طلب إلي العديد من الرفاق الشيوعيين أن أكتب حول المقاربة العلمية لانسداد الطريق أمام مسيرة الشيوعيين وكيفية فتحها لاستئناف المسيرة والتقدم نحو الشيوعية. ودلّ أحدهم على مخرج محدد هو ما سمّاه quot;تحيينquot; المشروع اللينيني بادعاء احتفاظ المشروع براهنية تتجاوز التاريخ بنحو قرن حافل بكبرى الأحداث التاريخية لتنطبق شروطه على واقعنا الماثل. هنا أود أن أقول كلمتين لرفاقي الأعزاء، سعيد وعبد الرحمان وعبد المطلب والآخرين وهي أن الأزمة العامة الماثلة اليوم هي أزمة البشرية جمعاء ولم تعد أزمة الشيوعيين وحدهم وإن تسبب فيها quot;الشيوعيونquot; حيث أنها دون شك من تداعيات انهيار المشروع اللينيني بفعل البورجوازية الوضيعة السوفياتية داخل الحزب الشيوعي السوفياتي وقد تسللت إليه جرّاء مفاعيل الحرب الكبرى وبمساعدة هامة من خروشتشوف وقد أصبح في العام 1953 الأمين العام المسؤول عن الشؤون التنظيمية في الحزب، وهي ذاتها البورجوازية الوضيعة السوفياتية التي كان قد حذّر من خطرها الرفيق ستالين في العام 1937 ؛ كما أقول أيضاً أن التاريخ لا يعود إلى الخلف ولا يمكن تجاوزه ؛ بل لقد تجاوز التاريخ مشاريع آباء الشيوعية الأوائل، ماركس وإنجلز ولينين، (الأمميات الثلاثة) في الأعوام 1864، 1889، 1919 على التوالي، التي اقترحوها للانتقال إلى الشيوعية دون أن ينجح أيّ منها بسبب ذات البلاء ألا وهو ابتلاؤها ثلاثتها بالبورجوازية الوضيعة تتفشى بين صفوفها وتستولي بالتالي على قياداتها. فشل المشاريع الثلاثة يجب أن يظل عبرة للشيوعيين في القرن الحادي والعشرين، ليس أكثر من ذلك، دون الرجوع إليها أو إلى أي من مندرجاتها، فالتاريخ لا يعود إلى الخلف، كما قلنا، إلاّ ليهزأ من عودته.

