كنت فى الدراسة الابتدائية عندما سمعت بالأندلس (الفردوس العربي المفقود!). كان موضوع درسنا فى أحد الأيام عن التأريخ العربي بعنوان quot;الدرس الأخيرquot;. وهو يصف حال العرب عندما استرجع منهم الأسبان بلادهم، وأصدروا الأوامر الى المدارس بإيقاف تدريس اللغة العربية وعدم استعمالها فى المدارس مطلقا. وذكركتاب المطالعة الذى قرأت فيه هذه القصة أن أحد المعلمين العرب فى الأندلس كان يشرح لتلامذته كيف أن العرب (المحررين) دخلوا الأندلس وحرروها من طغيان المشركين وهدوهم الى نور الاسلام، وأقاموا فيها حضارة تفوق كل حضارة عرفت على وجه الأرض، وتهدج صوت المعلم وهو يطلب من التلامذة الانتباه جيدا واستيعاب ما سيقوله لأن ذلك الدرس سيكون (الدرس الأخير).
لقد تأثرت كثيرا مما قرأت وانتابنى الحزن الشديد على خسارتنا نحن العرب للأندلس، ولم نكن نعرف ولا معظم الناس فى ذلك الوقت، أن الأندلس هو اسم احدى المقاطعات الأسبانية ولكن العرب أطلقوه على اسبانيا والبرتغال (شبه جزيرة آيبيريا) فى ذلك الوقت، وانها كانت عامرة بالمسيحيين قبل أن يصلها القائد البربري طارق بن زياد وجيشه الخليط من العرب والبربر، ويفرض عليهم الدخول فى الاسلام أو دفع الجزية أو القتل.
كان أكثر جنود طارق من البربر وقد بعثه مولاه موسى بن نصير على رأس 7 آلاف محارب، وذلك فى عام 711 ميلادية ثم عززهم فيما بعد بخمسة آلاف. وبسب الخلافات بين الأسبان أنفسهم ونزاعهم حول السلطة لفترة طويلة، فقد أصبحت دولتهم هشة لا يجد الغازي صعوبة فى ازالتها. وكان الكونت يوليان حاكم سبتة، يحقد على رودريك (لوذريق) ملك الأسبان ويتمنى نهايته، فاتصل بموسى بن نصير وحرضه على غزو اسبانيا وأعطاه كل المعلومات التى تساعده على نجاح الحملة. ولما سمع موسى بانتصارات طارق، قرر أن يتبعه فى 12 ألف مقاتل حتى يشاركه بالنصر. وبعد انكسار الأسبان، استدعاهما الخليفى الأموي الوليد بن عبد الملك الى دمشق سنة 715 ميلادية، فتوجها اليها ومعهما 400 من أفراد الأسرة المالكة وجموع من الأسرى نساء ورجالا والعبيد ونفائس لا تقدر بثمن. ولسوء حظهما فقد مات الوليد بعد أربعين يوما من وصولهما وخلفه سليمان بن عبد الملك الذى أساء معاملتهما وصادر كل ما عندهما، ومات طارق بن زياد فقيرا معدما وقيل أنه شوهد فى آخر أيامه يتسول أمام مسجد فى الشام.
قرأت مقالا لكاتبة فى احدى الجرائد اليمنية حول الأندلس نشرته سنة 2002، أنقل للقارىء مقدمته:
((للفتوح الاسلامية طابع خاص وفريد إذ تختلف من اهدافها عن غيرها من الغزوات والحروب التي يخوضها غير المسلمين، ذلك ان الفاتحين المسلمين لايبادرون بالاعتداء على أحد من أجل نشر الدعوة عملاً بقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين) وإنما يبادرون برفع راية الجهاد إذا ماتعرضت حرماتهم ومقدساتهم للانتهاك او التهديد من قبل اعدائهم، او برزت نياتهم بذلك، فتكون فتوحات المسلمين دفعاً ودرءاً لخطر وشيك الوقوع (وهو مايعرف حالياً في الاستراتيجية بالضربة الوقائية او الضربة المسبقة) وسبيلاً في الوقت ذاته لنشر دعوة الاسلام في الوجود بالأساليب والطرق السلمية القائمة على الاقتناع الذاتي، ونقل المعارف الانسانية الراقية من معاملات وعلوم وآداب الى البلدان التي يفتحونها فيرتقون بانسانية البشر الى المستوى الذي يرتضيه المولى عز وجل لعباده العابدين)) انتهى.
لست أدرى هل أن الكاتبة تسخر أم جادة فى كلامها. للأسف الشديد هناك الكثيرون ممن يصدقون مثل هذه الروايات الخيالية. ان الكثيرين منا يخلطون الأماني مع الحقائق ثم يتخيلونها حقائق واقعة.
كل من درس التأريخ بامعان وحياد يدرك جيدا أن الجيوش العربية الغازية لم تخرج من الجزيرة الا للحصول على المغانم (المال والنساء). أما نشر الاسلام فلم يكن الدافع الأول فى تلك الغزوات التى أصاب فيها قادة الجيوش العربية مقادير هائلة من الذهب والفضة التى أخذوها عنوة من البلدان التى غزوها، وأرسلوا قسما منها الى الخلفاء فى الحجاز ثم فى دمشق وبعدها فى بغداد، حيث قسمت بين المقربين وبيت المال.
