في مقال سابق استوقفنا ما حصل في دارفور وجنوب السّودان، واستغربنا مواقف أغلب العرب حكّاما وشعوبا، أفرادا وهيئات ونخبا من قضيّة دارفور، واستغربنا وقوفهم عموما إلى جانب الجلاّدين والقتلة، وإهمالهم للضّحايا والمستضعفين. إنّهم يقفون ويبكون ويتبرّعون لضحايا العدوان الإسرائيليّ الغاشم على غزّة، وقد هبّ الكثير منهم إلى العراق لمقاتلة الغزاة الأمريكيّين ونصرة المظلومين من العراقيّين.. كما أنّ موقفهم كان موقف استحسان عندما تدخّل الحلف الأطلسيّ لحماية مسلمي البوسنة والهرسك من مذابح الصّرب. لكنّنا لم نر ولو مظاهرة أو بيانا في شجب كلّ ما فعل صدّام من تقتيل ومقابر جماعيّة واستعمال لأسلحة الدّمار الشّامل ضدّ شعبه. ولم نر أيّ مظهر احتجاج على حرب البشير على شعبه في الجنوب، ولم يستنكر إلاّ القليلون مذابح دارفور التي أودت بما يفوق عدد سكّان مجموعة من الدّول الخليجيّة. بل بالعكس يملأ أسماعنا تبرير الحرب والتّشكيك في فظائعها، والدّفاع باستماتة عن مرتكبيها.. وها هم اليوم يتنادون محامين وإعلاميّين وحكّاما ووزراء ومثقّفين للذّود عن مرتكب هذه الجرائم التي هي بكلّ المقاييس جرائم ضدّ الإنسانيّة.


هنا نطرح السّؤال : لماذا يتصرّف العرب، أغلب العرب على هذا النّحو؟
إذا اعتبرنا أنّ مفتاح الإجابة على هذا التّساؤل في أنّ الذين طالتهم هذه الجرائم هم من لون مختلف مثل سكّان جنوب السّودان وغربه، فهذا غير صحيح تماما. لأنّ سكّان السّودان الشّماليّين هم من نفس السّحنة. وإذا اعتبرنا أنّ سرّ هذا الموقف يكمن في أنّ الذين طالتهم يد جريمة الدّولة كانوا من أتنيّات مختلفة كالأكراد مثلا، فهذا مردود عليه بأنّ مذابح الجنوب كانت مروّعة وأنّ الضّحايا فيها كانوا من العرب quot;الأقحاحquot;. وإذا ما افترضنا أنّ الدّين هو سبب عدم الاكتراث بهذه الضّحايا، فسنرى أنّ سكّان دارفور من المسلمين السّنّة وليسوا من الشّيعة كسكّان جنوب العراق. إذن كيف يمكن أن نفسّر هذه الظّاهرة اللاّإنسانيّة عند العرب؟


لكي تتّضح معالم المأزق يمكن أن نلجأ إلى الأرقام، لأنّها ليست آراء ولا يمكن الاختلاف حولها. إنّ ما قتلته إسرائيل في عدوانها الغاشم على غزّة لا يتجاوز الألف، وإنّ ما قتلته في حربها على لبنان سنة 2006 قد يتجاوز الآلاف بقليل. وإنّ ما قتل بفعل الأمريكان في غزوهم للعراق لا يتعدّى 10 بالمائة من الضّحايا الذين سقطوا على يد العرب أنفسهم. بل إنّ ما قتله الزّرقاويّ وحده يتجاوز ما قتله الأمريكيّون من مدنيّين في العراق.. والكلّ يعلم كم حزن الكثير من العرب وكيف أقاموا بيوتا للعزاء عندما قتل الزّرقاوي، بل كيف اتّشحت بعض مذيعات قناة الجزيرة بالسّواد حدادا على هذا القاتل. في المقابل، إنّ ما قتله المطلوب عمر حسن البشير في إقليم دارفور وحده يتجاوز 300 ألف قتيل. وإنّ ما شرّده من أهلها قد يصل إلى مليوني نسمة. وإنّ ضحايا صدّام حسين، سواء في حروبه العدوانيّة على جيرانه، أم في قمعه لأبناء الجنوب في انتفاضته ضدّ جوره، أو ما قتله من الأكراد بالأسلحة الكيمياويّة لا يستطيع أحد إلى اليوم أن يحدّد عددها بدقّة، ولكنّ هذا العدد يفوق ما قتلته إسرائيل من مدنيّين وعسكريّين منذ اغتصابها لفلسطين حتّى الآن. من هنا ندرك أنّ العرب لا يهبّون ويغضبون لعدد القتلى وفداحة الخسائر وجسامة الجرائم، بل لشيء آخر سنحاول البحث عنه.