أي حديث عن خروج الإنسانية ـ وليس الشيوعيين وحدهم ـ من الأزمة الراهنة إنما هو محض هراء قبل التعرّف على الأزمة وتشريحها تشريحاً دقيقاً، وفحص أنسجتها مجهرياً كما يقتضي روتين معالجة الأمراض الصعبة، وإلاّ لن تخرج البشرية منها على الإطلاق. مثل هذه الإجراءات المخبرية العلمية ما زالت غائبة عن أجندات quot;الشيوعيينquot; الذين تركهم لنا خروشتشوف السوفييت وخروشتشوف الصين (دنغ هساو بنغ) المنحدرين سائرهم من طبقة البورجوازية الوضيعة، فما بالك بغير الشيوعيين من المرجعيات البورجوازية التقليدية !! السؤال الحازب اللازب اليوم والذي يكشف عن سر تمنع quot;الشيوعيينquot; حتى اليوم عن البحث في طبيعة الأزمة العامة الماثلة وتحديد عناصرها، رغم خطورتها الماحقة، هو لماذا التمنّع والشيوعيون كما افترضهم ماركس هم طلائع البشرية وروّادها ؟ ليس من جواب آخر على هذا السؤال سوى أن أي بحث في طبيعة الأزمة التي بدأت بانهيار المشروع اللينيني سيقود إلى حقيقة دامغة تقول أنهم هم أنفسهم، أيتام خروشتشوف ودنغ هساو بنغ، سببها ؛ لذلك فقط يرفضون رفضاً قاطعاً ومشبوها أي بحث في الأزمة بحجة جوفاء تثير السخرية حقاً وليس ما يسندها في علوم الماركسية وهي أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان بسبب البيروقراطية ـ ألا يخجل هؤلاء من مثل هكذا فجاجة بل وقاحة ؟ حبذا لو كان قادة الحزب الشيوعي السوفييتي فيما بعد العام 1954 بيروقراطيين !! لو كانوا بيروقراطيين لما وجدنا عناصر خارج مكاتبهم تعمل بكل طاقتها على تهديم البناء الاشتراكي الضخم الذي بناه ستالين على رأس الحزب الشيوعي خلال عشر سنوات فقط 1928 ـ 1938، البناء الذي واجه الرجعية الأوروبية بأبشع صورها واستطاع أن يسحقها بجبروت لم يعرف التاريخ مثيلاً له. لا ماركس ولا غيره من علماء الاقتصاد والسياسة تحدث عن طبقة اجتماعية بحالها اسمها البيروقراطية، تقوم بإنتاج البيروقراطيا وتبيعها في السوق المحلية إلى شعبها لسد حاجته إليها !! في الحقيقة لم تكن أي من قيادات الحزب الشيوعي السوفياتي بيروقراطية على الإطلاق. ألم quot;يقتل ستالين عشرات الآلافquot; كما يزعمون وهو ما يعني أنه كان يقود حرباً طبقية هوجاء لا تهدأ ؟!! وهل كان خروشتشوف بيروقراطياً وقد قاد حملة هوجاء أيضاً ضد الستالينية واستطاع خلال ثلاث سنوات فقط أن يلطخ صورة أعظم قائد ظهر في التاريخ كما تصفه الموسوعة البريطانية ويلغي دكتاتورية البروليتاريا، ثم يتوّج الفلاحين قادةً للعبور الإشتراكي (!!) وقد أقنعهم شخصياً باستبدال زراعة القمح بزراعة الذرة على الطريقة الأمريكاني واعتبر ذلك أهم إنجازاته، وهو الذي استزرع حواف الدائرة القطبية في كازاخستان بالقمح؟!! أم بريجينيف الذي ملأ الدنيا أسلحة مجانية أو شبه مجانية حتى وصلت مبيعاته السنوية من الأسلحة quot;الإشتراكيةquot; إلى العالم زهاء عشرة مليارات من الدولارات الثقيلة، كما ملأ سماء العالم أقماراً صناعية ؟!! هؤلاء كانوا حقاً قادة الصراع الطبقي وجنرالاته. حارب كل منهم حرباً ضروساً دفاعاً عن الطبقة التي ينتمي إليها فعلياً ضد الطبقة الأخرى المعادية دون أن يهدؤوا وينعزلوا في مكاتبهم للحظة واحدة، بل ظلوا مدار الساعة يقودون حروبهم الطبقية ؛ لم يكونوا بيروقراطيين على الإطلاق، و quot;الشيوعيونquot; الذين يصرّون على القول بالبيروقراطية سبباً لانهيار مشروع لينين إنما هم الذين لا يرغبون في استئناف المسيرة نحو الشيوعية. الداء الخطير الذي تكابده البشرية اليوم هو أن البورجوازية الوضيعة بحكم ضعتها أولاً ودهائها ثانياً كانت قد استولت على قيادة الأحزاب الشيوعية بما في ذلك حزب لينين وستالين وجرّت العالم، كل العالم، إلى أن يهوي في مثل هذه الهاوية السحيقة التي لا قرار لها ـ مع هذه الحقيقة القاطعة فقط التي ما زال أيتام خروشتشوف ودنغ هساو بنغ ينكرونها يمكن أن يبدأ البحث في الأزمة الخطيرة الماثلة وتعيين عناصرها من أجل أن يعرف الشيوعيون كيفية مواجهتها وهم الطليعيون في الأمم كما افترضهم ماركس.

الأزمة الماثلة اليوم هي أخطر أزمة واجهتها البشرية عبر تاريخها الطويل، وذلك لأنها ذات طبيعة مختلفة نوعاً عن كل الأزمات التي عرفتها البشرية وخطورتها التي رتبها انهيار الثورة الإشتراكية هي خطورة استثنائية جداً لدرجة أنها يمكن أن تكون كارثية ماحقة للبشرية من خلال حرب نووية عالمية لا تبقي ولا تذر، ومثل هذه الحرب هي أكثر احتمالاً من أية نهاية أخرى للأزمة. لا نقول بهذا من باب التشاؤم بل من باب آخر نأتي على حيثياته في التالي ـ لكن ما وجه الإختلاف ولماذا هو اختلاف نوعي ؟


