لإيلاف أفضال عديدة على الكتاب العراقيين وقرائهم، لأنها توفر لهم منطقة محايدة يلتقون عليها، فيتفاهمون ويتقاتلون ويتبادلون الرأي والفكر والشتائم كذلك. وهي تلحق ببعضهم، في الوقت نفسه، أضراراً كبيرة لا يعرفها إلا الراسخون في علم الطبائع العراقية، العربية والكردية، الشيعية والسنية، على حد سواء. وأنا شخصيا أول المتضررين من إيلاف. فقد زل بي القلم مرة وتوهمت أنني لا أقل فطنة عن أي نائب في برلمان العراق العتيد ممن يتقنون الخطابة عن الوحدة الوطنية وعن مساويء المحاصصة وأخطارها، فنصبت نفسي واعضا مثلهم، وكتبت مقالا موجها لأشقائنا الأكراد محذرا من خطورة تحويل نضالهم من صراع مع الحكومات العراقية المتعاقبة، الظالمة في أغلبها، إلى صراع قومي بينهم وبين جماهير الشعب العراقي التي يعرف الجميع أنها هشة وطريو وسريعة الاشتعال.
وقلت فيه أيضا إن حكومات بغداد، من أيام العباسيين وإلى اليوم، كانت وما زالت، حكومات محاصصة مصلحية نفعية خالصة، يوحد فرسانها الطمع، عربا وأكرادا، شيعة وسنة، وإن ظلمها لم يفرق بين مواطن وآخر، مهما كانت طائفته وقوميته أو دينه. حتى قيل عن صدام حسين، مثلا، إنه لم يكن عادلا إلا في توزيع ظلمه بالقسطاط على جميع العراقيين، ومنهم، بل وفي طليعتهم، تكارتة عديدون، بينهم أقارب وحبايب ورفاق بعثيون كثيرون.
وبسبب ذلك المقال خسرت صديقي الحميم القائد الكردي الكبير كاكا فلان، وكنت أظن أن صداقته لا يهزها هزاز ولا يحزها حزاز، ولكنه قطعها، كما يبدو، وأثبت أن الخلاف في الرأي يفسد، أحيانا، في الود قضية، وكنت أتوقع أن ترده عن ذلك حرارة إيمانه بأن الديمقراطية والعلمانية هما المانع الوحيد لولادة ديكتاتور جديد يرث صدام حسين، وهما الضامن الكبير لوحدة الهوية الوطنية العراقية التي كان هذا الكاكا يقدمها على كل هوية أخرى، مع الإقرار بحق كل كائن حي في الاعتزاز بقومه أو طائفته أو عشيرته.
وقد أحببت منه ذات مرة أنه طلب مني أن أصحب وفدا من المثقفين العرب العراقيين الديمقراطيين إلى السليمانية لنجتمع بمثقفين قوميين أكراد لمحاورتهم وحملهم على تخفيف غلوائهم القومي، واصفا إياهم بأنهم عبء ثقيل على القيادة الكردية قبل أن يكونوا عبئا على شركائهم عرب العراق.
وأخشى اليوم أن أفقد في مقالتي الجديدة هذه أحبة جدداً من أصدقائي الأكراد. لأنني لن أكرر ما قلته في مقالتي السابقة وحسب، بل سأضيف إليه ما يعتبره بعضهم كفرا يستحق صاحبه رشاشا كبيرا من شتائمهم التي تعودنا عليها حين لا نكتب ما يحبون أو نكتب ما لا يعشقون. وكأنهم لم يسمعوا القائل إن صديقك من صدقك وليس من صدقك ( بتشديد الدال)، ولا بالمثل العراقي المعروف، (لا تمشي مع اللي يضحكك، وامشي مع اللي يبجيك). والحق في كل ذلك على الجيران.
فمن نكد الدنيا على العراقيين أن لهم جارتين لا يملكون فكاكا من جيرتهما، هما إيران وتركيا. وقد دفع سكان العراق المساكين، وما زالوا يدفعون، من أيام بابل وسومر وآشور والأمويين والعباسيين والسقوط والعهد العثماني وحتى اليوم، ثمنا باهضا لتلك الجيرة. ففي كل صيف أو في كل شتاء يتناطح هذان الثوران العظيمان على سطح العراق الواطي، ويتقاتلان، لا بقرونهما وحدها، بل بقرون وكلائهما العراقيين ذوي الولاءات المغشوشة التي استمرأت الاستقواء بأحد الجارين وأمواله وخناجره وسيوفه.
والحق الذي لابد أن يقال هنا إن العراق، بحكم موقعه الجغرافي، مواطنين، و(حكاما أيضا في بعض الاستثناءات التاريخية،) لا يختار معاداة أي من جاريه العزيزين، بل يعمل جاهدا على الاعتراف بأن لكل منهما عنده مصالح مشروعة لا يمكن نكرانها ولا قطعها. بل إن كثيرين من العراقيين يعيشون على خيرات تلك المصالح، ويحرصون عليها وعلى نموها، ولكن شرط أن تقوم على أساس المشاركة المتوازنة في المنافع، وفي حدود الاحترام المتبادل، ودون تسلط أو استعمار.
وبقدر تعلق الأمر بقادة الأكراد العراقيين فإن كثيرا من المصائب التي حلت بمواطنيهم الأكراد والعرب العراقيين معا كان سببها استقواؤهم بأحد هذين الجارين. ونبدأ بشاه إيران رضا بهلوي.
