أحمد ترك، السياسي الكردي المخضرم ورئيس حزب المجتمع الديمقراطي( 22 نائباً في مجلس النواب التركي) قدم للرئيس الأميركي باراك أوباما، خلال لقاءه الأخير به، ملفاً حول القضية الكردية في تركيا. ترك أوصل لأوباما أفكار حزبه حول quot;الوضع الكرديquot; وسبل الحل، بعيداً عن العنف والحرب. أوباما بدوره أكد إحترامه للشعب الكردي وأعرب عن إعتقاده بأن القضية الكردية في تركيا لاتٌحل بالعنف. ورغم ان هذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها رئيس أميركي بقائد سياسي يمثل أكراد تركيا، إلا أن القاعدة في السياسة الأميركية الثابتة حيال الأكراد في تركيا، وحيال حزب العمال الكردستاني بشكل خاص، تدفعنا لكي لانتفائل كثيراً بمنطوق الرئيس الأميركي، الذي يدخل في خانة الشاذ المتطرف عن القاعدة الأميركية الثابتة.

أوباما أطلق تصريحات مضادة لكلامه مع ترك خلال لقاءه الرئيس التركي عبدالله غول. فهو ساوى بين تنظيم quot;القاعدةquot; الإرهابي وحزب العمال الكردستاني، وقال: ان على واشنطن وانقرة محاربتهما بوتيرة قوية وعزيمة لاتلين. والأرجح ان الرئيس الأميركي وحين عودته إلى بلاده وطرحه ملف الحل الذي قدمه له أحمد ترك، سوف يركن إلى نصيحة فريقه حول الأفكار الواردة فيه وكيفية التعامل مع وضع أكراد تركيا. والأرجح، أيضاً، أن المختصين الأميركيين سوف لن يشذوا عن قاعدة السياسة الأميركية في ترك القضية الكردية بدون حل، وإبقائها أزمة مفتوحة لكي يتسنى لواشنطن التدخل دائماً، وضمان حاجة تركيا لها. أي إستخدام العمال الكردستاني سيفاً مسلطاً على رأس تركيا، مقابل التضييق عليه وعدم الإعتراف به أو جعله مخاطباً عن الجانب الكردي.

البرلماني صلاح الدين دمرتاش، نائب رئيس كتلة حزب المجتمع الديمقراطي في مجلس النواب التركي، قال بأن لقاء رئيس الحزب بأوباما quot;لن يكون سوى للتعارف وإطلاع الرئيس الأميركي على اصول القضية الكردية وكيفية حلهاquot;. ولن يكون هذا اللقاء بأي حال من الأحوال، quot;طلباً لتدخل أوباما في الشأن الداخلي، أو مخاطبته وكأنه صاحب الحل والربطquot;، لأن quot;القضية الكردية في تركيا هي قضية داخلية ومفتاح حلها في أنقرة وليس في أي مكان آخرquot;.

دمرتاش نطق عين الصواب. مفتاح القضية الكردية في أنقرة. الحكومة التركية هي القادرة على إطلاق الحوار مع حزب المجتمع الديمقراطي (... والعمال الكردستاني تالياً) ووقف هذه الحرب الكارثية التي دامت أكثر من ثلاثين عاماً وأسفرت عن مقتل عشرات الآلاف وتدمير آلاف القرى الكردية وخسارة الدولة التركية لمئات المليارات.

الرئيس الأميركي الذي يحاور إيران الآن ويتصل بحركة quot;طالبانquot; ويعرض عليها التفاوض، ويقول بوجود دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، ويطالب تركيا بالإنفتاح على الأرمن، لم يدعو أنقرة إلى حل القضية الكردية وإطلاق الحوار والتفاوض مع الأكراد وممثليهم. ولم يجرؤ أي مسؤول تركي على سؤال نفسه: لماذا يتصالح الكل ونبقى نحن والأكراد نتقاتل إلى مالانهاية؟.