علّمنا كارل ماركس أن المجتمعات البشرية تطورت عبر التاريخ في مراحل مختلفة بفعل تطور قوى الإنتاج. تتطور قوى الإنتاج، إن في شق أدوات الإنتاج بما في ذلك الطاقة المادية المستخدمة وإن في شق الطاقة البشرية في اليد العاملة، فلا تعود هذه القوى تتواءم مع علاقات الإنتاج الناظمة لعملية الإنتاج. يتبدى ذلك في الصراع الطبقي بين المنتجين المباشرين الذين يشغّلون أدوات الإنتاج وأولئك الذين يملكون أدوات الإنتاج. تزداد حدة الصراع مع تطور قوى الإنتاج المتراكم حتى الوصول إلى النقطة الحرجة حين تنسد كل مسالك التطور، عندئذٍ تحدث الثورة لينبثق عنها مجتمع جديد لا علاقة له بالمجتمع السابق إن بقوى الإنتاج أم بعلاقات الإنتاج. حدث ذلك في المجتمع العبودي وانسدت مسالكه فتراجع المجتمع واندثر بما في ذلك العبيد والسادة وحلّ محلّه المجتمع الإقطاعي ليبدأ الصراع من جديد بين الأقنان والإقطاعيين وصولاً إلى الثورة واندثار طرفي الإنتاج، الأقنان والإقطاعيين معاً، فيعقبه النظام الرأسمالي ويتصارع العمال والرأسماليون فيه حتى قيام الثورة واندثار الطرفين ومعهما المجتمع الطبقي نهائياً من تاريخ البشرية عبر الثورة الإشتراكية ـ هكذا هو القانون الذي يحكم تطور المجتمعات البشرية. حكم التاريخ، من خلال مختلف القوى الرجعية في روسيا التي رفضت إنجاز الثورة البورجوازية بقيادة البلاشفة ورفعت السلاح بوجههم، حكم على لينين والبلاشفة في العام 1919 أن يقوموا بالثورة الإشتراكية في روسيا المتخلفة بالإنتاج الرأسمالي، مسترشدين أيضاً برأي من ماركس نفسه وقد قال في مقدمته لترجمة البيان الشيوعي إلى اللغة الروسية عام 1882 أنه من الممكن أن تنطلق شرارة الثورة الإشتراكية من روسيا لتعم القارة الأوروبية. انطلقت شرارة الثورة من روسيا وعمت الثورة آسيا وأفريقيا وشرق أوروبا بعد أن قمعت فيالق الفاشية المسلحة الثورة في ألمانيا والمجر وليتوانيا في أوروبا، وبدأ أكثر من ثلث البشرية يغذ السير على طريق الاشتراكية بعد أن واجه مشروع لينين أعتى قوى الرجعية والنازية وسحقها بجبروت هائل، إلا أن مركز الثورة، المشروع اللينيني في موسكو، ما لبث أن بدأ بالانهيار بفعل البورجوازية الوضيعة السوفياتية وهو ما دفع بالعالم إلى السقوط في الهاوية التي تعاني فيها البشرية جمعاء اليوم بعالميها، عالمها وريث الرأسمالية وعالمها وريث الاشتراكية.

كان مشروع لينين قد سجل انتصاراً عالميا باهراً حين سحق ألمانيا الهتلرية حتى التراب في العام 1945 بعد أن كانت قد سحقت هذه الأخيرة وصفّت أكبر إمبراطوريتين استعماريتين، بريطانيا وفرنسا. بمثل هذه النتيجة هبت شعوب المستعمرات والبلدان التابعة بثورة تحرر وطني عارمة عمّت أكبر ثلاث قارات في العالم وهي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. النجاحات الأولية السياسية التي حققتها هذه الشعوب 1946 ـ 1972 أحكمت الخناق على الرأسمالية الإمبريالية فكان لا بدّ لها من أن تنهار. بدأ الإنهيار بقلعة الإمبريالية، الولايات المتحدة وقد أنفقت في مقاومة الشيوعية أكثر مما تحتمل. في العام 1971 أرغمت الولايات المتحدة على الخروج من معاهدة بريتونوود التي تقضي بغطاء العملة الوطنية بالذهب بنسبة 20% على الأقل، ولم يعن ِخروجها سوى الشروع بطباعة مليارات الدولارات بدون غطاء ـ وهذا عين الخيانة للنظام الرأسمالي نفسه ولا تقوم به أية قوى رأسمالية حقيقية !! في العام 1972 أرغمت الولايات المتحدة على خفض قيمة الدولار رسمياً (devaluation)وتكرر ذلك في العام 1973 وعندما تحققت الإدارة من أن ذلك لم يعد يجدي، وأن الإنهيار الكلي والشامل بدأ يلوح واضحاً في الأفق القريب، قام وزير الخزانة وليام إدوارد سيمون في نوفمبر 1974 بدعوة وزراء المالية في الدول الرأسمالية الغنية، بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان (G5) إلى اجتماع عقد في مكتبة وزارة الخارجية ليحذرهم من أن انهيار الولايات المتحدة الوشيك سيؤدي آلياً إلى انهيار دولهم بنفس الوقت مهما قاوموا ذلك. وبعد بحث مستفيض اتفق المجتمعون على نصوص إعلان رامبوييه الذي أعلن في ختام أول مؤتمر قمّة للدول الصناعية الخمس الغنية (G5) في رامبويية 16 نوفمبر 1975. لقد أعلن الخمسة الكبار أن نقودهم مكفولة بالتكافل الجماعي (؟؟) وأن صناديقهم المترعة بالأموال ستفتح للدول التي فكت روابطها معهم لتقترض منها ما تشاء وبأيسر الشروط من أجل إعادة العلاقات إلى ما كانت عليه. إعلان رامبوييه مثّل تفجيراً نووياً هائلاً أزاح العالم من مساره التاريخي الطبيعي إلى مسار منحرف لم يكن في الحسبان وما كان ليفعل فعله هذا إلا لأن الثورة الإشتراكية كانت قد بدأت تخمد وتتراجع وبدت عليها علائم الإنهيار ولم يعد لديها القوة الكافية لمقاومة ذلك الخروج عن مسار التاريخ خاصة وأنها هي نفسها كانت قد بدأت بالخروج عن مسارها التاريخي.

