لقد كان العراق منذ تاسيسه وحتى احتلاله عام 2003 {بعيدا والى حد ما } عن ظاهرة التعصب الديني والقومي والنعرات الطائفية حيث كان التعايش بين المكونات ظاهرا في كل مرافق الحياة بالرغم من ان غالبية الحكومات استولت على الحكم عبر انقلابات عسكرية واستعمل فيها العنف بابشع اشكاله، الا ان الشعب بقى متماسكا ومدافعا عن علاقاته الاجتماعية.


لكن الحرب الأمريكية غير الشرعية ضد العراق جعلت حدود العراق منافذ مشاعة لتدخلات دول الجوار والتي ساهمت دون شك في اشعال الحرب الطائفية فانتشرت جرائم الاختطاف والتهجير والقتل على الهوية الدينية والمهنية، ولا استثني من ذلك قوى ارهاب والتمشددين الذي عتثوا بالبلاد فسادا، كما ان مساعدة اميركا في تنصيب حكومة مبنية على اساس المحاصصة الطائفية لحكم العراق ساهدت هي الأخرى في زعزعة تماسك الشعب العراقي حيث ثبت عدم آهليتها وكفائتها السياسية مما ادى الى احدات شرخ خطير في بنية العراقيين الثقافية والاجتماعية ستستمر الى زمن بعيد.

ان غالبية حكومات دول منطقتنا العربية كما يعلم غالبيتنا، استولت على مقاليد الحكم في بلادها عبر انقلابات عسكرية عنفية، وهذا يدل على عدم ايمانهم بالنهج الديمقراطي، ولذلك نرى بان دولهم لم تستقر ابدا، لا بل سادتها النعرات الطائفية والتعصب الديني والقومي، وجدير بنا ان نذكر بان معظم قادة هذه الحكومات والتي انقضت على السلطة في بلدانها قامت اما بقتل او اعدام رؤوساءها السابقين ومعظم قادتها وطال القتل ايضا حتى عوائلهم، وهي حالة لم تستطع شعوب هذه المنطقة حتى هذه اللحظة من التخلص منها، ان ثقافة العنف والغاء الآخر ما زالت شاخصة في ايدلوجيات معظم الأحزاب الدينية بمختلف مذاهبه او القومية بمختلف انتماءاتهم التأريخية، ففي العراقعلى سبيل المثال ومنذ تأسيسه عام 1920 فقد قتل او اعدم معظم الرؤوساء ومعظم اعضاء حكوماتهم وغالبية حاشيتهم بدأ من الملك فيصل مرورا بعبد الكريم قاسم وعبدالسلام وانتهاءا بصدام حسين، ان ثقافة العنف والتي نحذر منها ستستمر اذا لم ينتبه لها قادة ورؤوساء وحكام اليوم فانها قد تطالهم لا سامح الله.


فبعد الحرب على على العراق عام 2003 طرأت مسامعنا بان العراق سيعاد بناءه على اساس ديمقراطي تعددي يحترم حقوق الانسان في معتقداته السياسية والدينية ويظمن حقوق الجميع وسيكون التناوب على السلطة وفق نظام سلمي وانتخابي نزيه.... الى آخر الكلام، فبعد ان كان محكوما بنظام دكتاتوري وبتسلط حزب واحد سيكون بمقدور كل الأحزاب والقوى والتيارات والكتل والمكونات العراقية المساهمة وفق مبدأ الكفاءة والنزاهة والديمقراطية في ادارة شؤون الوطن، ولكن ما رأيناه ونراه اليوم هو عكس ذلك تماما، تصوروا مقدار الشعور بالظلم والمرارة حينما يشعر الانسان في وطنه انه يعامل معاملة من الدرجة الثانية وربما العاشرة لا لشيء ألا لأنه مارس حقه الطبيعي في اختيار معتقده الديني أو القومي او السياسي او انه قد وجد نفسه مولودا في هذه الطائفة او تلك القومية.

