خلقت نتائج الانتخابات البلدية التي جرت مؤخرا في مدن تركيا وشمال كوردستان خارطة سياسية جديدة أنهت الارتفاع المطرد الذي اعتاد عليه حزب العدالة والتنمية منذ وصوله الحكم في انتخابات 2002. الصحف التركية بما فيها الموالية لحزب العدالة اعتبرت أن الانتخابات دقت ناقوس الخطر على مستقبل هذ الحزب.


العدالة والتنمية حصل على أقل من 39% متراجعا ثمانية نقاط عن الانتخابات البرلمانية التي جرت صيف 2007، فيما حققت كل الأحزاب الأخرى تقدما كبيرا، فحزب الشعب الجمهوري استعاد بلدية انطاليا التي كانت بيد حزب العدالة والتنمية، و بقيت إزمير بيد حزب الشعب أيضا. وكذلك حقق حزب الحركة القومية المتطرف مكاسب في العديد من المناطق وازاح حزب العدالة عن بلدية أضنة، أما حزب السعادة الاسلامي الذي انشق عنه أردوغان حصل على 5،4 % مضاعفا عدد الأصوات التي حصل عليها مقارنة بالانتخابات البرلمانية السابقة. بالمحصلة، حتى في المناطق التي فاز فيها حزب العدالة والتنمية فإن الفارق بدا بسيطا بينه وبين منافسيه من الأحزاب الأخرى، ففي اسطنبول كان الفارق بين مرشحه ومرشح حزب الشعب الجمهوري نقطتان فقط بعد ان كانت اكثر من خمسة عشر نقطة في الانتخابات التي قبلها.


الصدمة الكبرى لأردوغان وحزبه كانت في منطقة كوردستان، حيث سيطر حزب المجتمع الديمقراطي على ثمانية مدن مستعيدا بذلك بلديتي وان وسيرت التي فاز فيها أردوغان مقعدا انتخابيا في انتخابات فرعية جرت في 2003، وزاد حزب المجتمع الديمقراطي مجموع البلديات التي يسيطر عليها من 34 بلدية عام 1999 إلى 54 بلدية عام 2004 إلى 98 بلدية في هذه الانتخابات، مزيحا بذلك حزب العدالة والتنمية عن المنطقة. ومن هنا فإن أردوغان فشل في أهم نقطتين كان يستند إليهما، الأول هو سيطرته على معاقل العلمانيين مثل أنطاليا، والثاني انه كان يعتبر نفسه الأول لدى الناخبين الأكراد.


عموما، بالنسبة للوضع الكوردي، نجاح حزب المجتمع الديمقراطي الكردي في إزاحة حزب أردوغان عن منطقته يتضمن ثلاثة رسائل على ثلاثة مستويات، ومن هذا المنطلق يمكن اعتبارها الانتخابات التي حسمت الجهة المخولة بوضع خارطة الطريق لحل القضية الكوردية :


أولا : المستوى الدولي
وبالتحديد إلى الولايات المتحدة الأميركية التي تصنف حزب العمال الكوردستاني ضمن قائمة المنظمات الارهابية، هذه الانتخابات أثبتت أن الشعب الكوردي يقف خلف قوة حزب العمال الكوردستاني وحليفه السياسي حزب المجتمع الديمقراطي، وعليه : إن تصنيف الحزب الأول في شمالي كوردستان كحزب إرهابي يستند لمصالح مناقضة للديمقراطية، وهذه النتائج تشكل فرصة لدول اوروبية كثيرة مثل ألمانيا وانكلترا وفرنسا لمراجعة سياساتها المتحالفة مع سياسات أنقرة المعادية للحقوق الكوردية، ولا ننسى في هذ الاطار دخول اسبانيا لخط الاستجابة لضغوط أنقرة واميركا باعتقالها للسياسي الكوردي رمزي كارتال قبل أسبوع. خلاصة القول: أن حزب المجتمع الديمقراطي حصل في المناطق الكوردية نسبة أعلى بكثير مما حصل عليه الديمقراطيون في اميركا، فإذا كانت إدارة أوباما والدول الأوروبية تستند إلى رأي المناهضين للحقوق الكوردية لاجهاض مبادرات السلام التي يطرحها حزب العمال الكوردستاني وحزب المجتمع الديمقراطي فإن رأي المناهضين لأميركا واوروبا استنادا لهذا المقياس يكون مبررا قولا وفعلا.