لا أدري فيما إذا لم يكن مع قادة الدول الخمس الصناعية الكبرى في رامبوييه تلميذ في علم الإقتصاد ليقول لهم أن فصل النقد عن قيمته البضاعية يعني مباشرة انهيار النظام الرأسمالي وأن تثبيت سعر الوحدة النقدية بفرمان همايوني من فوق (التكافل الجماعي الفارغ من كل قيمة) إنما هو فصل الوحدة النقدية عن قيمتها البضاعية. الرأسمالي ينتج بضائع كي يبادلها بعملة دخلت السوق وخرجت منه وقد أثبتت قيمتها البضاعية الحقيقية، وليس بعملة مقررة سلفاً قيمتها دون أن تدخل السوق البضاعية على الإطلاق ـ ربما كان ذلك متاحاً زمن النقد الذهبي الذي قصّر عن تغطية التجارة الرأسمالية نظراً لكثافتها. انهار النظام الرأسمالي في السبعينيات لكن ليس لصالح مشروع لينين الذي كانت البورجوازية الوضيعة السوفياتية قد بدأت النكوص عنه، وبدا خائراً لا يقوى على حمل نفسه، بل لصالح البورجوازية الوضيعة، الطبقة الوسطى، في كل مكان. هذا بالضبط هو بذرة الأزمة. الطبقة الوسطى لم تخلق أصلاً لتقود عملية الإنتاج ؛ ليس لديها الوسائل أو الأدوات أو أي من عناصر الإنتاج الرئيسة يؤهلها لقيادة عملية الإنتاج. إنها مجرد خادم وضيع لعملية الإنتاج (subservient)، أما أن تتسلم القيادة في عملية الإنتاج فهذا يعني تراجع الإنتاج وبدء عملية الإفقار للمجتمع. فماذا يعني تناقص الطبقة العاملة في بريطانيا خلال الربع الأخير من القرن الماضي بأكثر من 12 مليون عامل ؟ أو في الولايات المتحدة بأكثر من 30 مليون عامل ؟ إنه لا يعني سوى أن السلطة لم تعد في أيدي أحد طرفي الإنتاج الرأسمالي، العمال والرأسماليين. لعل هناك من يدعي بأن هذا التناقص في أعداد العمال إنما هو النتيجة الطبيعية للأتمتة. بافتراض صحة الإدعاء، يظل السؤال لماذا يبرح هؤلاء العمال الإنتاج بالأتمتة الحديثة فيغتني المجتمع أكثر فأكثر لكنهم ينتقلون بدلاً عن ذلك من حقل الإنتاج الحقيقي، السلعي المادي(Real Production) إلى الطبقة الوسطى فينتجون الخدمات التي لا تسمن ولا تغني عن جوع، فتغدو لذلك الولايات المتحدة التي كانت أغنى دولة في العالم في خمسينيات القرن الماضي أفقر دولة في العالم في نهاية القرن إذا ما طرحت قيمة دينها العام من مجموع موجوداتها، ومثلها أيضاً بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا. سيادة الطبقة الوسطى التي بدأت في المجتمعات الرأسمالية فيما بعد العام 1975، وفيما قبله في المجتمعات الاشتراكية، أرّخ فعلاً لمسيرة إفقار تلك المجتمعات. تغوّلت الطبقات الوسطى في مجتمعاتها وأخذت تنتج من الخدمات أضعافاً مضاعفة مما يحتاجه الإنتاج السلعي منها ومع ذلك تبيعها في سوق موازية مصطنعة بأضعاف قيمتها الحقيقية.

