في مطلع القرن الماضي وقبل قيام الدولة العراقية وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وفي حدود العقد الثاني عينت السلطات البريطانية حاكما لجبل سنجار في أقصى غرب كوردستان العراق من الكورد الايزيديين في أول محاولة لاستيعاب المكونات العرقية والدينية قبل قيام الكيان العراقي، وسنجار أو كما يطلق عليها سكانها شنكال واحدة من أقدم المدن في بلاد ما بين النهرين وربما واحدة من أكثر المدة إثارة وجدلا في موقعها وتاريخها وطبيعة تكوين مكوناتها العرقية والقومية، حيث تسكنها أقوام عديدة تعتنق مختلف الديانات والمذاهب، وكانت لدهور طويلة ملاذا آمنا لكثير من الأقوام أو الأفراد الهاربين من نير الظلم والتفرقة، حيث احتضنت عبر تاريخها مختلف الأقوام والأديان والمذاهب، وحينما تعرض الأرمن وعموم المسيحيون والكورد في تركيا إلى الإبادة والترحيل لجأ معظمهم إلى سنجار وجبلها وقراها المتناثرة عند سفوحه.

هناك بين أحضان تلك العشائر الكوردية منها والعربية، المسلمة والايزيدية اكتشفت تلك الجموع مدى سمو ورفعة أخلاقيات سكان هذه المدينة وتعاملهم الإنساني الراقي مع المهجرين من ربوع بلدانهم بصرف النظر عن أعراقهم أو أديانهم فكانوا لهم أهلا ووطنا بديلا وملاذا آمنا وعزيزا، حتى أصبحوا فيما بعد جزءا من تكوين هذه المدينة ومواطنيها المخلصين.

أعود إلى ما بدأت به أول بحثي هذا حيث تم تعيين الباشا حمو شرو حاكما على جبل سنجار، وتقول واقعة يتناقلها الأهالي من كل الأديان والأعراق لحد يومنا هذا عن مشاغبين نجحوا في إقناع الحاكم بمنع الآذان في جامع سنجار مما دفع احد رجالات عشيرة الهبابا الكوردية الايزيدية المعروف بــ ( دقو ) إلى الذهاب إلى الحاكم فور إعلان أمره والطلب منه إلغاء ذلك الأمر وترك المسلمين وشأنهم وعدم التدخل بأمورهم الخاصة والحفاظ على طبيعة العلاقة التي تربط السكان بصرف النظر عن الدين أو العرق، وفعلا تحقق ما أراده ذلك الرجل الايزيدي الذي أرسل إلى إمام الجامع وطلب منه رفع الآذان كما هو متعارف عليه وطلب من الحاكم أن يكون حاكما لكل الأهالي على مختلف مشاربهم وأديانهم وأعراقهم وإلا فترك الحكم أفضل.

بنفس هذه الروحية والسلوك السامي تعامل القس برصوم راعي كنيسة الارثيدوكس في سنجار في تصرف خلاق ونبيل حينما أقام مجلس الفاتحة على احد ضحايا الحرب العراقية الإيرانية من الكورد المسلمين أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي في داخل كنيسة الارثدوكس بسنجار لثلاثة أيام، كان فيها يستقبل المعزين ويودعهم بل ويقوم بواجب الغداء والعشاء للضيوف القادمين من أماكن بعيدة عن مركز المدينة ولم تتوقف قراءة القرآن طيلة مجلس الفاتحة من داخل أروقة الكنيسة.

وحينما أتوقف عند القس برصوم فأنني أتذكر بفخر كبير ذلك الرجل الرائع إمام وخطيب جامع سنجار الحاج طه الحسن الذي كان مثالا لرجل الدين والتسامح والإخاء بين أبناء البشر دون النظر إلى أعراقهم أو أديانهم وهو يمر على مقابر المسيحيين في أعياد الفطر والأضحى ليسلم عليهم قبل مروره على مقابر المسلمين، بل ليوجه أجمل كلماته ودعواته لهم وكأنهم أحياء بيننا في رسالة للأحياء قبل الأموات بأننا إخوة في الإنسانية قبل كل شيء.

ولن أذهب بعيدا حينما أتوقف عند مشاهد أقل ما يقال عنها إنها تمثل إرادة هذا الشعب الأصيل بكل مكوناته العرقية والدينية وهنا اذكر للتاريخ موقفا لأحدى العشائر العربية في هذه المدينة الكوردستانية التي تعرضت في أواسط السبعينات من القرن الماضي إلى أبشع عمليات التغيير الديموغرافي الذي تسبب في ترحيل وتهجير آلاف الأسر من المدينة إلى محافظات دهوك واربيل والسليمانية والموصل، ومصادرة أملاكها غير المنقولة من الدور والبساتين والأراضي الزراعية.

