الاكراد العراقيون حريصين للغاية في انتقاء الكلمات... والا ستسحقهم هذه الكلمات.. بارزاني تجاوز حدوده ثانيةquot;.
وبغرض التخفيف من حدة التوتر بين أكراده وتركيا أردوغان، سارع الرئيس جلال طالباني إلى الإعتذار لتركيا، معرباً عن quot;أسفه لتلك التهديدات التي أطلقها الرئيس بارزاني ضد أنقرةquot;.
هذا التصريح الداخل في quot;العاطفيquot;، والخارج على السياسة، بإعتبارها quot;فناً للممكناتquot;، جلب للبارزاني، في حينه، ولكردستانه، الكثير من وجع الرأس، ووجع الموقف، ووجع الكلام الذي لا ينبت منه سوى الكلام، فضلاً عن وجع كردستان الموجوعة أصلاً.
تركيا قصفت كردستان ولا تزال.. تدخلت في كركوك، ولا تزال..وصنعت التركمان على مقاسها، ولا تزال..ولكن السياسة الممكنة، تركياً، التي quot;سمحتquot;، ولا تزال، لدولة كبيرة وقوية تملك ثاني أكبر جيش في الحلف الأطلسي، كتركيا، بأن تتدخل في كردستان(التي سيطاردها الأتراك حتى لو كانت كردستاناً على القمر، كما صرّحت تركيا الرسمية مراراً) وشئونها ودخولها وخروجها، كيفما تشاء، لاتسمح السياسة ذاتها، كردياً، بكل تأكيد، لquot;شبه دولةquot; ككردستان، بأن ترد على تركيا، بربعquot;تدخل مضادquot;، أو ربع quot;حرب مضادةquot;، كما أعلن الرئيس بارزاني، في quot;تصريحٍ مضادquot; له، لم يؤتِ سوى بصب المزيد من quot;النار المضادquot; في quot;زيت السياسة المضادةquot;.
اليوم، بعدحوالي سنتين من ذات الخطأ، أعاد البارزاني quot;التصريح الناريquot; الخطأ ذاته، محوّلاً وجهته من أنقرة إلى بغداد(ه)، التي يحكمها، ككردي، بquot;رئيسٍ للجمهورية، وquot;نائبٍ لرئيس الوزراءquot;، وquot;52 نائبٍquot;(من أصل 275) في البرلمان وخمسة حقائب وزارية، فضلاً عن مخصصاتٍ محاصصاتٍ أخرى، متفق عليها، بين أطراف المثلث الحاكم لكل العراق: الشيعي+السني+الكردي.
لا يُنكر أنّ المالكي يريد في الآونة الأخيرة، حكم العراق بدستورٍ quot;معدّلquot;، ينتصر فيه للمركز(بغداد) على الأقاليم. فهو يقولها علناً، أريد للعراق أن يكون quot;عراقاً قوياًquot;، quot;يحكمه المركز ولا تضعفه الفيدرالياتquot;. فالدولة الإتحادية، حسب المالكي quot;لا تعني حكومات فيدرالية قوية في ظل حكومة مركزية ضعيفة..بل على العكس..فالفيدراليات لن تستمر من دون دولة مركزية قويةquot;، على حد قوله.
المالكي، يعني بكلامه هذا، الأكراد وإقليمهم بالدرجة الأساس، وهو الأمر الذي أدى إلى بروز quot;قلق كرديquot; إزاء مسقبل كردستانهم، التي يريدون لها أن تكون quot;إقليماً عراقياً قوياًquot; في عراقٍ قوي، كما يصرّح القادة الكرد، في كل مناسبة.
هذا الخلاف المستمر على طبيعة العلاقة بين quot;المركز والأطرافquot;، هو الخلاف الأساس الذي حالَ، حتى الآن، دون وصول بغداد وهولير إلى حلولٍ مرضية وناجعة، للملفات الساخنة التي لا تزال عالقةً بين العراقَين المتنازعّين، أهمها قضية كركوك، وحصة الإقليم الكردي في الميزانية، وموزانة البيشمركة، والعقود النفطية المبرمة بين هولير وشركات أجنبية، والتي تعتبرها بغداد quot;غير دستوريةquot;.
إلى هنا، تبدو quot;قضية كردستانquot; كإقليم عراقي quot;داخليةquot;، يمكن الوصول إلى حلول quot;داخليةquot;، عبر quot;العقل الدخليquot;، لكل الداخل العالق، في عراق الداخل، بين العرب وأكرادهم الداخليين.
إلا أنّ تصريح البارزاني الأخير، حوّل وجهة القضية الكردية في العراق، من quot;قضية داخليةquot; إلى quot;قضية خارجيةquot;، ومن قضية كردستان كquot;إقليمquot; وquot;داخلquot; في العراق، إلى كردستان كقضية quot;دولة مستقلةquot;، quot;منفصلةquot; عن العراق، وquot;خارجةquot; عليها.
لا شك، أن الكرد(كل الكرد) كأمة يتجاوز تعدادها ال40 مليون نسمة، لها كل الحق في أن تقرر مصيرها بنفسها، وأن تستقل في كردستانٍ أو quot;كردستاناتٍ، تجمع جهاتهم المشتتة بين أربعة دول، هي سوريا، العراق، إيران وتركيا، وهو حقٌ أكثر من مشروع لشعبٍ مشروع، ومتفقٌ عليه، في الصكوك والمواثيق والمعاهدات الأممية، ذات الشأن.
ولكن الحق شيء، وإمكانية quot;تحقيقquot; هذا الحق شيءٌ آخر، تماماً.