أمام عجز قوى الإنتاج الثورية عن إنجاز الثورة الإشتراكية قامت عصابات الطبقة الوسطى باختطاف العالم وشوّهت الهيكل الطبقي في سائر الدول وهمّشت الطبقة العاملة بشكل خاص وأبعدتها عن خشبة المسرح الدولي بادعاء أن المعرفة، التي تدعي زوراً إنتاجها، قد غدت القيمة الأولى في السلعة وفي كافة المنتوجات وليس العمل اليدوي كما حال المنتوجات الرأسمالية سابقاً. مثل هذه العصابات هي ليست أكثر من قطّاع طرق، عصابات متطفلة على الإنتاج دون أن تملك أي مؤهل يؤهلها لقيادة عملية الإنتاج، بل العكس هو الصحيح فقد تطفلت على الإنتاج وأخذت تدمر الإنتاج منذ العام 1975 وبتنا نرى أغنى الدول التي كانت تصطرع لتأمين أسواق جديدة لفائض إنتاجها تعتاش اليوم على الاستدانة أو على الاستدانة والسرقة معاً، كما تفعل الولايات المتحدة.


ما معنى أن تكون السلطة بأيدي جماعة ليست طرفاً رئيسياً في الإنتاج ؟ هذا يعني مباشرة أن ميكانزم الحركة في التاريخ قد تعطلت نهائياً. محرّك التاريخ الذي اكتشفه كارل ماركس وهو الصراع الطبقي لم يعد يعمل. في المؤسسات التي ما زالت محتفظة بشكلها الرأسمالي يتصارع العمال والرأسماليون كي ينتجوا غير أن الإنتاج لا يعود على الطرفين بأي أثر يجدد ويطور عملية الصراع، بل تستولي علية الطبقة الوسطى بطرقها الملتوية الخبيثة وتسفّ في استهلاكه وتبذيره ؛ والنتيجة المباشرة لذلك هي همود الصراع، المحرك الوحيد للتطور. في مثل هذه الحالة الشاذة يتوقف التاريخ عن الحركة وليس من قوة في الأرض قادرة على تحريكه دون أن يعود الصراع الطبقي يحتل خشبة المسرح بعد تحريرها وتطهيرها من كل آثار الطبقة الوسطى التي تنهب مخرجاته ـ يدخل الركاب إلى العربة ويجلسون في مقاعدهم استعداداً للإنطلاق غير أن مفتاح التشغيل مع شخص آخر يركب في عربة أخرى !! كذلك هو حال أزمتنا الراهنة ؛ لن يتحرك التاريخ قبل استعادة مفتاح التشغيل من الشخص الغريب في العربة الأخرى !!

المثقفون وعموم الأنتلجنسيا هم دائماً من طبقة البورجوازية الوضيعة الخائنة بحكم طبيعتها ودورها الثانوي في الإنتاج. كانت الأنتلجنسيا تقف دائماً عبر التاريخ ضد الطبقات الحاكمة بدءاً بالسادة مالكي العبيد ثم الإقطاعيين ثم الرأسماليين حيث كانت خيانتهم تتحقق بالانحياز الآلي إلى القوى التقدمية وهو ما كان يطمس دمغة الخيانة فيهم ؛ أما حينما يخونون طبقة البروليتاريا المكلفة تاريخياً بالقضاء على كل الطبقات فليس ذلك إلا خيانة لا تمّحي ولا يمكن طمسها، خيانة تدمغ كل تاريخ البورجوازية الوضيعة ومنها الأنتلجنسيا بدمغة الخيانة غير القابلة للمحو أو الطمس. تنحاز الطبقة الوسطى إلى ذاتها الطبقية وهذا أمر طبيعي، لكن ليس لها أن تستولي على السلطة وهي لا تملك أية أدوات للإنتاج، التي هي وحدها أدوات السيادة في المجتمع. إنها لذلك وبحكم طبيعتها طبقة خائنة استطاعت مؤخراً أن تخطف السلطة عن طريق الغدر والخيانة ولا يعفي تاريخها من الخيانة خروج أفراد منها كانوا قد رفضوا دورها الخياني ووقفوا مع البروليتاريا وقفة تاريخية سجلها لهم التاريخ في صفحات مضمخة بالنبل والشرف مثل ماركس وإنجلز ولينين وستالين وخلفهم أعداد من المستنيرين بالماركسية.

القوانين الناظمة للحياة البشرية في مجتمعات لا يمكن أن تتعايش مع مجتمع تكون السلطة فيه في واد والمنتجون في واد آخر، لا بل العلاقة الوحيدة بين الطرفين، السلطة والمنتجين، هي فقط أن تسرق السلطة إنتاج المنتجين بغض النظر عن شكل الإنتاج سواء كان إنتاجاً إشتراكياً أم رأسمالياً، وهذا الأخير شروطه صعبة وضيقة على الطبقة الوسطى بعكس شروط الإشتراكية. الطبقة الوسطى تغتصب السلطة في سائر بلدان العالم اليوم وتسرق الإنتاج القومي وتسف في استهلاكه وتبذيره تحت حجج كاذبة من مثل الحرية والديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان وهي ذات الحجج التي استخدمها الرأسماليون سابقاً في نهب المستعمرات قبل أن تؤول السلطة إلى البورجوازية الوضيعة بعد إعلان رامبوييه 1975.