فلولاه، ولولا أطماعه في أرض العراق ومياهه وخيراته، لما امتلكت مليشياتهم أسباب القوة العسكرية والمالية، ولما توفرت لها القدرة لا على تهديد نظام بغداد الديكتاتوري وحده بل خلخلة الأمن الوطني العراقي ذاته وتعريض الوطن وأهله للضعف والمذلة والانتهاك.
ولولا دعم الشاه لثورتهم لما اضطر صدام حسين لتوقيع اتفاق الجزائر، وهو ينوي نقضه في أول فرصة سانحة.
ولولا قيام نظام البعث بطرد الخميني من العراق في العام 1969 لما نقم الخميني، بعد عودته الظافرة إلى إيران، تلك النقمة التي أغرته بتصدير ثورته إلى العراق للإطاحة بعدوه اللدود صدام حسين، والاندفاع من العراق إلى دول الجوار الأخرى، مستفيدا من جاليات إيرانية قوية متوطنة فيها، ومن جهل بعض المواطنين الشيعة العرب وتعصبهم الطائفي الضار، في العراق ودول الخليج العربية.
ولولا ذلك الصراع الشخصي بين العدوين، لما أحيت طهران لعبة الشاه السابقة، ولما فتحت لقادة الأكراد العراقيين أبواب خزائنها المالية والعسكرية.
ولولا دخول الأكراد العراقيين على خط الصراع المصيري بين الجبارين العنيدين لما أقدم صدام على تمزيق اتفاق الجزائر، مشعلا حربا مدمرة دامت ثماني سنوات، وأحرقت الأخضر واليابس، وأدخلت العراق في نفق الموت البطيء.
ولولا تلك الحرب وإفرازاتها النفسية والسياسية والاقتصادية لما أقدم على غزو الكويت لاستخدام موقعها ونفطها وثرواتها أوراقا يقوي بها موقعه في حربه مع بوش وإدارته.
ولو غزوه للكويت لما حدث كل ذلك الدمار في العراق، ولما هزم جيشه واحترق أبناؤه في صحراء الكويت، ولما فرض الحصار الدولي الظالم الذي جوع العراقيين وأذلهم، وجعلهم يتنازلون عن وطنيتهم، ويطلبون الخلاص من ذلك الكابوس بأي ثمن، حتى جاء على يد الشيطان نفسه، أملا في الانعتاق والعودة إلى حياة البشر من جديد.
ولولا ذلك الخراب والجوع والفساد والحصار لما تخلى عنه جيشه وحزبه، ولما قعد الشعب عن نجدته في محنته، ولما تركه يسقط في أيام.
ولولا بوش الأبن وشلة المحافظين الجدد لما سقط نظام الديكتاتور، ولما ركب على ظهر العراق فرسان المحاصصة الطائفية العنصرية الذين قادوا هذا الشعب المسكين إلى نفق الخوف والفساد من جديد، ولما قامت دولتهم هذه، دولة الرماد التي لا تستطيع أن تقف على قدمين.
من كل ما تقدم أصبح واضحا ما أعنيه. فمصائب العراق المتوالية، من أيام الشاه وأحمد حسن البكر، وفي ظل من خلفا وراءهما من حكام مجانين، يتحمل الأكراد نصيبا وافرا من تبعتها التاريخية الثقيلة، وهو ما يلقي على كواهلهم مسؤولية الجهاد الشاق من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه مما تسببوا في خرابه، قبل فوات الأوان.
ولست هنا في وارد الحكم على اصطفاف أي حزب أو زعيم سياسي مع عدو خارجي لوطنه لتحقيق أهدافه الداخلية، مهما كانت نبيلة ومشروعة، ومهما كان نظام الحكم الذي يريد إسقاطه فاسدا وفاقد الأهلية والشرعية. فمنذ بدء الخليقة كان الحاكم يقتل دفاعا عن الوطن، ومعارضه يقتل باسم الوطن ذاته، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وإلى ما لا نهاية.
وقبل أن أختم مقالتي هذه أسال، ماذا رأي حكماء الأكراد العراقيين في العرض الذي قدمه نيجيرفان بارزاني إلى الرئيس التركي، والذي يتضمن الوساطة بين تركيا وlaquo;حزب العمال الكردستانيraquo;، على أساس أن يلقي المقاتلون سلاحهم مقابل إعلان انقرة عفواً عاماً عن المتمردين الاكراد؟ ترى أين كانت حكمة القيادة الكردية العراقية حين سمحت بدخول كل تلك الأعداد من المتمردين، ليموت العديد من المواطنين الأكراد والعرب وليحل بالوطن العراقي كل ذلك الخراب في معارك المواجهات العبثية بين هؤلاء الضيوف الثقلاء وبين الجيش التركي على أرض العراق وفي مدنه وقراه وحقوله؟ وإذا كان المطلوب هو أن تعفو عنهم حكومة بلدهم، وتسمح لهم بعودة آمنة إلى منازلهم فلماذا خرجوا منها إذن؟.
والأغرب من الغرابة أن يتجرأ laquo;حزب العمالraquo; فيرفض إلقاء سلاحه، ويستنكر أن يطالبه أحد بمغادرة العراق.
بعد كل أسئلتي المزعجة ما زال لدي أمل كبير في أن يخفف غضبه مني صديقي الكردي الحبيب، كاكا فلان، لأن ما أكتبه لا يصدر إلا عن قلب ينبض بحبه وحب جميع مواطنيه، ولا أريد لهم منه سوى الخير والكرامة والسلام .
إبراهيم الزبيدي
التعليقات