ثانيا : المستوى التركي الداخلي
فشل حزب العدالة والتنمية رغم محاولاته شراء الأصوات من خلال الرشاوي او الهبات التي كان يقدمها باسم الدولة للفقراء الأكراد الذي تقف حكومته وراء حالة الفقر التي هم فيها ثم تاتي لتوزع عليهم الهبات الخيرية. نتائج الانتخابات قالت quot; لا نقبل زكاة ممن يسرقنا ويقتل أبناءناquot;.
أردوغان صرح سابقا انه سينتزع بلدية دياربكر من أيدي حزب المجتمع الكوردي، وتحداه يومها رئيس البلدية الكوردي عثمان بايدمير بقوله : دياربكر قلعتنا ولن تستطيع أي قوة أخذها مناquot;. كلام أردوغان ذهب مع الريح، وكذلك الاصلاحات الشكلية التي قام بها والتي أعجبت بعض الأكراد ومعظم المراقبين للوضع من الخارج، خاصة العرب الذين اعجبهم بعض تصرفات quot;حج أردوغانquot;، إحدى الخدع هي محطة تلفاز تبث باللغة الكوردية. اعتقد ان الشعب الكوردي قال كلمته بأن quot;قناة ناطقة باللغة التركية تخدم الحقوق الكوردية لهي أفضل من قناة كوردية تترجم الأيديولوجيا المعادية لهم من التركية إلى الكورديةquot;. ولن أنسى هنا ان ألفت نظر الاخوة العرب إلى نقطة تخص هذه القناة، ولذلك سأكتبها على سطور مستقلة :
quot; اخي العربي، إذا كانت هذه القناة العميلة تمنحك الدافع لتعتقد ان أردوغان هو الشخص الأمثل لحل القضية الكوردية وما يقوله يجب على الأكراد الالتزام به، أرجو منك أن تلتزم بكلام تسيبي ليفني وايهود باراك ونتياهو لأنهم يبثون لكم باللغة العربية تلفزيونيا وإذاعيا منذ عشرات السنينquot;.


ثالثا : المستوى الكوردستاني
حصل حزب المجتمع الديمقراطي على 65 % من الأصوات في العاصمة دياربكر (آمد)، وبالتالي فإن الانتخابات أثبت صحة وجهة النظر الكوردية المناهضة للسياسات التركية العسكرية والأمنية والاقتصادية. وعليه فإن أكراد العراق يمكن ان يستفيدوا من تجربة دياربكر لتطبيقها على كركوك، وموقفهم الآن أصبح أقوى بكثير خاصة ان تركيا الرسمية خضعت لارداة الشعب الكوردي في شمال كوردستان، ولن يكون الموقف في كركوك أصعب من دياربكر. هذا فيما يخص تركيا وتدخلها في حسم مصير مدينة كركوك الكوردستانية. نجاح حزب المجتمع الديمقراطي أجهض الخطأ الذي كان يرتكبه الرئيس مام جلال ورئيس حكومة الاقليم نيجيرفان البرازاني بدعوتهما حزب العمال الكوردستاني إلقاء سلاحه، لأنه بدون هذا السلاح كانت قوات الأمن ستفرغ صناديق الانتخابات ليلا وتستبدلها بأخرى مليئة بأصوات وهمية لصالح الأحزاب التركية المناهضة للحقوق الكوردية وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية. من جانب آخر، يمكن للرئيس مسعود البارزاني الاستفادة من سلوك رؤساء البلديات الكوردية الفائزة الذين أعلنوا قبل كل شيء، وحتى قبل فرز الأصوات بشكل كامل، ذممهم المالية لتفادي أي خروقات مستقبلية ولزرع ثقة الشعب بهم من خلال الشفافية الكاملة بدءا من الوضع المادي الشخصي. مواجهة الفساد في اقليم كوردستان لن تتم إلا بهذه الطريقة.


المطلوب الآن إدراك الكورد لحقيقة المصير المشترك والحل المشترك لقضيتهم، أو على الأقل عدم ممارسة الطعن في ظهر الأخ، المهم أن لا تصبح نتيجة الانتخابات هزيمة للرئيس جلال الطالباني أيضا الذي راهن كثيرا على تأييد غالبية أكراد تركيا لحزب أردوغان، بل فرصة لمراجعة مواقفه الأخيرة، وان يخرج بموقف يثبت عليه، لأننا لم نعد نصدق مواقف الرئيس مام جلال لكثرة انقلاباته على آرائه.


حسين جمو