للمرء أن يتساءل حقاً كيف فشل الرأسماليون بكل جبروتهم المادي والثقافي في مواجهة الطبقة العاملة، البروليتاريا، بينما نجحت الطبقة الوسطى في إلحاق هزيمة نكراء بجيوش البروليتاريا الجرارة. ما كان للرأسماليين إلا أن يفشلوا في مواجهة البروليتاريا حيث تربط الطرفين علاقة خلق متبادل، فالرأسماليون هم الذين يخلقون البروليتاريا كما أن البروليتاريا هي التي تخلق الرأسماليين، لا ينمو أحد الطرفين دون أن ينمو الطرف الآخر. وهكذا فالعلاقة الطبيعية بين الطرفين ما كانت لتنقطع إلا بثورة بروليتارية تطيح بالرأسماليين. أما الطبقة الوسطى فقد واجهت العمال من خارج عملية الإنتاج إذ ليس من علاقة مباشرة بين البروليتاريا والبورجوازية الوضيعة. بل الأصل أنه كلما تقدمت البروليتاريا في عملية الإنتاج كلما انعكس ذلك في تراجع ملموس لحجم ودور الطبقة الوسطى في المجتمع. أما ما جرى خلافاً للأصول في روسيا هو أن شروطا استثنائية جداً تهيأت للطبقة الوسطى مما مكنها من النمو أفقياً وعمودياً إلى أن تمكنت من اغتصاب السلطة في دولة فاعلة على المسرح الدولي بداية كالإتحاد السوفياتي موطن الاشتراكية. الثورة الإشتراكية قامت فعلاً في الحلقة الرأسمالية الأضعف، روسيا القيصرية، حيث لم تشكل البروليتاريا أكثر من 20% من قوى العمل فيها، إذّاك قامت الحاجة لتحويل الفلاحين الذين شكلوا أكثر من نصف المجتمع إلى عمال مدربين لهم قسط من التعليم وهو ما اقتضى توسيع وتطوير الطبقة الوسطى. لئن تضاعفت أعداد الطبقة العاملة السوفياتية خلال السنوات العشرة 1928 ـ 1938 فإن الطبقة الوسطى تضاعفت أيضاً مثل ذلك أو أكثر. زد على ذلك أن حماية الدولة السوفياتية من الأعداء المتربصين بها من كل الجهات اقتضى باستمرار تجنيد ملايين الرجال في المهن العسكرية التي تنتمي أخيراً إلى الطبقة الوسطى، وقد وصلت أعدادهم خلال الحرب الوطنية إلى أكثر من أربعة ملايين جندياً. ليس هناك أدنى شك في أن العدوان الهتلري الهمجي الواسع على الإتحاد السوفياتي كان هو الرافعة القوية التي حملت الطبقة الوسطى إلى سدة السلطة في مركز الثورة الاشتراكية، موسكو. خمود الثورة الاشتراكية التدريجي بداية منذ العام 1954 هو ما سمح للرأسمالية العالمية لأن تنهار في السبعينيات لصالح الطبقات الوسطى وليس لصالح طبقة البروليتاريا.