حزب العدالة والتنمية، وبدعم من الجيش وبقية الأحزاب الرسمية، حاول كل جهده تسفيه القضية الكردية ومصادرتها عن طريق إبعاد الكرد عن هويتهم القومية و إلهائهم عن الإهتمام بها، وبالتالي الإنفضاض عن العمال الكردستاني، لكنها فشلت في تحقيق ذلك الهدف فشلاً ذريعاً. علامة الفشل كانت في الفوز الكبير الذي حققه حزب المجتمع الديمقراطي في الإنتخابات البلدية الأخيرة( 29/03/2009) في مناطق كردستان تركيا. المجتمع الديمقراطي يسيطر الآن على 8 ولايات كبيرة( مساحتها، بالمناسبة، هي ضعف مساحة إقليم كردستان العراق)، وهذا بحد ذاته ضربة كبيرة لمخطط العدالة والتنمية في quot;سرقة الكردquot; من العمال الكردستاني، وتجفيف قاعدته الجماهيرية.

لم يدخر حزب العدالة والتنمية أية وسيلة للإجهاز على كل من المجتمع الديمقراطي والعمال الكردستاني:

ـــ شجّع الطرق النقشبندية وغذاها بالملالي وتلامذة مدارس quot; إمام خطيبquot; بغية إستمالة الكرد وتجنيدهم في طريق الدروشّة والتدين للإبتعاد عن quot;النزعة القوميةquot;، وعن حزب العمال الكردستاني بالتالي.

ـــ إفتتح الجمعيات الخيريّة التي قدمت القروض الميسّرة للكرد الفقراء، ووزعت آلاف الشقق بأسعار زهيدة، في إطار مشروع quot;الغاب التنمويquot;، الذي خصص له مبلغ 12 مليار دولار.

ـــ وزع المواد الغذائية، والمحروقات، والثلاجات، وآلات الغسيل، وإشترط على من يقبلها من المعوزين والفقراء الكرد، القسم على القرآن بالتصويت لصالح مرشحيه في الإنتخابات.

ـــ إفتتح قناة quot; TRT 6quot; الناطقة بالكردية، وإتصل بمجموعة من الفنانين والمثقفين الكرد، من الذين قبلوا بالمتاجرة بالكلمة الكردية مقابل حفنة من الدولارات. وألقى رجب طيب أردوغان نفسه كلمة الإفتتاح ونطق عبارة باللغة الكردية(Hucirc;n bi xecirc;r becirc;n)، أي حللتم سهلاً، وكل ذلك لإستقطاب الأكراد وجمهور حزب العمال الكردستاني بشكل خاص.

ـــ أعلن بأن كليات وأقسام لتدريس اللغة والتاريخ الكرديين سيتم إفتتاحها في الجامعات التركية.

ـــ عمل، ولأول مرة في التاريخ التركي، على نقل وقائع quot;ليلة القدرquot; تلفزيونياً، مباشرة وباللغة الكردية من دياربكر، للبرهان على فكرة quot;الإحتواء الإسلاميquot; للعصبية الكردية...

ـــ أعلن، وعلى لسان أكبر مسؤول ديني، عن العمل والجهد الجاري، لترجمة القرآن إلى اللغة الكردية.

ـــ أشاع، وبشكل حذر ولكنه خبيث، بأن الحكومة تنظر الآن في أمر نقل بضعة مساجين إلى سجن جزيرة quot;إيمراليquot; المعزول في عرض بحر مرمرة، ووضع حد لحالة العزلة والوحدة المفروضة على الزعيم الكردي عبدالله أوجلان، المحتجز هناك منذ أكثر من 10 أعوام.

ـــ بذل رئيس الجمهورية عبدالله غول، جهداً كبيراً حينما زارّ العراق، ونطق كلمة quot; كردستانquot; في إشارة إلى إقليم كردستان العراق. وكان ذلك أيضاَ لإستمالة الأكراد في تركيا.

ـــ إتصل مع القيادات الكردية في إقليم كردستان العراق لكي يصدروا مواقفاً ضد حزب العمال الكردستاني ويعملوا على الترويج لسياسة العدالة والتنمية، فكانت تصريحات الرئيس العراقي، وسكرتير الإتحاد الوطني الكردستاني، جلال الطالباني، التي إمتدح فيها quot;ديمقراطية أردوغانquot; وسياسته الكردية، مطالباً كل الشعب الكردي في تركيا بالتصويت لحزب العدالة والتنمية والإنفضاض عن حزب العمال الكردستاني لأن quot;زمن غيفارا والكفاح المسلح قد إنتهىquot;!!.

