الرعب... الرعب... The Horror The Horror!!، تلك الرسالة اللازمة التي دأب كيرتز على ترديدها في رواية قلب الظلام Heart of Darkness لجوزيف كونراد، وبالرغم من شموليتها بالإشارة إلى الشر المخبوء، فقد لا تكفي للتعليق على جريمة جوزيف فريتزل التي هزت وجدان أوروبا وزعزعت ركائزه وأسسه الأخلاقيه. فأوروبا، بقضها وقضيضها، مصدومة ومذهولة من هول حادثة قبو الرعب التي هي أكبر من جريمة في التوصيف والتي تم الكشف عنها قبل نحو عام من الآن.
لقد طغى خبر محاكمة جوزيف فريتزل، المهندس الميكانيكي ذي الـ الثلاثة وسبعين عاماً، على أخبار الكون وعلى كل الـ Headlines الأخرى في العالم كالأزمة الاقتصادية العالمية، ووفاة الممثلة البريطانية ناتاشا ريتشاردسون ابنة الممثلة فانيسا رودغريف على إثر حادث تزلج، أو مصالحة الفصائل الفلسطينية العبثية والمستحيلة في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، أوالملف النووي الإيراني، وتعليق الحياة البرلمانية في الكويت، وتصريحات البابا المعلنة عن وقوف الكنيسة البابوية بحزم ضد استخدام الواقي الذكر الـ Condom كأحد السبل المتوفرة لمنع انتشار الإيدز. ولا ينفك السؤال المحيـّر والقائل كيف يتأتى لوالد أن يحتجز فذة كبده لأربعة وعشرين عاماً في زنزانة تحت الأرض، ويدأب على اغتصابها كل تلك الفترة دون أن يرف له جفن؟ والصدمة الأكبر، ومن وجهة كثير من المتابعين لتلك القضية الغريبة، كيف أمكنه الاستمرار، والإمعان في ذاك الفعل وكأنه يمارس حياة زوجية طبيعية، دون أن يستيقظ ضميره، أو يرف له جفن.
إن توصيف الجريمة لا يمكن أن ينطبق على ما قام به النمساوي جوزيف فريتزل بحق ابنته التي احتجزها لمدة أربعة وعشرين عاماً في زنزانة تحت بيته، ودأب على اغتصابها كل تلك الفترة لأكثر من ثلاثة آلاف مرة، وأنجب منها سبعة أطفال، مات أحدهم رضيعاً فتم التخلص منه بوضعه في نظام الاحتراق الخاص بالتدفئة المركزية. إنها جريمة مركبة، عدة جرائم في جريمة واحدة، وكل جريمة من هذه الجرائم هي أيضاَ جريمة مركبة، بحد ذاتها، بحيث لا يدري المرء أين بدأت الجريمة وأين ستنتهي، ولا يعتقد أن انكشاف الجريمة يعني نهاية تداعياتها، فعلى العكس لقد بدأت تداعيات نفسية قاتلة ومؤلمة للضحية لن تنفع معها أية إعادة تأهيل. ومهما تكن أسباب تلك الجريمة ودوافعها، والتي عزاها محامي المتهم إلى اضطرابات نفسية Psychological Disorders يعاني منها فريتزل، فإنها تكشف عن الجانب الوحشي الأبشع القابع في أعماق اللاوعي والباطن الإنسان والذي يمكن أن يطفو ويظهر على السطح حين تؤذن الظروف، وتنضج الشروط له، ويذهب أبعد بكثير مما يتخيله عقل أي بشري.
هل فريتزل وحش بشري؟ أم مجرد شاذ جنسياً آخر يفوق شذوذه التصور والوصف والخيال؟ أم أين يمكن وضعه ووصفه من بين الأحياء؟ فهذه ليست قصة رعب، ولا شذوذاً جنسياً، ولا من غرائب الطبيعة أو الخيال، ولا عبودية، أو تعذيب واستغلال جنسي للأبناء والصغار، ولا قضية اغتصاب، ولا أي نوع من الإجرام والإرهاب المعروف حتى اليوم، ولا يمكن تفسرها وفق عقدة إليكترا أو أوديب الفرويدية، ولا واحدة أخرى من تلكم quot;الوحداتquot; الكثيرة التي يقوم بها الغرب، يومياً، في عملية التدمير والتحطيم والتهشيم الممنهج لكثير من القيم والأخلاق والمثل العظيمة والتفاهمات التي عرفتها البشرية؟ ربما هي كل ذلك، إنها حزمة جرائم تجتمع في جريمة واحدة.
اليوم سيسدل الستار على واحدة من أغرب القضايا والجرائم البشرية التي عرفتها البشرية حتى الآن ومن قلب الغرب الأوروبي المتحضر، ومن الصعب جداً أن تقف تداعياتها على حكم السجن المؤبد الذي يحتمل أن يناله فريتزل، فإنها ستمتد، ربما، لعقود و أجيال لتشمل البنت الضحية، والأبناء، الذي لا يعرف كيف سينمون في ظل هذا المناخ النفسي القاتل والضاغط، ناهيكم عن أنها ستصيب عمق الضمير والوجدان الأوروبي الذي يقف حائراً ولا يجد تفسيراً لفعلة فريتزل الغريبة.
الإجرام، والشذوذ، والانحراف غير مختص بشعب أو قوم، أو مجموعة بشرية ما. فهناك كثير من السلوكيات والتصرفات وردود الأفعال والأمراض والعقد النفسية المستفحلة التي قد لا يجد لها المرء تفسيراً على أية حال، وهناك مساحات شاسعة وواسعة من الغموض والإبهام ما زالت تنطوي عليها النفس البشرية، تتساوى فيها جميع شعوب الأرض، ومهما بلغت من الرقي والتمدن والتحضر، أو حتى من الوحشية والهمجية والانحطاط، لتذكرك دائماً، بالمأساة الأبدية والمستمرة لبني الإنسان التي عجز عن حلها، أو التعامل معها، حتى الآن.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات