الأفكار الواقعية والعلمية هي المحرك والدافع الرئيس للتاريخ، والأفكار الطوباوية والأسطورية الخاوية والهدامة هي التي تفتت الجغرافيا وتجعلنا بلا أي هوية أو تاريخ. وكلما كانت الفكرة واقعية ومنطقية أمكن لها البقاء والاستمرار، والأفكار الميتة لا تحكم إلا الميتين، ولا يؤمن بها سوى العاجزين والقابعين خارج أسوار الزمن والتاريخ.

لقد اندثرت الأفكار القومية العنصرية بعدما عرف الناس شرورها، وجربوا آثامها، وأدركوا أنها ليست إلا مجرد الشرر الذي يشعل الحريق الكبير. والمنظومة العربية، ووفق صيغتها الحالية، هي، بحد ذاتها، توليفة وفبركة غربية استعمارية من الأساس للالتفاف على الفكر الماركسي والشيوعي والآخر النهضوي والتحرري الذي أشرق بقوة في فترة ما على هذا الجزء من العالم. وقد دعمت بريطانيا وأمريكا واللوبي الصهيوني، الذي لم يكن قد تحقق بعد حلمه التوراتي، فكرة إنشاء كيان ومنظومة سياسية تبعد شبح الشيوعية عن المنطقة، ولذلك لم يكن هناك من بد سوى إحياء المشروع القديم الذي انحسر طويلاً وغاب بسبب لا فاعليته وقصوره وتخلف أدواته وعدم قدرته على إنجاز أي شكل سلطوي يتمكن من تنهيض وتمدين وتحضير هذه الشعوب.

والقومية مفهوم قائم على فكرة محض طوباوية وعنصرية جداً وهي فكرة انتماء مجموعات بشرية لا حصر لها ولا جامع بينها إلى عرق أو عنصر ذي أصل واحد وتجري في عروقه دماء واحدة من فجر التاريخ. وهذا منطق جد مرفوض. فالقول، مثلاً، بأن سكان هذه المنطقة هم عرب جميعاً ومن أصل واحد يعني أن هذه المنطقة لم تكن مسكونة قبل مجيء العنصر العربي، وهذا أمر تنفيه كل حقائق الجغرافيا والتاريخ المعروفة.

فالسوداني، وquot;الشاميquot;، ليس ابن دمشق بل ابن سوريا الجغرافية الكبرى، والمغربي، والمصري، والبدوي العربي القبائلي، واليمني يستحوذ كل منهم على سمات وخصائص ديمغرافية خاصة، مميزة ومختلفة كلياً عن الأخرى. وفي طول الشريط الساحلي المتوسطي، هناك أنماط بشرية لا تختلف كثيراً عن الأعراق الأوروبية الصافية، ذات الشعر الأشقر وبياض البشرة المميز، إضافة للون العيون الملون بالأخضر أو الأزرق. والمعلوم أن هذه السمات الديمغرافية والجينية والعرقية شبه معدومة ومن الاستحالة تواجدها في جزيرة العرب البدوية التي توحد سكانها سمات جينية وعرقية مميزة وخاصة بها وممكن معرفتها دون حاجة إلى أي عناء من المراقب، إضافة إلى انعدام وجود أصحاب البشرة السمراء الداكنة من بين السكان الأصليين في سوريا الكبرى مثلاً. بينما تراهم يتواجدون بكثرة، ووفرة في الجنوب العربي البدوي. وأرجو ألا يؤخذ هذا الكلام بأية صيغ أو أبعاد لا إنسانية، وعنصرية، نحن، بالمطلق، أبعد ما يكون عنها. وصحيح أن هناك مجاميع بشرية قبائلية يمكن أن ترد نسبها لهذا العرق أو الفخذ القبلي العربي أو ذاك، لكن ليس كل سكان هذه المنظومة من أصول عربية قحة، وغير قليلين من لا يملكون أي نسب قبائلي أو بدوي. وأصحاب وquot;صاحباتquot; العيون الزرقاء والخضراء هم حقيقة ديمغرافية ملموسة في أجزاء من هذه المنطقة ينسبهم كثيرون للحضارات المتوسطية العظيمة الآفلة التي سادت هنا كالإغريقية والرومانية والفينيقية وغيرها، وقبل أن تجتاحها أقدام وجحافل الغزاة البدو الأعراب.