كيف تدير الطبقة الوسطى صراعها ضد البروليتاريا ؟
إنجيل البورجوازية الوضيعة لا يعلّم إلا المراوغة والنفاق. الطبقة الوسطى لا تمتلك أسلحة حقيقية في حربها ضد البروليتاريا مثلما امتلك الرأسماليون سابقاً ؛ وهي لذلك تلجأ إلى المراوغة والنفاق كسلاح لا بديل عنه وتطبيقاً لمبدأ quot;إنما الحرب خديعةquot;. من باب الخديعة تعلن الطبقة الوسطى سياستين تعليهما في رايتين..
1.الراية الأولى تقول بوجوب التخلي عن سياسة الصراع الطبقي. تقول ذلك ليس لأنها لا تمتلك أسلحة فعالة ذات أثر في الصراع فقط، بل من أجل أن تتخلى البروليتاريا عن كل أسلحتها فتعجز بالتالي عن مواجهة البورجوازية الوضيعة. لذلك أهاب خروشتشوف بالبروليتاريا السوفياتية التخلي نهائياً عن صراعها ضد البورجوازية الوضيعة وهو يمثلها في العام 1959 بعد أن كان قد طرد كل البلاشفة ممثلي البروليتاريا في قيادة الحزب في حزيران 1957. ينادي بإلغاء مبدأ الصراع الطبقي ومع ذلك يقوم بطرد نصف أعضاء المكتب السياسي في الحزب وهو أعلى سلطة في الدولة بسبب وقوفهم ضد سياساته الزراعية وتنمية طبقة الفلاحين ! وهذا بحد ذاته أعنف تعبير عن الصراع الطبقي. إلى مثل هذا الحد بلغت الوقاحة في المراوغة والخديعة !
2.الراية الثانية وتزيد على الراية الأولى وقاحة وخداعاً إذ تقول ب quot;إقتصاد المعرفة quot;. تتفنن الطبقة الوسطى في سبل الخديعة والنفاق لدرجة أنها لا ترعوي في أن تسنّ قوانين ضد طبائع الأمور والأشياء فتقول ب quot;إقتصاد المعرفةquot; وهو ما يعني في نظامها الطبقوسطي غير الرأسمالي أن القيمة التبادلية للسلعة لم تعد محددة بكلفة ما تكتنزه من عمل كما كان عليه الحال في النظام الرأسمالي وكما هي حقيقة قانون القيمة التبادلية، بل بما تكتنزه من معارف !! تعلن قانونها وتعفي نفسها من ذكر أية أسانيد لمثل هذا القانون الخنفشاري. هل كانت السلعة الرأسمالية مجردة من المعارف لتحدد قيمتها التبادلية كلفة العمل المختزن فيها فقط ؟ ـ نعود إلى طاولة كارل ماركس في مقدمة بحثه في السلعة الرأسمالية وقد انقلبت على قرنها وبدأت تلف وتدور وتطلق أفكاراً شيطانية لا عهد للإنسان بها. الطاولة وهي أبسط المصنوعات تطلق معارف وقوانين عجزت البشرية لآلاف السنين عن الإلمام بها. ثم من قال أن المعارف التي اكتنزتها الفأس الحجرية لإنسان ما قبل التاريخ لا قيمة لها ؟ كل المعارف المعقدة منها أم البسيطة هي منتوج مجتمعي وتاريخاني أي أنها من إنتاج كل الناس وعلى مدى التاريخ، وهي لذلك مشاع ولا قيمة تبادلية لها. وهنا نحتذي بماركس فعندما تعرّف على مجتمعية الإنتاج الرأسمالي (Associated Production) قال بالشيوعية أي وجوب ألا يكون لهذا الإنتاج قيمة تبادلية. من صيحات البورجوازية الوضيعة أيضاً صيحة quot;الإقتصاد الخدميquot; بادعاء أن الإنسان المعاصر يستهلك من الخدمات أضعاف ما يستهلك من السلع. هذا الإدعاء يقوم على مراوغة شيطانية فبافتراض أن الإنسان أخذ يستهلك الكثير من الخدمات لكن بأي مقياس تقاس تلك الخدمات. مثل هذا الإدعاء يأخذ بمقياس القيمة، لكن كيف تعيّن القيمة ؟؟ تعيين قيمة الخدمة هو وراء الأزمة الخطيرة الماثلة. لأن الخدمات لا تدخل السوق بالإجمال وأعجز عن أن تتمثل بالأصنام كما سائر السلع (fetishism)، لذلك يجري تبادلها خارج السوق وبقيمة تعسفية لا سند لها. الطبقة الوسطى عصفت بالأسواق وبما يسمى باقتصاد السوق واستطاعت بذلك الولوغ في دماء البروليتاريا بوحشية هانت معها وحشية الرأسماليين. لهذا، ولهذا فقط، تفلس اليوم أغنى دول العالم وتسقط سراويلها عن مؤخراتها ليفتضح عيبها أمام العالم. (الاقتصاد المعرفي والاقتصاد الخدمي بحثتهما في كتابي quot; جديد الإقتصاد السياسي quot; ).

وهكذا يتضح بصورة جليّة أن العدو الأول اليوم للبروليتاريا هو الطبقة الوسطى والإشكال الذي على البروليتاريا أن تبتدع حلاً له حيث لم يسبق أن قام مثيل له عبر التاريخ، هو أن تناقضها مع الطبقة الوسطى ليس تناقضاً عضوياً، بمعنى أنه ليس تناقضاً ينمو عضوياً من داخل شغل البروليتاريا، بل هو تناقض خارجي طرأ على مسيرة البروليتاريا التقدمية من خارجها، الأمر الذي يستثني حل الإشكال عضوياً وتلقائياً ويستوجب الحل من خارج الصراع الطبقي الكلاسيكي المعهود، وهو ما يشكّل العقدة التي لم يحدث أن تعقدت شروط التاريخ بمثل هذه العقدة على الإطلاق.

