من مجموع ما حصلت عليه من تعليقات على مقالتي السابقة أصبح لزاما علي لأن أستميح إيلاف وقراءها الكرام عذرا للعودة إلى مناقشة الأمر من جديد، فأسأل، هل صحيح أنني ضد الديمقراطية في العراق، وضد العملية السياسية، وضد أن تسود سلطة القانون، فعلا لا قولا، وأن يأمن المواطن على رزقه ودمه وكرامته، وأن ينام في منزله أو يخرج إلى عمله أو في نزهة وهو سعيد ناعم البال؟

وهل صحيح أنني أحن إلى ظلام الديكتاتورية التي لم تبق لأحد عذرا في الهجرة والدوران في أرض الله الواسعة، بحثا عن وطن وأهل وأمان؟
وأين وكيف فهم البعض أنني أترحم، ولو قليلا، على نظام صدام وحزب البعث الذي انحرف حتى عن مبادئه الأولى، رغم خلافنا معها ورفضنا لشوفينيتها وتعصبها القومي الأعمى؟

بصراحة إن جميع أخطاء الوضع الحالي وعيوبه لا تساوي جناح بعوضة قياسا بسجل النظام السابق الذي كان بحق جسدا ميتا متعفنا لا ينفع فيه سوى الكي والقلع من الجذور، وإعادة بناء الوطن من جديد على أسس من العدل والعقل والوطنية الحقة الصادقة. فأنا لا ولن أعادي الوضع الحالي في العراق، ولكنني أعارضه بقوة وتصميم وثبات. لا أعمل على هدمه، ولكنني أجاهد في سبيل تقويمه وتصحيح مسيرته. أقول هذا وأعلنه لا خوفا من أحد ولا تزلفا لأحد. فقد تركت هذا الوطن العزيز وأنا أحوج ما أكون إليه وإلى هوائه ومائه وأهله الطيبين، دون أن آخذ منه معي حبة رمل واحدة.

وأغرب تعليق كتبه أحد قرائنا الغاضبين هو الذي قال فيه إنني حاقد على الوضع الجديد، لأنني خرجت من المولد بلا حمص. فهل يرضى ضميره بأن تستحوذ على حمص المولد كله أسر الرئيس الوزير والسفير والمدير وحماية النائب وأقارب هذا وذلك الإمام، ولا يأخذ أولاد الخايبة، بملايينهم الثلاثين، وأنا منهم، ولو حمصة واحدة، بعد كل صبر السنين السود الماضية، ثم لا يسمح المعلق الكريم لأحد منا، بعد كل ذلك، بأن يصرخ ويطلق أهة حارقة؟

فهل ما حصلنا عليه اليوم على أيدي رفاق الأمس هو ما كنا نحلم به حين حملنا حقائبنا وتسللنا هاربين من الوطن، لنعارض من الخارج، بعد أن تعذر علينا أن نجاهر بمبادئنا وأحلامنا، ونحن داخل الوطن في مرمى نار نظام لا يرحم؟

وهل ما أقامه رفاقنا اليوم يرضي عقولنا وقلوبنا ويجعلنا نغني ونصفق لقادتنا الجدد على أمانتهم ونزاهتهم وعمق عدالتهم وسمو أخلاقهم ونظافة مستشاريهم وأتباعهم وأولاد أولادهم؟ ألا يحق لنا أن نتساءل عن أية ديمقراطية يتحدثون؟

لا نكذب على بعضنا. إن تجربة العراقيين في ممارسة الديمقراطية تكاد تكون معدومة، منذ أن وجد العراق في هيأته الحالية وإلى اليوم. وما استحدثه الانكليز في العام 1921 لم يكن ديمقراطية حقيقية، بل كان محاصصة من نوع آخر، لا تختلف كثيرا عن محاصصة اليوم، والذي تغير فقط أسماء القادة الكبار السبعة وأسماء خدمهم وجواسيسهم وسماسرة صفقاتهم التجارية، لا غير. وما تلى ذلك من أنظمة الانقلابات العسكرية والحزبية الكريهة، منذ عام 1958 وإلى عام 2003، لم يترك لنا فرصة القيام بأولى خطواتنا على طريق بناء الديمقراطية، حتى لو كانت بسيطة، أسوة بشعوب أخرى كانت أوضاعها أسوأ من أوضاعنا، لكنها تمكنت من تخطي الصعاب، ووضعت نفسها على أول طريق الديمقراطية وسلطة القانون.