وقبل ان الوج فيما جرى لشعب العراق من دمار ودماء وهجرة جماعية جراء سيطرة الأحزاب الطائفية والعنصرية وميليشياتها على كل مفاصل الدولة بعد 2003، اريد ان اشير الى حقبة نظام صدام وما كان يجري من ظلم واجتثاث لبعض من المكونات واحزابها بشكل سريع، فقد اعتبر صدام ان حزب البعث هو القائد الوحيد المخول لقيادة شعب العراق نحو الوحدة والحرية والاشتراكية ولذلك عمد الى اصدار الأوامر بحظر كافة الأحزاب الأخرى الممثلة لمختلف المكونات، فحزب الدعوة الاسلامي الشيعي على سبيل المثال وبعض الاحزاب المسيحية القومية كالحركة الديمقراطية الأشورية وحزب بيت نهرين الديمقراطي والحزب الوطني الاشوري وغيرها من أحزاب المكونات القومية والدينية الأخرى ومنهم الأحزاب الكردية والتركمانية واليزيدية والشبك والصابئة جميعهم قد منعهم نظام صدام من ممارسة نشاطها السياسي او الثقافي للدفاع عن وجودهم وحقوقهم ولبناء دولة العراق، كما ان نظام صدام اقليميا لم يستطع حل مشاكله الحدودية مع ايران او الكويت دبلوماسيا لا بل لم يستطع جمع شمل شعبه من العراقيين على طاولة الوطنية، ولعدم ايمانه بالديمقراطية والتعددية فقد قام نظام صدام بشق وحدة العراقيين حين اوعز الى تجفيف الأهوار في جنوب الوطن وتشريد اهلها اضافة لهدم المئات من القرى الأشورية المسيحية والكردية في شماله بحجة محاربة المتمردين ومعارضي النظام، الم يكن من الاجدر التوجه نحو احتضان مكونات الشعب العراقي مسلمين ومسيحيين ويزيديين وصابئة وشبك ومنحهم حق تشكيل الأحزاب والمشاركة لبناء العراق جنبا الى جنب مع نظامه.


فطبيعي جدا ان تنتفض مكونات الشعب حين تصطدم بكتاتورية السلطة وحين تغيب الديمقراطية وحين تغلق الأبواب امام العراقيين للمشاركة والمساهمة في عملية بناء العراق، كل هذا ادى الى زعزعة ثقة العراقيين جميعا بنظام صدام مما ادى الى استغلال ذلك من قبل اميركا ومن تعاون معها من زعامات دول الجوار لمعاونة المعارضين العراقيين لاسقاطه، حيث كانوا بانتظار الفرصة، وفعلا فقد تم ذلك وانقضت اميركا على العراق تدميرا شاملا لكافة لمؤسسات الدولة العراقية.

اما اليوم وبعد ان اسقط نظام صدام الدكتاتوري استبشر العراقيون بقدوم النظام الديمقراطي الذي بشرت به اميركا ومن تعاون معها، ولكن الذي جرى هو قدوم نظام محاصصة طائفية بعيد كل البعد عن مفهموم المواطنة والمساواة والعدالة والتحظر، فعاد بالعراقيين الى حقبة النظام السابق، ان سيطرة طغيان الفقه الديني الطائفي المسيس على وعي الناس وقيامه بتصنيف البشر الى كافر وآخر مؤمن، وليس تصنيف البشر على اساس النزاهة والكفاءة والوطنية، وغياب المساوات والعدالة والتسامح ادى بالعراقيين للنظر لمقولة تحرير العراق وبناء الديمقراطية على انها مجرد شعار وجسر للوصول الى نهب ثروة العراق والتمتع والمفاخرة باستلام السلطة فيه.
ان العدالة بمعناها الانساني هي المقياس الذي يجب ان تكون من سمات السلطة التي تدعي الايمانية وتسعى لطمئنة كل المكونات وتقديم كل الخدمات لها.

