يتغافل تاريخ حقوق الإنسان عن حقيقة وجود جهود قديمة للدفاع عن حقوق الإنسان حصلت هنا أو هناك وكان لبعضها دور في تطور مسيرة هذه الحقوق عبر التاريخ ففي الوركاء المدينة السومرية القديمة نشا أول نشاط من هذا النوع وثقته سطور ملحمة جلجامش القيمة التي يعود زمن تدوينها إلى أواخر الألف الثالث قبل الميلاد حيث أشارت الملحمة إلى وجود تنظيم اجتماعي هدف إلى مقاومة سياسات( جلجامش ) الظالمة ومقاومة استباحته لحقوق الإنسان باسم الأعراف والقيم السائدة حيث كان يوقض رعيته على ضربات الطبل لكي يدفعها للعمل بالسخرة وكان يمارس طغيانا بحق فتيات المدينة التي تجبر للعمل في القصر وتلبية رغبات جلجامش الأمر الذي حرك المشاعر ودعم الحاجة لعمل ثوري يعيد الأمور إلى نصابها فكان العمل الدعائي فاعلا في شحن الناس وتهيئتهم لمواجهة غرور جلجامش وصلفه وأخيرا وجد الناشطون ضالتهم في شخص قوي قدم من البرية ( انكيدو) كان لهم خير عون بعد أن اعلموه بقضيتهم فما كان منه إلا أن قبل المهمة وتهيأ لمجابه جلجامش حاكم المدينة العنيف حيث اختاروا لذلك وقتا محددا انه عيد رأس السنة العراقية الذي يمارس فيه جلجامش طقس الزواج المقدس المشهور في بلاد الرافدين ويبدوا أن السبب الأساس في اختيار هذا اليوم نابع من حضور الناس لمشاهدة الاحتفال وحاجة الناشطين لتحدي قوة جلجامش أمامهم وفعلا حصل ما أمله هؤلاء إذ انتهت المنازلة بسماع جلجامش لشكاوى الناس و نزوله عند رغباتهم وقبوله انكيدوا مستشارا وصديقا بعد أن أعجب بشجاعته وتحديه له وبالتالي يمكننا عد هذه الحادثة أول نشاط إنساني منظم هدفه الأساس تحسين أوضاع الناس كما يمكن عدها أول انتفاضة شعبية عرفتها البشرية تمخضت عن رضوخ الحاكم لطلبات الرعية بعد أن اضطروه إلى ذلك وإذا علمنا أن هذه الحادثة مؤرخة بحدود النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد لأدركنا أهمية هذه الحركة الإنسانية وقدمها الزمني حيث ألهمت تطورات أخرى جائت نتيجة لنشاطات مماثلة ولعل حركة( اورو انمكينا ) في لكش بعدها بثلاث قرون من أهم تلك الحركات التي اتسمت بالنضج وتكللت بالنجاح حيث أثمرت عن تأسيس أول حكم شعبي في تاريخ العالم بعد أن أطيح بنفوذ الطبقة الاوليغارشية ( الغنية ) وحددت امتيازاتها إلى حد بعيد لكن هؤلاء كان لهم كلمة أخرى حيث تآمروا على الثورة من الداخل وتعاونوا مع خصم مدينتهم القديم حاكم اوما ( لوكال زاكيزي ) ليسهلوا عليه احتلال لكش في ثورة مضادة مثلت أول نموذج للصراع الطبقي عرفه العالم وبالتالي ربما ألهمت هذه الحركات حاكم أخر ينتمي إلى عرق الاكديين ليقوم بثورة جديدة أطاحت أولا بأسياده حكام كيش ثم تحركت لضرب نفوذ جبهة اوما ndash; الوركاء الاوليغارشية وربما ساهم أتباع اورو انمكينا في هذا التحرك وان لاتوجد أدلة مباشرة على ذلك لكن رجلا مثل (شار وكين ) عديم الأب ومن أسرة متواضعة كما تشير إلى ذلك قصة ولادته لابد أن يكون ممثلا لهذا التوجه ولذلك ربما تكون حركته امتدادا للحركات السابقة حتى أنها لم تحمل طابعا قوميا على أساس حصولها من شخص أكدي ضد سلطة سومرية بدليل عدم وجود أي إشارة لذلك في نصوص العصر وهو مايدل على أن الصراع في بلاد الرافدين لم يحمل آنذاك هوية قومية بل حمل هوية طبقية حتى أن هذا أصبح سمة من سمات التاريخ العراقي الذي لم تنشط فيه الحركات القومية إلى نادرا وربما مثل هذا العامل الأساس في وهن الدولة المزمن أو على الأقل احد العوامل المسببة لذلك.
أن ماتؤكده تلك الحركات العظيمة ليس وجود حس ثوري في البلاد وحسب بل ووجود حس تحرري إنساني أيضا فهدف العراقيين آنذاك من تلك الثورات لم يكن من اجل تحقيق مصالح قومية أو عنصرية كما قد يحصل في مثل هذه الحالات بل كان الدافع الأساس إنسانيا بالدرجة الأولى لذلك وجدنا الكثير من حكام ذلك العصر يهتمون بالعدالة والمساواة بشكل يندر أن نجد له مثيلا حتى في العصور الحديثة ولعل رغبة جلجامش في اخذ عشبه الحياة لسكان أوروك هو خير دليل على أن الحاكم آنذاك لايفرق بين حاجاته وحاجات الشعب وإلا لتناول العشبة من فوره ولما غامر بفقدها كما ورد في الملحمة ومع أن هذه القصة هي جزء من ملحمة أسطورية إلا أنها تحتوي على قدر من الحقيقة لأنها معبرة عن روح عصرها وقيمه حيث مثلت تلك القصة الرمزية خير صورة عن شكل العلاقة التي كانت سائدة آنذاك بين الحكام والرعية فما أحوجنا اليوم إلى تلك الروح والقيم العظيمة التي يفصلنا عنها آلاف السنين.
باسم محمد حبيب
التعليقات