وفكرة القومية بحد ذاتها، والتي هي تقديم الثقافة البدوية ومنظوماته السلوكية والمعرفية بقالب مفاهيمي جديد، هي فكرة متخلفة مستوردة من عصر النهضة الأوروبي وليست وليدة الشرط المحلي الذي لم يتطور بذات السياقات السياسية والمجتمعية الموضوعية الأوروبية الذي لا يمكن محاكاته البتة، وهذا أكبر خطأ يقع فيه المثقفون العرب حين يقيسون ما حدث من تطور أوروبي بالمسطرة والقلم على واقعنا البدوي الذي لا يمكن لأية مسطرة أن تنطبق عليه. ومن هنا يأتي هذا الشرخ الكبير بين المثقف البدوي والواقع المحلي. فهو يتخيل ما حدث من تطور أوروبي يجب أن يحدث هنا بنفس الشروط الدقيقة، وما قاله نيتشه، وكانط، وهيغل، وفوكو يجب أن يجد له صدى ومثيلاً وتجاوباً في مضاربنا البدوية هكذا!!!. وهي تبدو لذلك، تبدو كمن يزرع عضواً بشرياً في جسد بشري آخر ذي زمرة دموية وتركيبة نسيجية أخرى، فمصيره الموت والفشل حتماً. وقد سببت هذه القومية أكثر من حرب دامية ومذبحة في أوروبا حتى تم تجريمها كالنازية والفاشية وغيرها. أي يبدو القوميون العرب كمن يسوقون بضاعة مغشوشة وتالفة وفاقدة الصلاحية، وسامة، وبيعها للناس quot;الغلابةquot; المفتونون ببريقها الأسطوري المخادع لكنهم لا يدرون ما وراءها من بلايا ورزايا وخطايا إلى أن يأكلوا المقلب وتقع الواقعة. والقوميون العرب يكررون، بذلك، اليوم هذا الخطأ العنصري الذي ابتلى به قبلنا بشر كثيرون.

وهمروجة الوحدة ووحدة العرب فهي أكبر الطوباويات والأحلام السياسية في التاريخ الحديث. فهناك شعوب في هذه المنطقة من أصول عربية ولكن أيضا هناك شعوب ناطقة بالعربية ومن غير أصول عربية، وما يجب أن يجمع الناس هنا العامل الاقتصادي والتطور والازدهار والاقتصاد والحريات واحترام الخصوصيات والأخوة الإنسانية الأعم والأشمل والأنبل، لا حكم الناس بأفكار بالية من مثل تفوق العنصر العربي الذي لم يكن متفوقا تاريخيا بأي شيء. فالخلافات العربية العربية المستعصية هي الحقيقة السياسية الوحيدة، وهي انعكاس لبنية العقل العربي وتركيبته البدوية والقبائلية والإقصائية الرافضة للآخر. فالعرب حتى اليوم لا تحرم قوانينهم ولا دساتيرهم العبودية، ولا التمييز، ولا يعترفون بأي حق من حقوق الإنسان.

ويحاول الأعراب العودة إلى واجهة الأحداث ومسرح المنطقة عبر همروجة العرق العربي الطهراني المتفوق على البشرية فماذا لدى العرب ليقدموه اليوم للبشرية؟ وماذا يمكنهم أن يضيفوا للحضارة البشرية غير الاقتتال والحروب وتعزيز الانقسامات والنزاعات الأبدية ونقل صراعاتهم وخلافاتهم الجدلية والإشكالية إلى ربوع العالم الحائر وغير الفاهم والمتفهم لهم؟ وإذا لم يكن بالإمكان توحيد قرية عربية، أو عشيرة عربية، أو قبيلة عربية تحت راية واحدة وهدف واحدة مشترك فكيف سيتأتى توحيد هذه المجاميع البشرية المتناحرة والمتباينة فيما بينها، وكل هذه القبائل المتناطحة والمتوثبة؟

تترتب على شعوب المنطقة، اليوم، وقياداتها، مسؤولية كبرى، وهي التفكير ببدائل عصرية لتلك الفكرة العنصرية الهالكة، للالتفاف حولها، وللالتقاء على أهداف إنسانية وحضارية، أكثر نبلاً وتمدناً وتسامحاً ورقياً غايتها وهدفها الأساس هو خدمة إنسان المنطقة والارتقاء به فكرياً وعلمياً وسلوكياً لا إعادة بعث وإحياء للعصبويات والدمويات والجهويات والاصطفافات البدوية إياها، التي أحرقت الأخضر واليابس، وأهلكت الحرث والضرع، وقدمت كل ما هو فظ وغث ورث؟

نضال نعيسة
[email protected]