وحتى فى زمن الرسول الأعظم (ص) كان معظم المسلمين يحاربون من أجل الحصول على الغنائم، فمثلا : فى موقعة أحد، ترك بعض المسلمين مواقعهم التى أوصاهم الرسول بالبقاء فيها، وما أن شاهدوا المشركين يتقهقرون الا وتركوا مواضعهم طمعا فى الغنائم والتى لم تكن أكثر من درع أو سيف أو رداء ممزق يرتديه مشرك مقتول، وكانت النتيجة هزيمة المسلمين بسبب هذا الطمع.
بعد ان اسقط الجيش الاسلامي الامبراطورية الفارسية فرض علي اهلها الجزية وفرض علي ارضها الخراج، مع ان الفرس أنفسهم لم يعلنوا الحرب علي الدولة العربية، ولم يقتحموا الجزيرة العربية، بل العكس هو ما حدث، فالعرب المسلمون هم الذين اقتحموا علي الفرس ديارهم، وبعد ان هزموا الجيوش في مواقع متعددة داخل بلادهم، سلبوا كنوز الفرس في كل مدينة، وأخذوا النساء والاطفال سبايا وقسموها فيما بينهم، و بعدها فرضوا عليهم الجزية.
ويذكر الطبري عن غنائم العرب بعد فتح المدائن ما يفوق الخيال، من الذهب والجواهر وكنوز كسري وعرشه، حتي كانوا يجدون بعض البيوت مليئة بالذهب والجواهر، وجمعوا اطنانا من عطر الكافور وحسبوه ملحا فخلطوه بالطعام فأصبح شديد المرارة ( تاريخ الطبري 3/19 :20، تاريخ ابن كثير 7/ 67/66
أما فتح مصر، فقد كانت مصر محتلة ومضطهدة من قبل البيزنطيين، لذلك طلب المصريون من العرب المساعدة للتخلص منهم، وعاونوا جيش عمرو بن العاص وفتحوا له أبواب حصون الاسكندرية. والذى حصل أن الجيش العربي لم يخرج من مصر بعد طرد البيزنطيين، بل بقي هناك، وفرض الجزية على المصريين.
ان الفقراء المعدمين في البلاد المفتوحة كانت تؤخذ منهم الاموال لأثرياء العرب الذين تكدست لديهم الاموال من الغنائم والخراج والجزية. ذلك ان كل كنوز وثروات الفرس وأهل العراق، وثروات وكنوز الروم التي تركوها في الشام ومصر، كل ذلك سلبه العرب في الفتوحات، واقتسموه فيما بينهم، فأصبحوا وقتها اثرى اثرياء البشر، مخالفين بذلك شريعة الاسلام التي تنهي عن اكتناز الذهب والفضة، فضلا عن سلبها من اصحابها ظلما وعدوانا.
وبعد ان اصبح الاسترقاق والسبي والاستحلال شريعة لدي المسلمين في الفتوحات في تعاملهم في البلاد المفتوحة، انتقل هذا الى داخل المسلمين في الحروب الاهلية بينهم، حتي ان قتلة عثمان قد فكروا في سبي زوجته. الجاهلية هي التي عرفت تشريع السبي والاسترقاق ضمن ما تعارف عليه فى العصور الوسطي، ثم جاء الاسلام فأبطل ذلك، الا ان (الفتوحات) اعادت عادات الجاهلية حين كانت تستحل الاموال والاعراض في الغارات المتبادلة بين القبائل، ولم يكن عيبا سبي النساء العربيات وتداولهن بين ايدي الغزاة. كانت صرخات اطفال السبي في المدينة تتعالى دون ان يشعر بهم أحد، والمسلمون يعلمون ان اهل اولئك الأطفال قد تعرضوا للقتل والسبي والاسترقاق، وان ذلك الطفل قد فرقوا بينه وبين امه كما فرقوا بين الاب وابنائه والزوجة وزوجها والاخ واخوته، وبينهم وبين اوطانهم.
ويقول ابن سعد ان عمر(رض) كان لا يأذن للسبي من الاسري من الرجال بدخول المدينة. واستأذن المغيرة بن شعبة حتي سمح عمربن الخطاب بأن يأتي للمدينة ابو لؤلؤة فيروز المجوسي، وكان من سبي نهاوند، وقد سبى المسلمون زوجته وأولاده، ويقول عنه ابن سعد ( كان خبيثا، اذا نظر الي السبي الصغار يأتي فيمسح رؤوسهم ويقول ان العرب اكلت كبدي..) ويذكر ابن سعد ان ابا لؤلؤة المجوسي اعتاد ان يلتقي بأطفال السبي، ثم قتل عمرا انتقاما لسبي أهل بيته. واذا كان السبي للاطفال والرجال هو السبب في قتل عمر(رض) فان المال الذي سلبه المسلمون من البلاد المفتوحة كان السبب في النتيجة الثانية، وهي اغتيال عثمان والفتنة الكبري. لقد حرص عمر علي العدل في تقسيم الاموال بين العرب المسلمين، وجمع مع العدل الحزم في تعامله مع العرب، ولم يكن عثمان في نفس عدل عمر او حزمه، وحتي لو كان في عدل عمر او حزمه، فأن ذلك المال الحرام كان بتكدسه لدي العرب سيوقع التنافس والاختلاف فيما بينهم، وكان حتما سيؤدي بهم الي الاختلاف فالاقتتال. أي كان حتما مقتل عثمان بعد عمررضي الله عنهما.