في آخر رسالةٍ مفتوحةٍ له، قبل أسبوعين، بعثها بمناسبة الأول من الزمان الجديد، من السنتين الميلادية والهجرية، إلى quot;الأوساط العربية الشعبية والرسمية من أجل إزالة الإلتباسات في الفهم وتعزيز التفاهم المشتركquot;، تحدث البارزاني مطولاً عن quot;نعمةquot; الإتحاد الإختياري الفيدرالي، وquot;ديمقراطيته الإنسانية المزدهرة الفذةquot;، قائلاً: quot;ومما يبعث على الإرتياح أن الطرفين إنتهيا الى التعايش السلمي على اساس إتحاد إختياري ديمقراطي حر مزدهر، وذلك على أساس الإعتراف الدستوري والقانوني والسياسي بحق شعب كوردستان في إدارة شؤونه على اساس هذا الإتحاد الفدرالي. وهي تجربة ديمقراطية إنسانية فـذّة يقدمها العراق الجديد، بعد تحرره من الدكتاتورية والسياسات الشوفينية، وستكون منارة لشعوب ودول الشرق الإسلاميquot;.
وبعد سرده لتاريخ quot;الأخوة العربية الكرديةquot;، وعلاقات quot;الشعبين الأخوينquot;،quot;التأريخية والثقافية وإلإجتماعية والدينيةquot; والتي quot;امتزجت بطموحات وأهداف سياسية مشتركة من اجل الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، طالما جرى الحديث عنهاquot;، ختم البارزاني كلامه quot;الأخويquot; هذا، بquot;ضرورةquot; العيش المشترك للشعبين، في عراقٍ، إتحاديٍّ، إختياريٍّ، فيدراليٍّ، واحدٍ، راهناً، أو في الممكن الراهن من السياسة الراهنة، في الأقل.
هذا الكلام الواقعي، في الراهن الموجود من العراق الواقع، هو في رأيي، عين العقل، أو خير عقلٍ لخير عراقٍ، الآن، بعربه وأكراده وسائر مكوناته وأقلياته الأخرى.
فما الذي تغيّر من العراق في غضون أقل من أسبوعين، ليغير الرئيس بارزاني رأيه في قضية الموجودين من الأكراد في العراق الموجود، من قضية quot;كردستانٍ في ومع العراقquot;، إلى قضية quot;كردستانٍ مستقلةٍ خارجةٍ عن العراقquot;؟
من حق البارزاني، بالطبع، أن ينتقد المالكي وحكومته، ككردي من وإلى عراق الداخل، وأن يصفه بالصفات quot;الديكتاتوريةquot; وأخواتها، كما يشاء، ولكن هذا لا يبرر ركوبه لquot;ديكتاتورية مماثلةquot;، بحق مستقبل كردستانه، وبالتالي زج أكراده في quot;قرارٍ ديكتاتوريquot; مغامر، أو طريقٍ مسدودٍ مجهول العواقب.
من حقه، أن يطالب، متوافقاً مع نسبة أكراده في العراق، بالمزيد من العبور الكردي إلى بغداد، وبالمزيد من اليد العليا والسلطة الفعلية فيها، ولكن هذا لا يعني quot;تهديدquot; بغداد بquot;هوليرٍquot; لا تستطيع إلى ما صرح به البارزاني سبيلاً.
كردستان، ستبقى حلماً جميلاً، يراود أكرادها، في كل جهاتها المشتتة قاطبةً، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، ولكن هذا الحلم، لن يُعبر ولن يوصل إليه، كردياً، بهكذا quot;تهديداتٍ عابرةٍquot;، يمكن قراءتها، في سياق quot;الغضب السياسيquot;، أو quot;سياسة الغضبquot;، أو كضربٍ من الكلام الغاضب في جبهة الكلام المضاد.
تصريح البارزاني الأخير، هذا، والذي وُصف على مستوى البعض الحكومي في بغداد، بquot;الإنتحار السياسيquot;، يمكن قراءته، بإعتباره quot;كلاماً غير مناسبٍ في المكان والزمان غير المناسبَينquot;، وبالتالي quot;كلاماً نارياًquot; لتسخين الشارع الكردي، وتصويبه نحو جبهة quot;الخطر الخارجيquot;، لإلهائه عن quot;الداخل الكردي المستفحلquot;، لا سيما وأن الكرد في شوراعهم، كغيرهم من quot;شعوب الشوراعquot; الجارة، يفكرون بقلوبهم، ويعملون في السياسة بحناجرهم، ويمشون على عقولهم.
ما أطلقه البارزاني من تهديدٍ لquot;بغدادquot; بquot;هوليرquot;، أو تهديد لquot;العراق العربيquot;، بخروج quot;العراق الكرديquot; عليه، وبالتالي الإنفصال عنه، هو في الراهن من العراق، كلامٌ في quot;السياسة الخطأquot;، نحو quot;كردستان الخطأquot;.
كردستان الآن، داخل العراق، هي شبه دولة داخل دولة معلومة، برئيس معلوم، وبرلمان معلوم، وحكومة معلومة.
أما كردستان المستقلة، فيما لو وقعت، في القادم من العراق، كما يريد لها تصريح البارزاني الأخير، أن تخرج على العراق، وتنفصل عنه، فستكون على الأغلب، دولةً مجهولةً، ستدفعها quot;الجهات العدوةquot; الجارة إلى أكثر من مجهول.
كردستان في اليد، أفضل من ألف كردستان على الشجرة.
هوشنك بروكا
التعليقات