لقد لوحظ في الأونة الأخيرة ان العديد من اعضاء الحكومة قد صدرت عنهم تصريحات تدين المحاصصة الطائفية وتميل الى العمل الجماعي والمصالحة الوطنية انه أمر رائع وجيد، لأن مواقفهم السابقة كانت تمجد وتمتدح المحاصصة الطائفية والفرز القومي للحصول على المكاسب، فهل يعني ذلك ان الصدق والثبات قد تحرك في وجدانهم انا لا استبعد ذلك، ولكني اسألهم اليس ما عاناه العراقيون ولسنين من دكتاتورية واستبداد نظام صدام كافيا لكي تأتوا انتم لتزيدون الظلم ظلما، هل يعقل ان شعب العراق بعد ان تخلص من نظام صدام...يُقدّم اليوم اضحية ليذبح ويهجر على الهوية الدينية والطائفية ويقتل او يلاحق لانتماءه العسكري او العلمي المهني وتحرق مساكنه وكنائسه وجوامعه ومساجده واماكن عبادته، ثم اين هو المناخ الديمقراطي والبناء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي الذي يتبجحون به ويغردون له عبر تصريحاتهم، هل اعيد النظر في الدستور الملغوم والمصلحي، هل عدلت القوانين، هل الغيت المحاصصة في مؤسسات الدولة وحلت محلها الكفاءة، هل الغيت ميليشيات الأحزاب الطائفية والعنصرية، هل افرج عن المعتقلين الأبرياء،هل اعيد الجيش البطل السابق، هل تحققت المصالحة الحقيقية مع القوى التي لم تتلطخ يداها بدماء العراقيين الشرفاء، هل غيرت المناهج الدراسية لتتماشى مع التحظر والحداثة، هل عاد العلماء المهجرين والمهاجرين الى العراق، هل رفعت الحواجز الكونكريتية بين المناطق..، ثم هل الفوضى والهرج التي نراها دائما في اجتماعات مجلس النواب قد توقفت، وهل عادت الملايين المسروقة من اموال العراق، وهل طُهرت الوزارات والمؤسسات وخاصة الأمنية من الفاسدين والمتقاعسين، واخيرا هل اعلن عن القبض على المجرمين قاتلي المطران رحو والأب رغيد والشهيدة اطوار بهجت وعن مصير منتسبي التعليم العالي، كثيرة هي التساؤلات عن قاتلي الشهداء من الصحفيين وغيرهم من العلماء واشراف العراق، ثم نتسائل كيف استنتج البعض من اعضاء الحكومة عبر تصريحاتهم بان وجودهم على رأس السلطة هو الذي قاد العراق الى الحرية والأمن والعدالة.. الا ينظرون الى تشكيلة مجلسهم والوزارات والمحافظات ومؤسسات الدولة كافة والتي ما زالت المحاصصة الطائفية والحزبية والفئوية والمحسوبية والرشاوي والفوضى والفساد هي السائدة، هل هكذا يفهمون معنى الديمقراطية الحقيقية للعراق الجديد،هؤلاء لا يملكون مشروعا سياسيا ديمقراطيا نزيها لإنقاذ العراق من محنته وفوضويته، ولذلك يلجئون الى المراوغة والكذب والدجل واللجوء الى الغيبيات
لضعفهم في مواجهة الظلم والفساد الذي يعصف بشعب العراق، ان غالبية هؤلاء في عقولهم تراث وقيم وصفات محورها العنف والثأر وتغذيها قوى خارجية لا تريد خيرا واستقرارا لشعب العراق، انهم يكذبون لأن الفساد والفوضى الأمنية ما زالت قائمة وتتزايد وان المنظمات الدولية بكل اصنافها هي التي كشفتها قبل ان تصرح بها سلطتهم الحاكمة، وما نراه من سوء ادارة في مجلس النواب وعدم قانونية عقود النفط والطائرات وفوضى المقاولات الوهمية والسرقات وغيرها الا شاهد على ما نقول!