وهنا نرجع إلى اشهر المصادر التاريخية لنتعرف على ثروات الصحابة التي جاءت منذ فتوحات عمر(رض)، ثم تكاثرت بعده :
عثمان بن عفان (رض) نفسه مع شدة كرمه وكثرة عطاياه كان له يوم مقتله ثلاثون الف الف درهم وخمسمائة الف درهم ومائة الف دينار، وقد نهبها الثوار الذين قتلوه وهو يقرأ القرآن، بالاضافة إلى ما قيمته مائتا الف دينار من الاصول.
الزبير ابن العوام : كان لديه 35 الف الف درهم ومائتا الف دينار، ويقال 51 الف الف درهم او 52 الف الف درهم، بالاضافة إلى مساكن وعقارات وخطط في الفسطاط والاسكندرية والبصرة والكوفة، كما ترك غابة او بستانا هائلا بيع بـ الف الف وستمائة الف.
عبد الرحمن بن عوف : الذي مات سنة 32 هـ قبيل عثمان، ترك ذهبا كانوا يقطعونه بالفؤوس حتي محلت ايدي الرجال منه.
سعد ابن ابي وقاص : ترك 250 الف درهم
ابن مسعود : توفي 32 هـ وقد حرمه عثمان من عطائه سنتين ومع ذلك ترك 90 الف درهم
طلحة بن عبيد الله : كان في يده خاتم من ذهب فيه ياقوته حمراء، وكان ايراده من ارضه في العراق الف درهم يوميا او ما بين 400 إلى 500 الف درهم سنويا في رواية اخري، وترك بعد موته الفي الف درهم ومائتي الف درهم، و مائتي الف دينار، وترك اصولا وعقارات بثلاثين الف الف درهم، وترك مائة بهار مليئة بالذهب في كل بهار ثلاثة قناطير او اثنين من الارادب، أي ترك 300 اردبا ذهبا او 200 قنطار ذهبا ( طبقات ابن سعد 3/ 53، 76، 77، 157 ) ( المسعودي مروج الذهب 1/ 544 : 545)
عمرو بن العاص : ترك عند موته سبعين بهارا من الذهب، أي 210 قنطارا او 140 اردبا من الذهب، واثناء موته عرض هذه الاموال على اولاده فرفضوا وقالوا : حتي تعطي كل ذي حق حقه، أي اعتبروها سحتا، فلما مات عمرو صادر معاوية هذا المال وقال ( نحن نأخذه بما فيه ) أي بما فيه من سحت وظلم ( خطط المقريزي 1/ 140، 564)
ويذكر المسعودي في مروج الذهب ( 1/ 544 ) ان زيد بن ثابت حين مات ترك من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس سوي الاموال والضياع، ومات يعلى بن امية وخلف خمسمائة الف دينار وديونا على الناس وعقارات تبلغ 300 الف دينار.
(ملاحظة: لغرض المقارنة نذكر ان مهر زواج الرسول (ص) كان 500 درهم فقط وتعادل أقل بقليل من 400 دولار أمريكي)
وهذه مجرد امثلة لأن الثروات الأكبر لم تقترب منها الروايات التاريخية، مثل ثروات معاوية ومروان بن الحكم لأن ثرواتهم استغلوها في اقامة ملكهم الأموي لتتسع هذه الثروات وتكون بيت المال الذي كان ملكا للخليفة الاموي نفسه. الا ان هذه الامثلة تثبت ان ما تم نهبه من اموال وثروات الامم المفتوحة قد تحول إلى اطنان من ذهب لدي افراد قلائل، فمن المنتظر ان تسهم هذه الاموال في اشعال نار الفتنة بين الصحابة الذين كانوا من قبل اصدقاء مناضلين في طريق الحق، فانتهي بهم الامر إلى العداء والاقتتال، خصوصا وان من بين الصحابة من رفض هذا السحت وذلك الظلم، وحاول الامام علي بن أبى طالب (ع) ارجاع الامر إلى ما كان عليه في عهد النبي ( ص)، وهوالذي عانى في خلافته الشاقة العسيرة التي استمرت حوالى 5 سنوات ومات قتيلا وهو يصلي سنة 40 من الهجرة، وكانت تركته 700 درهم فقط ويقال 600 ويقال 250 درهما، وهذا هو الفارق بين علي و بين اصحابه الذين حاربوه دفاعا عما اكتنزوا من الاموال الحرام.
عاطف العزي
المراجع الرئيسة:
جورجي زيدان/فتح الأندلس
الدكتور أحمد صبحي منصور/ واحة الحوار الإسلامي
التعليقات