ثمة طريقان، لا ثالث لهما، لحل مثل هذا الإشكال، إشكال الطبقة الوسطى كقاطع طريق (highwayman) تقطع طريق البروليتاريا للتقدم نحو الشيوعية..

الأولى : وهي الراجحة وتتمثل بإنهاء الإشكال بإبادة كلتا الطبقتين، البورجوازية الوضيعة والبروليتاريا، من خلال حرب نووية عالمية لا تبقي ولا تذر ؛ وما يستدعي مثل هذه الحرب الكونية هو إفلاس الطبقة الوسطى في نهاية مسارها الحالي الذي يقوم على الولوغ في دماء البروليتاريا من خلال المبادلة الجائرة بين خدمات الطبقة الوسطى مقابل سلع طبقة البروليتاريا. الطبقة الوسطى وهي صاحبة السلطة العليا تتعسف بتحديد القيمة التبادلية لخدماتها فتفرض مبادلة، بعضها أحياناً، بألف ضعف من قيمتها بحجة أنها تتضمن معارف عالية علماً بأن الخادم لا يبيع المخدوم سوى ساعة/عمل مجردة من كل المعارف التي يحتفظ بها لنفسه ليستخدمها مرة أخرى. بالطبع سيتوقف مثل هذا المسار عندما لا تعود البروليتاريا قابلة للاستنزاف بسبب هزالها المتراكم. عندئذٍ، عندما لا تعود البروليتاريا قادرة بقواها الذاتية على الإطاحة بالطبقة الوسطى واستلام السلطة، عندها ستتقاذف الطبقات الوسطى في البلدان النووية الرؤوس النووية فيُقضى على العالم الذي انسدت كل المخارج أمامه.

الثانية : وهي أن تقوم البروليتاريا قبل أن تصل حد الإنهاك بالإطاحة بالطبقة الوسطى واستعادة زمام السلطة بأيديها ومن ثم الإنطلاق السريع نحو الشيوعية. أما إن لم تفق البروليتاريا مبكراً للقيام بمهمتها التاريخية وتم استنزافها حتى الرمق الأخير، وتلازم ذلك مع تعقل الطبقة الوسطى وامتناعها عن إشعال حرب نووية ـ وهو مستبعد لأن البورجوازية الوضيعة عديمة الأخلاق والقيم ـ فقد يقوم الفقراء المعدمون المتساقطون من البروليتاريا كما من الطبقة الوسطى نفسها بثورة الجياع فيدخل العالم في فوضى لربما تتحقق فيها فوضوية ميخائيل باكونين المعارض الأول للثورة الإشتراكية برؤية ماركس.

إننا، ونحن نغلّب الإحتمال الأول على الثاني، نرى رأي العين أن الشيوعيين الحقيقيين الذين يتلهّون بمشاريع quot; التحرر الوطني quot; و quot; الديموقراطية quot; و quot; العدالة الإجتماعية quot; وهي ذاتها مشاريع الطبقة الوسطى الكاذبة والمخادعة التي لا تستهدف سوى الإيغال بافتراس طبقة البروليتاريا، المنتج الحقيقي للثروة، أن هؤلاء الشيوعيين يقومون بسوق البروليتاريا إلى المسلخ بدل تحريرها. ولكي لا يستمروا في خيانة البروليتاريا عليهم أن يتنازلوا عن صبغتهم الشيوعية ويتخذوا أسماء أخرى لا توحي بالشيوعية، هذا إن لم يعوا خطورة ما يقومون به ويصححوا مسارهم.

تفاقمت الأزمة حتى غدت من الجسامة تفوق ما يمكن أن يجند الشيوعيون من قوى لمعالجتها لكن ذلك يجب ألا يمنعهم من التقدم نحو معالجتها بغض النظر عن نتيجة ذلك إذ لا بديل عنه، فنحن نفهم منذ صدور المانيفيستو 1848 أن الشيوعيين هم شموع الأمم تماماً كما كان ماركس منارة العالم. لذلك على الشيوعيين من تلاميذ ماركس ولينين أن ينضووا في أممية من طراز أممية ماركس، أممية لا تتشكل من أحزاب قوميات مختلفة مثل أممية إنجلز وأممية لينين. أممية ماركس تشكلت من أفراد ومن منظمات مهنية وغير مهنية اهتمت فقط بقيام الثورة الإشتراكية العالمية. لتكن مهمة أمميتنا المقترحة هي إنقاذ البشرية من الفناء والبحث في سبل ردع الطبقة الوسطى عن تدمير هيكل العالم على رؤوس من فيه.

فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01