يوجه،أحياناً، شعب كردستان، وبكافة شرائحه وطبقاته، لا سيما الشريحة المثقفة منه، بصورة متواصلة، إنتقادات لاذعة للعالم العربي ومجتمعاته، وذلك بشأن أحداث تاريخية، يأخُذ موقف المرء منها عادةً، عرباً كانوا أم غير عرب، بعداً أخلاقياً وإنسانياً لايمكن تهميشه أو غض النظر عنه خاصةً عندما يكون الأمر متعلقاً بحادثة الإنفال والمآسي التي تعرض لها الشعب الكردي في ظل النظام البائد في العراق، الذي كان يحكم البلد طوال تاريخ حزب البعث دون أن تقف هذه المجتمعات العربية وقفة أخوية الى جانب أشقائهم الكرد، الذين يعيشون معهم في المنطقة، كما هو معلوم، منذ آلاف السنين.

للوهلة الأولى، علينا أن نذكر: أن هذه الإنتقادات، خصوصاً إذا تعاطينا معها من باب التأويل، تنطلق دائماً من منطق أخلاقي رفيع، أوعقل منفتح ورحيب، عقل لا يعتبر الآخر العربي ولا يعامله كأنه الآخر الغريب والأجنبي، وإنما ينظر اليه من منظار وجودي عميق ومن خلال تفكير حضاري تلقائي لا يَهُمْ إن كان واعياً من نفسه أم لا، المهم في الأمر هو أنه يستبطن الآخر وكأنه جزء من الذات، ولكنه جزءٌ فارقها وخرج من موضعه الحقيقي التاريخي، بحيث لم يعد الجزء المُكتمل للذات وإنما يمثل الذات المفارِقة والهاجرة الى عالم آخر، عالم أصبح بالنسبة للذات مهجراً مُستضيفاً لأجزاء مبتورة لها.


بعبارة أوضح وأقل تعمقاً في الفكر، ليست المجتمعات العربية غريبة عن المجتمع الكردي ولا تُفصِلُنا عنه فواصل ثقافية ودينية أو إجتماعية وتاريخية، وإنما هي الوجه الآخر لتكويننا الثقافي والقوة الداعمة لطاقاتنا البشرية، الممكوثة دائماً في ثقافة أخرى هي أساساً ثقافة قريبة ومتجانسة، بل متداخلة مع ثقافتنا ومتماهية مع تاريخنا، هذا فضلاً عن أنها تشكل رابطة أصيلة وعريقة لميادين شتى نتجمع فيها ونُكَوّن بها معاً: (نحن الكرد والعرب) أصلاً حضارياً عنوانه الرئيسي هو الإسلام، الأمر الذي يستدعي منا جميعاً مراجعة أنفسنا ومواقفنا، مراجعة نقدية لهويتنا وما كنا عليه في الماضي كماهية إجتماعية وثقافية وما نحن عليه الآن ! مما يعني للكُرد، بوجه من الوجوه، أن النقد الموجه لهذا العالم العربي، هو، بالأساس نقداً للذات الحضارية التي قَبَِِلَت أن يٌقمَع أمامها جزءاً كبيراً من تركيبتها على يد جزء آخر من هذه التركيبة.


الأنفال هنا، هو، وعلى الدوام، إحدى العناوين التي يذكرها الكُرد للآخر العربي ويقرب به هذا الأخير من نفسه بقدر ما تنتقد هجرة الآخر و تفرجه المميت حيال ذاته المهجورة، وكذلك يشكل ألماً تزداد به غرابة الآخر المنفصل عن الذات كلما عُدنا ثانيةً الى الذاكرة الجمعية المتألمة والمتأملة في مشاهد ومسارح عمليات الأنفال 1988 والرموز الدالة على ماهية ثقافة مقترفي الجريمة أو ثنائية الجلاد والضحية فيها، الأمر الذي تفتت الذات ndash; والذات هنا هي ما نجتمع فيها نحن الكرد والعرب- في كل مرةً بعكس ما نأمل تصوره ونبغي ترسيم حدوده المفتوحة والمُرحبة لكل مختلف حتى وإن كان إختلاف هذا المختلف عرقياً كان أو ثقافياً وطائفياً.
هذه المسألة، أي الأنفال أصبحت اليوم بوابةً للتحديات التي تواجهه ذاتنا الحضارية الإسلامية، ولكن في الوقت ذاته صار أملاً للشفاء والتحسن لعالمنا المريض،عالم لم يفكر في حينه في تراكم إستبعاده لمخاطره الداخلية و خِلله الذاتية وقصوره المواقفية الى أن تحول الى عالم مُحتل أو مرشح للإحتلال! كما هو حال الآن في العراق..


إذن فأن الأنفال والإعتراف الجماعي بخطورة هذا الحدث و وقوعه على يد الآخر اللامبالي من الذات، هو الرابطة الأخلاقية والإنسانية الأخيرة التي يمكن أن تجمع الذات المفَتَت والمشتَت للعالم الإسلامي المتمثل في عراق اليوم، كما أنه الكلمة التي تُعَلِمُنا العِبر التاريخية التي مُررنا بها دون أن نتعقل و نتأخلق بها، وعليه فالأنفال وتكوين ثقافة مشتركة مضادة داخل النسيج الحضاري الذاتي لنا هو دائماً الطريق القويم نحو تجاوز ما توجِهُنا نحو الإفتراق الأبدي والتقهقر السرمدي الذي هو حتماً ما يصبوا اليه الآخر الحقيقي المعادي لذاتنا والذي هو ليس إلا الأجنبي المحتل لأراضينا وثرواتنا وخيراتنا الوفيرة والكثيرة.

عدالت عبدالله