ـــ عمد أردوغان إلى ترك المنصة التي شهدت سجاله مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس في دافوس، وأوزع لآلة حزبه الإعلامية بالتطبيل والتزمير له، بغية إظهار نفسه وكأنه صلاح الدين الأيوبي يريد تحرير القدس، ولكنه يحتاج لفعل ذلك، لأصوات الأكراد المؤمنين.!!.

ولكن، ورغم كل هذه المحاولات، فشل وإندحر حزب العدالة والتنمية أمام حزب المجتمع الديمقراطي في الإنتخابات الأخيرة. وجاءت تصريحات أردوغان، وهو مايزال تحت صدمة الهزيمة: quot; للأسف لقد إختار الأكراد التصويت لهويتهم القومية، ولم يختاروا الإصلاحات والخدمات والمكاسب التي قدمناها لهمquot;. وهذا كلام صحيح مائة في المائة. لقد إختار الكرد فعلاً هويتهم القومية ولم ينخدعوا بسياسة أردوغان التي كانت تحمل لهم القمح وأغصان الزيتون في يد، والذل والمهانة والسم الزعاف في اليد الأخرى..

لقد فشل أردوغان في ضرب حزب العمال الكردستاني عن طريق حملة الحرب الكبيرة لخارج الحدود ( شباط 2008) وذاق مرارة الهزيمة على أيدي 300 مقاتل كردي في جبال ووديان منطقة quot;زابquot;، حيث تكبدت قواته أكثر من 100 قتيل و8 أسرى، سلمهم مقاتلوا العمال الكردستاني فيما بعد لحكومة إقليم كردستان. وفشل أردوغان سياسياً بهزيمته الموجعة في ولايات كردستان تركيا أمام مرشحي المجتمع الديمقراطي. لقد جرب أردوغان وحزبه كل الطرق وفشلوا، فلامناص إذن من الحل الديمقراطي والسلمي للقضية الكردية.

الأميركيون لن يضغطوا على تركيا ولن يهددوها بقطع العلاقات في حال إصرارها على عدم حل القضية الكردية، كما لن يقوموا بقصف قواعد حزب العمال الكردستاني لتدميرها كرماً لعين الأتراك. الأميركيون سيبقون على الأزمة مفتوحة وعلى الصراع معلقاً إلى أجل آخر غير مسمى، وحسب ما تقتضيه مصلحتهم. لكن في دوام الصراع ضياع المزيد من الدماء الكردية التركية. في دوام الصراع تأخير التنمية وخسارة مليارات الدولارات التي يجب أن تذهب للتنمية والتطوير.

سليم ساداك، البرلماني الكردي السابق( سجن 10 اعوام بسبب مطالبته بالحقوق الكردية) ورئيس بلدية quot;سيرتquot; الجديد، عمد وفي أول قرار له، الى نزع صور كل من أردوغان وغول من على جدران مكتبه. ومن المؤكد أن محامي أوجلان السابق، الشاب بكر كايا، رئيس بلدية quot;وانquot; الجديد، سيعمد إلى نفس الإجراء.

الولايات المتحدة الأميركية قصفت اليابان بالقنبلة النووية فقتلت وشوهت مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء. الأميركيون واليابانيون نسوا الماضي، وها هم الآن حلفاء وبينهم السلام والمصالح الإقتصادية. كذلك الأمر بالنسبة لأميركا وألمانيا. بالنسبة لكل بلدان القارة الأوروبية الموحدة. بالنسبة للبيض والسود في جنوب أفريقيا..

فلماذا لايكون الأمر عينه، بالنسبة لتركيا وللأكراد...

والأكراد هنا، هم quot;الأكراد الذين صوتوا لهويتهم القوميةquot; كما قال أردوغان، وليس أكراد العدالة والتنمية ونوابه ال 75 ذوو quot;الأصل الكرديquot;، الذين بصمّوا بالإجماع ذات يوم على قرار اجتياح الجيش التركي لإقليم كردستان العراق، لquot;لإجتثاث حزب العمال الكردستاني وقتل الآلاف من مقاتليهquot;.!!

طارق حمو
[email protected]