اني ارى بان استقرار العراق وطمأنة شعبه يكمن في اعادة النظر بكافة القوانين والتعليمات والتي تشجع على الفرز الطائفي او القومي بما فيها الدستور حيث ان اعادة النظر بكل بنوده التي تدعو الى الانفراد في السطة والغاء الآخر والى تغيير كل العبارات التي تثير الحقد والكراهية والتمييز الطائفي او القومي او الديني وكل ما يشير الى المحاصصة الحزبية.


ان السير بعملية المصالحة بين العراقيين يبدأ بالغاء كل القوانين والأوامر التي اشرنا اليها في اعلاه وعلنا واصدار مذكرات رسمية تثبت تنفيذ ذلك، ان هذا الاجراء الديمقراطي والنزيه من شأنه ان يلغي كل التقولات والشكوك حول مصداقية سلطة المالكي في الحكومة الحالية للسير بالمصالحة الى امام لبناء العراق الجديد، وبعكسه فان العراقيون سيشككون في ذلك ويعتبرون الدعوة للمصالحة ما هي الا عملية تكتيكية وان نتائجها ستكون غير ايجابية، كما ستوصف على انها كانت ضحك على الذقون !

لقد ثبت بالملموس وبشهادة غالبية العراقيين والمتابعين للشأن العراقي وخاصة القيادة الأمريكية بعدم كفاءة {غالبية} الحكومات ومن ضمنها البرلمان في ادارة شؤون العراق منذ احتلاله عام 2003 والى هذا اليوم، حيث ان الوضع الأمني والاقتصادي والخدمي ما زال تعيسا وخطرا، كما ان غالبية تصريحات المسؤولين غير دقيقة وغير صادقة ولا ثابتة حيث تتغير كل ساعة وحسب المصالح والمستجدات، فالمالكي يصرح بالمصالحة الوطنية لاعادة لحمة العراقيين اليوم وهو اجراء وطني رائع، في حين نرى في اليوم التالي السيد ياسين مجيد يعدل بما جاء على لسان المالكي بحيث يفرغ التصريح من محتواه، واخيرا يخرج علينا السيد عبد الكريم العنزي ليلقي خطابا مغايرا آخر لما يبغي اليه المالكي، فالى متى سنبقى بعقلية الانفراد بالسلطة ونعتبر ان حزبنا او طائفتنا او مذهبنا هو الذي يجب ان يسود وان الأخرين يجب ابعادهم ومن ثم الغاءهم، هل سيستمر هذا الحال من التصريحات باعتبارها سمة تتميز بها حكومتنا....ان ما يتمناه العراقيون من قادتهم اليوم هو الثبات على المصالحة والمصداقية والتعاون مع كل المكونات والقوى السياسية والدينية لتوفير الأمن والخدمات التي هو بامس الحاجة اليها، ونعيد الى الذاكرة بان لقضائنا الحنكة والعدالة لمحاسبة كل من اساء لشعب العراق.

ختاما وكما اعتقد فان العراق وما خطط له بعد غزوه من تدمير وخراب وتغيير في كل فعالياته الوطنية والثقافية، فانه ليس بالسهولة ان يعود الى وضع طبيعي كباقي الشعوب المتحظرة، انه بحاجة الى جهود وايادي وطنية كفوءة تأخذ به الى شاطئ الأمان والسلام وعدم التمييز الديني او القومي، كما اني مؤمن بان التأريخ لن يرحم احدا ساهم في خذل شعبه وغيّب عنه الحقيقة او احاط ابناءه وبناته بجبة الثقافة الظلامية التي لا تؤمن بالحرية ولا بالتسامح والتقارب الانساني.

ادورد ميرزا
استاذ جامعي مستقل