وعليه فينبغي الاعتراف بإن المواطن العراقي، في ضوء ذلك، لا يستطيع أن يحقن نفسه، دفعة واحدة، بالمصل الديمقراطي، ليصبح بين ليلة وضحاها، ديمقراطيا كاملا يحترم الرأي الآخر ولا يضيق به، ويقدس الحوار بالحجة والمنطق، ولا يشتم شقيقه حين يخالفه في رأي أو عقيدة، ولا يعتبر الوطن ملكه وحده لا شريك له فيه.

ومن المحزن أن أرضنا العراقية ما زالت غير قابلة لإنبات الديمقراطية، حتى بأبسط أشكالها وألوانها. فما دام الناخب لدينا يستسلم لسطوة الفتوى والولاء العشائري والمناطقي والطائفي والقومي فإن الحلم الديمقراطي يظل عصي المنال.

حتى ونحن في الخارج، نعيش في مجتمعات ديمقراطية متقدمة كثيرا، لم يتمكن الهواء الديمقراطي، خصوصا في دول أوروبا وأميركا، من النفاذ إلى دواخل الغالبية العظمى ممن يسمون بعراقيي الخارج الذين عادوا وأمسكوا بزمام الأمور في دولة الرماد الجديدة فيصبح أساسا محتملا لقيام نظام ديمقراطي في عراق ما بعد صدام حسين.

وكنا نقهقه حين كان قادتنا السبعة الكبار في المعارضة يكثرون من الحديث عن عراق الغد الذي يريدونه ديمقراطيا تعددياً يساوون فيه بين الجميع أمام سلطة القانون يعوضوننا فيه بالحرية والأمن والكفاية. فكل أسماء أحزابهم وتنظيماتهم كانت ديمقراطية، حتى كتائب مليشياتهم وعصاباتهم ألصقوا الديمقراطية بأسمائها.

وسواء كان المبشرون بالجنة الديمقراطية صادقين في طلبها أو متاجرين بها، فان مؤتمراتنا فضحتهم جميعا، وكشفت لنا أنهم لا يستطيعون الفكاك من القبلية والجرثومة الديكتاتورية المعششة في أعماق أعماقهم.

وقد أعلن ذلك عن نفسه بأكثر من وجه وصيغة، في جميع مؤتمراتنا السابقة، من مؤتمر بيروت عام 1990 إلى فينا ولندن ودمشق والرياض ونيويورك. ويتذكر رفاقنا كيف بلغ الحوار في مؤتمر نيويورك، مثلا، عام 1999 حد التلويح بالقنادر لغة حوار ديمقراطي نادر المثال.

يضاف إلى ذلك أن من يعيش على ممولين خارجيين يغدقون عليه وعلى حزبه أو مسجده أو حسينيته سيجد نفسه، من باب الوفاء والاعتراف بالجميل، ميالا أكثر لخدمة مصالح هؤلاء الممولين، أكثر من ميله إلى حماية مصالح مواطنيه وأهله الأقربين. ألم يطالب الحكيم مثلا بأن يدفع العراق مئة مليار دولار تعويضات لإيران عن حرب لا ناقة لشعبنا بها ولا جمل؟ وبما أن جميع دول الجوار الشقيقة والصديقة، وأمريكا معها، لم تكن في وارد الموافقة على قيام حلفائهم العراقيين ببناء ديمقراطية حقيقية في العراق، فقد التزم الحلفاء بتخريب حلمنا في الديمقراطية الحقة إلى حد كبير.

إضافة إلى أن أطرافا عراقية أساسية مهمة، ومنها مرجعيات دينية وعشائرية وقومية، عربية وكردية معا، لا يناسبها إقامة حكم شعبي ديمقراطي حقيقي يفسد عليها زعاماتها ويهدد مكتسباتها.

وكان ثابتا لدينا، نحن المعارضين الصغار ذوي الصوت الواحد من غير أصحاب الأحزاب المسلحة، أن المطلوب والمسموح به، إقليميا ودوليا، إذا ما حدث غزو العراق، وتحقق سقوط النظام الديكتاتوري، هو حكم عشائري متحاصص، ولكن بثياب ديمقراطية. أي برئيس جمهورية كردي ونائبين لا قيمة لهما، شيعي وسني، ورئيس وزراء شيعي ونائبين لا قيمة لهما، كردي وسني، وبرلمان موزع حسب خريطة خنفشارية عجيبة، طائفية وعنصرية من طراز خاص مبتكر وعجيب.

