يتساءل البعض عن مدى الحرية التي تتمتع بها الفضائيات العربية في تغطيتها للأحداث، وأقول إن الحرية في هذه الفضائيات ما هي إلا وهم، فلا توجد قناة فضائية مستقلة في البلاد العربية، حتى الفضائيات التي يمتلكها رجال الأعمال تعتمد على تسهيلات يقدمها الإعلام الحكومي، وتُدار من قبل الحكومة من وراء ستار، وتخضع لقيود من جانب صاحب المحطة الذي يمتلك رأس المال وقيود من جانب الحكومة التي تمنحه الترخيص والحيز الذي يبث عليه في الأقمار الصناعية.
ومن العجيب في ظل فوضي البث الفضائي إنْ صح التعبير، أنَّ مقاولين وأنصاف متعلمين يمتلكون المال، أصبحوا من ملاك الفضائيات، والأمر ـ كما يقول رئيس الشركة المصرية للأقمار الصناعية أمين بسيوني ـ لا يتطلب أموالاً طائلة، كل المطلوب شقة وسير?ر للبث ثم تتقدم بطلب إلى المنطقة الإعلامية الحرة في محافظة السادس من أكتوبر التابعة لهيئة الاستثمار للحصول على الترخيص، برسوم لا تتعدي ألفاً وخمسمئة دولار، بعدها تتوجه للنايل سات الذي لا يطلب منك سوى دفع اشتراك البث الذي لا يتعدى الثلاثمئة ألف دولار ويمكن تقسيطه شهرياً، وحين تتدفق الأموال من إيرادات شريط الرسائل والمسجات أسفل الشاشة، أو من قيمة الاتصالات التليفونية من خلال برامج المسابقات. وعندما تفكر في البث وتبدأ الاستعداد له عليك القيام بشراء المواد الأرشيفية القديمة من أية قناة أخري، سواء برامج أو أغاني، أما الأغاني الحديثة فسوف تجد سيلاً من أغاني مطربي ومطربات الفيديو كليب ينهال عليك علي سبيل الاهداءات، وإذا أردت أن تبث أغاني محترمة لمطربين ينتمون لشركات كبري، فالأغنية الواحدة يمكن شراؤها بمائتي دولار فقط. إذن الأمر بسيط للغاية والربح مضمون ولهذا السبب أصبحت القنوات الفضائية يمتلكها كل من 'هب ودب'.. وتلك هي الوصفة الذكية لامتلاك محطة فضائية تقول فيها ما تشاء بدون رقيب أو حسيب!!
وربما هذا الهرج هو ما دفع وزراء الإعلام العرب إلى إصدار وثيقة البث الفضائي، وأقل وصف لهذه الوثيقة أنها سخيفة، باعتبارها تمثل تقييداً لحرية الرأي والتعبير بما تتضمنه من قيود ومواد مطاطة، تتقنن في وجود رقيب على ما تنشره المحطات الفضائية من أخبار أو حوارات أو أحداث حية بدعوى احترام السيادة الوطنية وعدم التأثير في quot;السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية والنظام العامquot;.
ولنتحدث بشكل أكثر صراحة، ولنعترف بأن الحكومات العربية انزعجت من تناول شئونها في الفضائيات الإخبارية بشكل جريء، بعد أن فشلت قنواتها التي تخضع لسيطرتها ورقابتها في كسب ثقة المواطن المحلي الذي اتجه إلى القنوات الفضائية بعدما حازت على المصداقية، كما أن وثيقة البث الفضائي، وتحاول العودة بالإعلام العربي إلى ما قبل ثورة الفضائيات والشبكة العنكبوتية والإعلام بلا حدود التي كانت سائدة قبل عقدين من الزمن.
وبالتالي تفتق ذهن عباقرة الإعلام الحكومي عن وثيقة لتنظيم البث الإذاعي والتليفزيوني، تستهدف أساساً القنوات الفضائية التي تطرح برامج جادة وتنقل الأحداث التي تهم المواطن، تحت ستار محاربة التجاوزات الأخلاقية التي هي في الواقع آخر ما يهم النظام السياسي العربي.
لقد أثبتت التجارب أن الصحافي العربي يملك كل الامكانات لتقديم إعلام مهني مستقل وحر، لكنه يحتاج إلى مجتمع حر ومتفهم لرسالة الإعلام. وحتى البلاد التي تطلق قنوات إخبارية تُخضعها لقيود، وإذا كانت بعض القنوات الخاصة في مصر تنتقد أداء الحكومة وتعرض للرأي والرأي الآخر، فهذا ظاهرة صحية، وإن كانت بعض هذه البرامج لديها اتفاق جنتلمان مع الحكومة، لتنفيس الغضب الشعبي الكامن في صورة كلمات ينتقد فيها الحكومة، وليظهر النظام في صورة quot;الديمقراطيquot;، الذي يسمح بانتقاده على شاشات التلفزة.
إن وجود فضائيات عربية قوية أمر مطلوب بعد أن أثبتت بعض هذه الفضائيات أنها قادرة على صناعة الحدث وليست مجرد مستهلك، كما أن الإعلام العربي في معظمه غرق في الترفيه الهابط، حيث يقدم لنا كل فترة أعداداً هائلة من المطربين، يتم احتكارهم واستنزافهم في أقصر مدة ممكنة، ثم يتم حرقهم لكي يقدّموا وجوهاً جديدة ونجوماً أخرى! ولولا الأزمة المالية العالمية لتضاعف عدد القنوات الفضائية، وأعتقد أنها أزمة مؤقتة وتعود الفضائيات للانتعاش من جديد، مع ابتكار أجهزة إنتاج وبث واستقبال قليلة التكاليف، وهبوط أسعار الاتصالات الفضائية، وquot;الاتجاه إلى إطلاق قنوات فضائية محلية تستهدف في أقطار بعينها.
فؤاد التوني
إعلامي مصري
التعليقات