منذ زمن ليس بالقصير يتم استخدام مفهوم الممانعة والاعتدال. وكلا المفهومين يترددان بطرق مختلفة في الأدبيات السياسية. هل المفهوم يأخذ دلالاته مما نريد تحميله لها، أم من حقل الصراع السياسي ذاته؟ لهذا نجد أن الأمر اختلط بالخطاب السياسي اليومي أكثر من ارتباطه بحقل الصراع السياسيquot; تولّد مفهومquot; الممانعةquot; في الخطاب السياسي والدّيني - من حقل الصراع العربي الإسرائيلي- ليعني الحفاظ على الحال القائمة بين أصحاب هذه الحال من السياسيين والمتديّنين، وتحصينها بما يُتاح لتكون منيعة - أي قوية - ضد الآخرين المنحرفين وهنا يمكن أن نضع أي أسم تحت هذا العنوان العدو الخارجي والمعتدلين، والمعارضين للأنظمة، ومُمانِعة - أي صامدة - في مواجهة مؤامراتهم. وهي القوّة الداخلية، والحيلولة السياجيّة، والصمود الجبهوي هو مطمح الخطاب/ العمل الدّيني في إطار تعاطيه مع التحديات والمؤامرات الخارجية. إنه يسوِّر الذات حمايةً من الآخرين، ولكن لا يحميها من شرور نفسها. إنه يُنعش وجدان المتدينين ويُرضي رغبتهم في البأس والقوّة حيال موجات التخريب والمؤامرة على الدين، ولكنه لا يُتيح لهم مدى أوسع في معركة إعداد القوّة الحضاريةquot; وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّةquot; ألا تشبه هذه المقولة شعارات رفعت من قبل تحمل نفس المضمون والدلالة لدى النظام في دمشق؟ بدء من الصمود والتصدي وانتهاء بما نحن فيه الآن من ممانعة مرورا بتحقيق التوازن الاستراتيجي وحتى ذلك الحين نعد ونصمد؟


انطلاقا من هذه المقدمة نجد أن النظام السوري من أكثر الأنظمة ممانعة، وهذا ما جسده عبر مسيرة بدأت منذ فشل العدو الإسرائيلي من إسقاط النظام في دمشق عام 1967 تاريخ نكسة حزيران، كما كانت النتيجة التي خلص إليها النظام على اعتبار أن العدو لم يحقق مبتغاه، وتجسد لاحقا فهما عميقا وعمليا من حقل الصراع السياسي ذاته، والذي توضع بعد حرب تشرين واتفاقيات الفصل على جبهة الجولان، ليأخذ بعده الأكيد، من حالة اللاحرب واللاسلم التي شكلت ولازالت تشكل حتى اللحظة، مولدا لحقل الممارسات الخطابية والسياسية والاقتصادية والثقافية في سورية.


الاقتصاد محتكر من قبل القرار السياسي، والانفتاح خارج شبكة القرار السياسي وتحكمه باللعبة يعتبر خيانة وتعاطيا الآن مع العولمة، أو مع الخارج.
الاقتصاد السوري الآن رهن بقرار أمني سياسي، وليس بيد مؤسسات الدولة الاقتصادية، والجميع يعرف تماما أنه لامناقصة تمر في سورية دون أن يسمح القرار السياسي باقتطاع نصيبه أو نصيب رجالاته. لا أحد من رجال الأعمال السوريين يستطيع المضي بخطة استثمارية منفتحة في سورية دون حصة للقرار السياسي.
والقرار السياسي وإن كان لا مؤسساتيا، أو يتمظهر فرديا لكنه في حقل الصراع السياسي، هو جملة من أصحاب النفوذ كما تسمى بلغة المتداول. ولهذا انبثقت مقولة السوق الاجتماعي، أو لنقل الممانعة هي أحد أهم أسباب المجيء بهذه المقولة المناهضة للانفتاح الاقتصادي الطبيعي.


أما على الصعيد السياسي من جهة إعادة إنتاج السلطة، فيجد نظام الممانعة ضالته منذ زمن بعيد في المادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن البعث هو الذي يقود الدولة والمجتمع ومن ليس بعثيا لا يحق له أن يصبح رئيسا للجمهورية، وانتخابيا كرس هذا النظام سياسة الاستفتاء، والتي هي مناهضة كليا للتنافس الانتخابي. وتسمح بتحكم الأجهزة بلعبة الاستفتاء هذه والاستفتاء لن يخسر في هذه الحالة.


وفي الثقافي نجد أن أية مقولة لا تدخل في حقل الشبكة الخطابية للنظام تعتبر مستوردة ويجب سد المنافذ أمامها، كمقولات الديمقراطية وحرية الرأي وتداول السلطة. إضافة إلى توريد مقولة الغزو الثقافي العزيزة على قلب الأنظمة المستبدة من جهة والإسلام السياسي من جهة أخرى.


ومن حقل الصراع ذاته نجد أن النظام في دمشق يعجز عن السلام كما يعجز عن الحرب، وهذه عودة للتأسيس التي جرت كما ذكرنا بعد حرب تشرين 1973. وهذه سياسة تشبه إلى حد كبير سياسة النخب السياسية الإسرائيلية والدينية تجاه المسار الفلسطيني.


سورية داخل سياج السلطة وحجب المعلومة والإعلام هي ذروة أكيدة لجهاز الممانعة هذا أو المناعة بالمعنى الطبي للمفردة. وهذه أيضا تعطي بعدها الأكثر تداولا لمفهوم المقاومة، والمقاومة هي دفاع عن واقع الحال، والحؤول دون المساس به، أو محاولة العودة إلى ماقبل الاحتلال. لهذا كتبنا منذ زمن بعيد أنه من الطبيعي جدا أن يكون الإسلام السياسي العربي حليفا للنظام في دمشق.


والنتيجة البسيطة لهذا الفهم الذي يحتاج منا جميعا إلى إعادة قراءة، نرى أن النظام السوري هو نظام ممانعة حقيقي، وليس مزيفا كما يحلو لبعض أطياف المعارضة السورية أن تظهره، وتتحدث بخطاب أسه في جهاز الممانعة ذاته، بأن النظام لوكان ممانعا حقيقيا لتصالح مع شعبه، ولأنه ممانع هو لايستطيع أن يتصالح مع شعبه. فالمصالحة انفتاح واعتدال، وليست ممانعة. والممانعة عدوة للسلام هذا أكيد كما هي الحال من لايستطيع أن يعيد للفلسطينيين حقوقهم، وهنا بالضبط ما كان يدور عن تلاقي مصالح بين الاستبداد الممانع، وبين السياسية الإسرائيلية. أبقوا أنتم كما أنتم. لأن السلام في النهاية هو تغيير جذري في حقل الصراع السياسي، يتطلب ممارسات سياسية من نوع مختلف عما تتطلبه أنظمة الممانعة. وهذه الممانعة أيضا هي سر من أسرار التحالف المتين بين دمشق وطهران. وعلى هذا يجب أن نؤسس خطابنا، وليس على اتهام النظام في دمشق بأنه نظام يدعي الممانعة وليس ممانعا. الممانعة أضحت منذ زمن جهازا مفاهيميا للتيارات القومية والإسلامية والاستبداد كتفا بكتف.

وبقي ملحوظة لا بد منها، ان ما تسمى أنظمة الاعتدال هي أنظمة الانفتاح الاقتصادي فيها لايسير بقرار سياسي احتكاري كما هي الحال عند الممانعة.


غسان المفلح