وبعد أن تمت العملية في تهجير وترحيل الأهالي في مركز المدينة أرسل الحاكمون في إدارة القضاء إلى شيوخ عشيرة البو متيوت* ليخيروهم في استملاك بيوت وقصور الكورد المرحلين بأجور رمزية.

لقد رفض أولئك الشيوخ تلك الدعوة أو تلك المنحة وقال احدهم إننا والكورد أصحاب وأقرباء وبيننا علاقات حميمة عبر الأجيال، وإذا كان هناك بينكم كحكومة وبينهم كرجال للحركة الكوردية خلاف أو صراع فنحن لسنا طرف في هذا الخلاف ورفضوا استملاك تلك القصور والبيوت احتراما لتاريخ العلاقات بينهما في هذه المدينة.

في سنجار المدينة الواقعة عند تخوم الصحراء وظلال جبل سنجار اختلطت الأعراق وتداخلت الأديان وتبعتها العادات والتقاليد، فلا تكاد تفرق بين الكورد والعرب إلا حينما يتحدثون، وكذا الحال بين المسلمين والايزيديين والمسيحيين الذين تختلط أعيادهم وتقاليدهم إلى الحد الذي لا يمكن أن تفرق بينهم بسهولة حيث الاحترام الكبير لمعتقدات بعضهم لبعض، بل انه هناك واحد من أروع التقاليد في الاحترام المتبادل للمشاعر والعادات بين السكان حيث يمتنع سكان مدينة شنكال من أكل أو تداول أي شيء بيعا أو شراء، تحرمه الديانة الايزيدية والعكس صحيح في ما يتعلق بالمسلمين والمسيحيين.

ولعل اربيل واحدة من تلك المدن الكوردستانية التي تمتزج فيها الأطياف دون ما انصهار أو استعلاء بل محبة وتسامح وإخاء، ففي عينكاوه الجميلة وهي ناحية من نواحي العاصمة هولير يفتخر المرء بانتمائه اليها لما تمتاز به من تسامح وتمازج بين الكورد والكلدان والآشوريين والسريان في أجمل كرنفال وجنان للأعراق والأديان.

ليست الأمور هنا في كوردستاننا العراقية هكذا فحسب وإنما في كل أجزاء هذا الوطن الجميل الذي لا يعرف إلا التسامح والمحبة والتعايش واحترام الإنسان لإنسانيته لا لعرقه أو دينه أو لونه، وهذا ما نراه في عفرين والقامشلو وعامودة وديار بكر وكل المدن والقرى التي تجتمع فيها الأقوام والأعراق والأديان التي تعايشت منذ الأزل على أديم هذا الوطن وبنت فيه حضاراتها وتجاربها وعاداتها وتقاليدها دون أن يمسها الآخرون أو ينتقصون منها، فقد تعايش المسلمون الكورد مع أقرانهم من الايزيديين في كل القرى والمدن التي احتضنتهم منذ البداية ولولا تدخل الغرباء وأطماعهم لما حصل أي تناحر ديني عبر التاريخ وكذا الحال بين المسلمين والمسيحيين الذين عاشوا كل تاريخهم الحلو والمر معا، واشتركوا سوية في كل الثورات والانتفاضات عبر حركة تحرر هذا الشعب ضد قوى الطغيان والاستبداد، ولن تنسى ذاكرة كوردستان البيشمه ركه البطل ملك جتو كما تسجل ذاكرة التاريخ اسم فرانسو حريري بأحرف من نور مع المئات من أولئك الأفذاذ من الآشوريين والكلدان والسريان والايزيديين الذين حملوا نبض هذا الوطن وقاتلوا من اجله وضحوا بدمائهم الزكية من اجل مستقبل مشرق لكل شعب كوردستان، وها هي قوافل الشهداء الأبرار في وطننا الأجمل تزين تاريخ نضال هذا الشعب بكل مكوناته يتقدمهم ذلك الشهيد البطل محمود ايزيدي وهو يحمل راية كوردستان ورمزها في الحرية والانعتاق.

حقا ونحن نتحدث عن أجمل البلدان وطننا كوردستان حري بنا أن نتذكر دوما هذه الجنان في بلادنا من أقصى غربها في شنكال وعفرين وعامودا إلى أقصى شرقها في بدره وجصان وشمالها في ديار بكر ووان، حيث تمتزج دون ما صهر أو استلاب كل المكونات في كرنفال من المحبة والإيثار والتعايش حتى ليضن المرء انه في أجمل جنان الخلد على الأرض.

كفاح محمود كريم

* عشيرة البو متيوت: من العشائر العربية التي استوطنت سنجار منذ أواخر القرن التاسع عشر وتسكن جنوب مدينة سنجار بحوالي 15 كم، وقد حاول النظام السابق زرع إسفين بينها وبين السكان الكورد طيلة أكثر من ثلاثين عاما لكنهم فشلوا وبقيت العلاقات بينهم وبين الكورد المسلمين والايزيديين على ما يرام حتى يومنا هذا.