زرت سلطنة عمان في مهمة صحفية للمرة الثانية خلال أقل من أربع سنوات، وأدهشني حجم التطور السريع الذي شهدته خلال هذه الفترة القصيرة، وأدهشني أكثر نجاح العمانيين في معالجة آثار الدمار الذي خلفه إعصار جونو حين ضرب بلادهم في يونيو 200، وقتها انهالت العروض الدولية والإقليمية على عمان لمساعدتها على تجاوز الأزمة، لكن القيادة العمانية رأت أن العمانيين قادرون على مواجهة المحنة اعتمادا على أنفسهم.


بصراحة لم أفهم وقتها سر هذا القرار الفريد، فكل الدول ترحب بالمساعدة في أوقات الأزمات، لكنني حين زرت السلطنة مؤخرا أدركت الحكمة وراء هذا القرار، فقد كان إعصار جونو امتحانا لقدرة وإرادة العمانيين، وقد نجحوا بالفعل في اجتيازه بالتخطيط والعمل والاعتماد على الذات.


لكن السؤال الذي حيرني في زيارتي الأولى لعمان، كيف انتقل هذا البلد خلال 37 عاما فقط من العصور الوسطى إلى العصر الحديث؟! هذه بالفعل فترة قصيرة لا تسمح بإقامة دولة حديثة وتطوير مجتمع، والذين يعرفون عمان قبل عام 1970 يدركون ذلك جيدا، فقد كان البلد يعيش حياة صعبة في أقسى ظروف الجغرافيا والمناخ!


وفي زيارتي الثانية وجدت الإجابة على هذا السؤال، فبعد لقاءات مع مسئولين وإعلاميين ومواطنين عاديين، كان هناك إجماع على أنها رؤية القيادة العمانية، فكل دولة وكما قال لي رئيس تحرير صحيفة عمانية صديق، هي محصلة رؤية قيادتها، ولعل هذا هو السر أيضا في النهضة الكبيرة التي تعيشها دول الخليج!


فمع وجود قيادة مؤمنة بأهمية التغيير والتحديث، ومتابعة كل شيء بنفسها دون الاعتماد فقط على التقارير، ومع التمسك بسياسة فتح الأبواب والالتقاء بالمواطنين في جولات سنوية في طول البلاد وعرضها، وبإرساء دعائم دولة سيادة القانون دون تفرقة بين مواطن ووافد، وبتشجيع الاستثمارات وفتح الأبواب للتجارة والصناعة، والتزام سياسة خارجية تقوم على الحياد الايجابي، نجحت سلطنة عمان في أن تقيم دعائم نهضتها الحديثة.


وساعد على ذلك تفاعل العمانيين مع قيادتهم والتفافهم حول مشروع النهضة، الذي يجني الجميع ثماره دون تفرقة أو افتئات، وقد نجحت عمان خلال ال37 عاما الماضية في إعداد كوادر وطنية مدربة ومؤهلة لشغل مختلف المواقع، مع الاستعانة دون حساسيات بخبرات عربية وأجنبية، ولا مشكلة في ذلك فالجميع يعملون في خدمة عمان!


أدهشني وأنا أتجول في العاصمة مسقط تمسك العمانيين الشديد بتقاليدهم، صحيح أن الجيل الجديد قد بدأ يرتدي الملابس الغربية، مستفيدا من حالة الانفتاح والمرونة والاعتدال الذي يميز المجتمع العماني، كما بدت على السطح مظاهر الحياة الغربية بحكم أن البلد يضم جنسيات وثقافات وحضارات متعددة، لكن التمسك بالتقاليد مازال جزء لا يتجزأ من حياة العمانيين، بل إن تجربة عمان في التحديث التزمت هي الأخرى بالجمع بين الأصالة والمعاصرة!


بالتأكيد موقع عمان المطل على بحر العرب ومضيق هرمز يفرض عليها تحديات هائلة، خاصة في ظل المواجهة الحالية بين أمريكا وإيران حول المشروع الإيراني النووي، والصراع على النفوذ في المنطقة، لكن السياسة الخارجية العمانية نجحت في الإمساك بكل الخيوط والاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الجميع، وهي سياسة تعبر بصدق ودقة عن توجهات هذا البلد!
تجربة عمان نموذج لنجاح باقي دول الخليج في التحديث والنهضة، وهي تجربة تستحق أن تتابعها كل وسائل الإعلام وبالذات في الدول التي لا تعرف غير العنتريات والشعارات!

عبد العزيز محمود