دمشق أسيرة لغوها، والسجان ليس سلطة تمثيلة، نحتاج معها لجهد تحليلي، يستنبط السر في استمرار اللغو، والحرب الكلامية بين لا فاعلين في الحقل السياسي. لكل فكر سلطته، ولكل سلطة فكرها، الذي يتعامل مع الوقائع والأرقام، والأسماء، مع الأمكنة والأزمنة، مع التاريخ كدرس لاستمرار القاعدة الاساسية المنتجة لهذا الفكر. عندما يكون الفكر سندا لشخص السلطة، يصبح الأمر أقل تعقيدا، ولكن عندما نجد أن شخص السلطة، محاطا بفكر مؤسسي له هامشه المستقل، يصبح هذا فعل رقابي، من الصعب تجاوزه، مهما كانت قدرات شخص السلطة خارقة، نحن لا فاعلين بالحدود التي يعترف بها ميزان القوى السياسي.

ويصبح السؤال الملح، لماذا كل هذا اللغو من أجل الانخراط بلعبة اللافعل، حتى نصل في كل مرة إلى معركة تنتهي باللاجدوى، لأن أساسها لغو، اللغونة الفكرية في مكان، والفعل السياسي في مكان آخر. نعبأ صفحات لا تحصى من كلام يتيه بين سلطته وبين رمزيته، التي تريد إخفاء سلطة الكلام ذاتها. النطق سواء كان صوتا أو كلمة مكتوبة يريد تمرير سلطته عبر رسالته، لاهم له مهما تلحف بفنتازيا الكلمات، وأبهة المصطلح، وتفخيم المفهوم. يغيب عن بالنا سلطة الوسيلة، وسيلة إيصال السلطة إلى هدف الرسالة ذاته. لماذا نحن نكتب في صحف خليجية ولا نكتب في صحف سورية؟

لماذا نكتب أحيانا في صحف مصرية، ونهاجم في صحف أخرى النظام السياسي في مصر؟ لم يسألنا أحد عن سر اللغو في صحف الخليج، ولم يسألنا أحد عن وسائلنا في إيصال الكلمة نحو هدفها، أليس في تحليل هذا قدر كبير من العقل المتشيئ؟ الوطن لا يتسع لمساحة نريدها حرة، ولكنه يسمح لنا كما لم يسمح من قبل ان نصدر لغوناتنا عبر وسائل لا تصل إلى مواطننا الكريم الذي لا يعيش، الفقر، ولا يعيش التمييز بكل أنواعه، القومي والديني والطائفي والحزبي، لا ينثر الفساد فوق عقله رجال مخابرات، أو حرمان من حق الحياة.

بعث وأخوان ويسار ومفكرين وكتاب وباحثين، هم من الاستقلالية معركة يخوضنها وكما وجدوا أنفسهم قريبين منها يجدونها بعيدة عنهم. السلطة عندما تكون قانونية تكون عمياء في التمييز، لا تميز أبدا بين إنسان وآخر إلا وفق نصها الأساس وهو القانون، ولكن سلطتنا تبصر دوما، لهذا هي تمتلك القدرة دوما على نشر التمييز هذا مهما كانت وجهته، طائفية أم دينية أم قومية أم حزبية. القانون لا يسألك أنت كردي أم عربي؟ ولا يسألك أنت شيعي أم سني؟ ولا يسألك أنت بعثي أم ليبرالي؟ لهذا لا يوجد قانون لدينا. كل هذا الجمع يريد التغيير، جبهة خلاص وإعلان دمشق وكتاب ومثقفين ومنهم من هم يمكن أن نطلق عليهم آخر المثقفين الشموليين. والتغيير عملية في كل مقاييس الفكر السياسي، منذ بدء الخلق وحتى الآن، تصطدم في النتيجة بميزان القوىquot; عندما تتحول الكلمة إلى قوة ماديةquot; كيف نعالج هذه البداهة كما عالجتها الأديان والدعوات من ليبرالية وماركسية ومن دار بينهما؟