أما الانتخابات فتجرى في أجواء ديمقراطية صدام حسين أو عمر البشير أو القذافي، (تريد أرنب خذ أرنب، تريد غزال خذ أرنب)، فيحشو قائد الحزب أو التحالف أو التيار قائمته الانتخابية بأسماء مريديه وخدمه وأفراد حمايته، ثم يسوق الناخب، بأمر المرجعية أو العشيرة، ليبصم على القائمة كلها، دون أن يمنحه حق الاعتراض على هذا المرشح أو ذاك، حتى كان لو يعرف أنه تافه وغبي وحرامي بامتياز. ثم تنشغل الرئاسات جميعها، بعد فرز الأصوات على الفور، بالرواتب والمخصصات، بحياد ونزاهة وضمير حي لا ريب فيه.

هذه هي الديمقراطية التي كان يبشرنا بها قادة معارضنا السابقة وحكامنا الحاليون من عشرات السنين. أما الاقتتال الطائفي والقومي والمناطقي الذي أشعله المتحاصصون في كل شارع وكل حي من الوطن فهو طريقنا الوحيد الضروري نحو دولة القانون. ثم يأتي دور المصالحة الوطنية، فتنفق الدولة أموالا طائلة عليها، باعتبار أنها أهم من الماء والكهرباء والدواء والأمان.

ألا يحق لنا أن نتساءل، مصالحة مَن مع مَن؟ أليست المصالحة المطلوبة هي المصالحة التي ينبغي أن تعيد كل مهجر إلى منزله، وكل مهاجر إلى وطنه، مهما كانت طائفته وقوميته وديانته، أم هي مصالحة تعيد توزيع المقاعد والموائد، والمناصب والرواتب، بين شعيط ومعيط وجرار الخيط؟

أما الفساد المالي والإداري الذي صار فضيحة عالمية بامتياز فلا يحق لأحد منا أن يمس فرسانه بسوء، فهو إفراز طبيعي من إفرازات الممارسة الديمقراطية، وهو لازمة من لوازم الحرية والسيادة الوطنية الكاملة. فاحتلال أياد علاوي، مثلا، لمنازل أعوان صدام في الحارثية، واحتلال أحمد الجلبي لمنازل بنات صدام في المنصور، واحتلال جلال الطالباني وحرسه وأقاربه للقادسية ونصف الجادرية ، واحتلال الحكيم للنصف الثاني من الجادرية ونصف مدينة النجف ونصف كربلاء، إنما هي احتلالات وطنية ديمقراطية لا غبار عليها.

وعصابات الرشوة المنظمة التابعة لأحزاب المحاصصة التي تتقاسم الوزارات وتزرع فرسانها على باب كل وزارة لتسلم الرشوة قبل أن تسمح للمراجعين بالدخول، هي من سمات الممارسات الديمقراطية والديمقراطيين.

حتى دستورهم الذي فلقونا بالغناء له وبتقديسه وتمجيده يوم سلقوه وأجازوه بسرعة البرق الخاطف، أصبح اليوم في نظر بعض أصحابه منخورا ومحتاجا لجراحة جديدة ولتعديل وإصلاح. بربكم، لو كنت قد تجرأت، يومها، فكتبت أن ذلك الدستور منخور ومحتاج لجراحة جديدة ولتعديل وإصلاح، ودعوتهم إلى التأني فيه، وإلى استشارة الشعب في أمره، وعدم الرضوخ المعيب لأوامر بوش ورامسفيلد وأصرارهما على إقراره وإعلانه بسرعة لضرورات سياسية أمريكية داخلية ليست عراقية بكل تأكيد، أما كانت قيامتهم قد قامت علي، واتهموني بالمروق ومعاداة الديمقراطية ومعاكسة العملية السياسية والحنين لحكم أهل العوجة والسي آي أي والموساد معا، وأحالوني إلى محكمة العريبي المسلية، لأنال العقاب الوطني الأصيل؟

سلمولي على ديمقراطية علاوي الحلة ومدينة جميلة، والله المستعان.

إبراهيم الزبيدي