سأضرب مثالا ربما يكون خارج سياقنا هذا لكنه يشير إشارة ما نحو سلطة الكلمةquot; قناة الجزيرة وقناة العربية تجتمعان على مادة إعلامية واحدة ومهمة هي تناول الوضع السياسي في مصرquot; لا يمضي يوما إلا وتجد هذين المنبرين فيهما موادا عما يدور داخل مصر، يستقبلان ضيوف غالبيتهم ممن هم معارضون للنظام في مصر! الجزيرة غير معنية بالوضع السوري، وغير معنية بالوضع الليبي، ولا بالوضع اليمني..الخ القائمة العربية الحزينة. الحرية في مصر هي التي تسمح بذلك. سألني أحد المهتمين الأجانب عن جانب من هذه المسألةquot; لماذا قناة العربية تتناول الأوضاع في مصر رغم أن العلاقة طيبة بين القيادتين في مصر والسعودية، بينما لاتتناول القضايا السياسية في سورية، رغم أن الخلاف السوري السعودي على أشده؟ طبعا قبل المصالحة العربية جاءني هذا السؤال؟

*****
المجتمع المرتبط بالسلطة عبر الدولة، والتي تحولت بفعل الزمن الاستبدادي المتكرر، إلى دولة السلطة وليس دولة المجتمع ومؤسساتها تدور في عجلة إعادة إنتاج السلطة ذاتها، لايوجد مؤسسات مستقلة عن السلطة الاستبدادية، ولنلاحظ أن مصر في ذلك تعطي درسا نسبيا، استقلال القضاء المصري عن السلطة المصرية استقلالا، يعطي رسالة ما وإن كانت نسبية، بأن الدولة المصرية ليست دولة السلطة السياسية هناك،وهذه بذرة أساسية من أجل دولة القانون والديمقراطية. هنالك مسافات بين النقابات في مصر وبين السلطة، بين المجتمع المدني وبين السلطة السياسية، وبين المجتمع الأهلي والسلطة السياسية، بين الأحزاب والسلطة السياسية، المصرية هوية تحمي لحمة المجتمع في حال انهارت السلطة، ولكن لنلاحظ أن المصرية تتهاوي عند الإخوان المسلمين المصريين، ورغم ذلك مصريتهم تتضح عندما نتحدث عن هيمنتهم على التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، لم يخرج مرشد عام واحد من خارج مصر. سلطة الدولة السياسية تتصارع مع المشروع الإيراني، والإخوان المسلمين المصريين بشخص مرشدهم العام حتى، يضغطون من أجل تحالف وثيق مع المشروع الإيراني.


هل هذه المسافة الاستقلالية التي ذكرناها بين فاعلية المجتمع المصري وبين نظامه السياسي، موجودة في سورية؟
مصر خاصرة ديمقراطية رخوة في جسد الاستبداد العربي المتكلس أقله ثقافيا، واجتماعيا.
*****
المعارضة الديمقراطية العربية وقعت بين فكي كماشة، ضعفها وعدم قدرتها على مواكبة التغيير من جهة، وقوة إرادة السلطة من جهة أخرى، في مصر والمغرب وتونس وبعض دول الخليج، إرادة السلطة تحاول أن تفتح ثغرات ديمقراطية في الجدار العربي. إرادة السلطة عندنا في سورية، تحاول إجهاض أي ملمح ديمقراطي ليس في سورية وحسب بل في المنطقة في حال يريد التأثير على وضعها الديكتاتوري شبه الملطق. من الواضح أنه في حال عدم وجود إرادة سلطة للانفتاح على المجتمع السوري، فإن المعارضة السورية ودون عوامل ضغط ستبقى ترواح بين تجميد نشاط وتعليق معارضة، وهجوم لفظي بعيد عن متناول أجهزة الأمن، وكله لا يحسب له حساب في ميزان القوى السياسي، لهذا نبقى نتفلسف عن قضية التغيير والسلطة تحلق بالمجتمع هزيمة تلو الأخرى. وكلما مر الوقت كلما وجدت المعارضة السورية نفسها، منقطعة حتى عن قدرتها على إيصال صوتها إلى مجتمعها، فكيف يحدث التغيير إذن؟

غسان المفلح