إنّ العرب أخذوا مسمّيات عصريّة وأطلقوها على بنى قديمة، ومن بين هذه التّسميات كان مصطلح quot;الأمّة العربيةquot;. ورغم أنّ مصطلح الأمّة كان يعبّر في الفكر القديم عن الأمّة الإسلاميّة التي لا حدود لها في الإقليم، وإنّما تشمل جملة المؤمنين تحت قيادة حاكم مسلم، فإنّ الأمّة بهذا المعنى هي التي تستوجب الولاء لها وما وراءها يستوجب البراء. وباعتبار أنّ الأمّة بهذا المفهوم هي عبارة عن قبيلة كبيرة، فحمايتها من سطوة القبائل الأخرى تكمن في احترام الأعراف التي قد تتّخذ شكل أحكام شرعيّة أو قوانين. لذلك نجد كثيرا من فقهاء المسلمين يحرّمون الخروج على الحاكم، وإن كان جائرا أو فاسقا، أي أنّهم يفضّلون التّضحية بالسّلام الاجتماعيّ في حالة الظّلم، والتّضحية بالعقائد في حالة الفسق، حفاظا على شوكة القبيلة الأمّة وعدم ذهاب ريحها. فمصطلح الأمّة عند العرب ليس مصطلح الأمّة الحديث، وإنّما هو لا يعني سوى القبيلة ببنيتها القديمة، وأعرافها وسلوك أفرادها القديم. وحتّى وإن تحوّلت شكلا إلى مجتمع ودولة، فإنّ قيمها الحقيقيّة، وتصرّفات أفرادها تبقى ضاربة في القدامة. قد يطلق على شيخ القبيلة العربيّة لقب quot;سلطانquot; أو quot;رئيسquot; أو quot;ملكquot; أو quot;أميرquot;، ولكن يبقى المحتوى القديم لصلاحيّات شيخ القبيلة، وذلك بالسّيطرة على مقدّرات القبيلة في حلّها وترحالها وحروبها وسلامها. وقد تكتب هذه القبيلة دستورا أو مدوّنة قوانين، ولكنّها تبقى دائما متشبّثة بتلك العادات والأعراف التي تحكم القبيلة.. وإن أخذت في متنها شيئا من الأفكار أو القيم الحديثة، فإنّها لا ترى طريقها إلى التّطبيق، وتبقى حبيسة النّصوص لا تتعدّاها.. وشيخ القبيلة هذا يتعامل مع المعارض من القبيلة بنفس الطّريقة القديمة، فهو يبيح دمه، أو ينفيه كما ينفى الخلعاء والصّعاليك في قبيلة الجاهليّة، أو المنافقون والمرتدّون في قبيلة الإسلام. التّغيير الآن يظهر فقط في وصف سلوكهم بالخيانة أو العمالة في قبيلة العصر الحديث. كما أنّ نظام القبيلة المبنيّ على الغنيمة لم يتغيّر، فقد كانت القبائل يغزو بعضها بعضا من أجل الغنائم، أمّا اليوم فحاكم القبيلة العربيّة الحديثة يجبي الضّرائب أو يحتكر الرّيع ليوزّعه على الموالين والأزلام وفرسان حمايته. باختصار، نحن ما زلنا نعيش نظاما قبليّا، بكلّ قضّه وقضيضه، بكلّ أعرافه وسلوكه، بكلّ قيمه وعاداته.


إذا كان هذا التّحليل الموجز ينطبق فعلا على واقع الحال، فإنّ مجموع هذه القبائل العربيّة المتحالفة تحت راية جامعة الدّول العربيّة قد تنادت في الدّوحة من أجل نصرة أحد شيوخها، هو المدعوّ حسن عمر البشير، معتبرين أنّ ما فعله شيء عاديّ، يناقش في مجلس القبيلة. فليس لأحد الحقّ في التّدخّل في هذا الشّأن الدّاخليّ جدّا. وإنّ العرف يقضي بأنّ تمرّد عشيرة أو فخذ من القبيلة على شيخها يجب أن يقع عليه العقاب، وبالكيفيّة التي يراها هذا الشّيخ. هذا عن الشّيوخ الحكّام. أمّا أفراد هذه القبائل المتحالفة وهو ما يطلق عليه بالتّعبير الحديث quot;شعوباquot; فهي تؤمن بأنّ التّدخّل الخارجيّ في شؤون أحد قبائلها اعتداء خطير واستضعاف مذلّ، وإن كان ولا بدّ من لفت نظر هذا الشّيخ الذي بالغ في تأديب إحدى العشائر، فهذا من مسؤوليّة بقيّة العشائر يتدارسه شيوخها، ويتّخذون ما يرونه من قرارات في حقّ هذا الشّيخ. أمّا الأمر غير المقبول فهو أن تتدخّل القبائل المعادية لإحقاق حقّ أو رفع مظلمة. لأنّ الولاء هو لهذا الشّيخ مهما فعل، والبراء من ذلك الطّرف الخارجيّ مهما كانت نواياه حسنة.


من هنا نستطيع أن نفهم معضلة سلوك الإنسان العربيّ الذي لا ينتفض للكارثة مهما عظمت إذا كان مرتكبها فردا في القبيلة العربيّة المسلمة، ولكن الويل والثبور لأيّ فعل يقع من الآخر مهما كان هيّنا. أي أنّ الإنسان العربيّ عندما يقيّم حادثة فإنّه ينظر فقط لصفة مرتكبها وهويّته، وليس لضحيّتها وجسامة ما حصل لها. فإن كان مرتكبها من داخل القبيلة في قمعه الأكراد أو الشّيعة، أو البشير في جرائمه بجنوب السّودان وغربه، فهو يفضّل السّكوت ويحاول التّناسي. أمّا إذا كان مرتكبها الآخر الكافر فهو ينتفض ويفزع ويشجب ويستنكر وينهض لنصرة quot;الإخوةquot; وquot;الأشقّاءquot;..


ويبدو أن المجتمع الدولي عندما فقد الأمل في الدولة العربية الحديثة استسلم لجامعة القبائل العربية، فحضر بنكي مون أكبر ممثل للمنتظم الأمميّ قمّة الدّوحة التي حضرها المطلوب عمر البشير، ولم يقاطع جلسة مجلس القبائل العربية عندما أدان قرار المحكمة الدولية.. لم يعترض ولم يستغلّ المناسبة حتّى للتّفاوض بخصوص طرد صالح البشير لمنظّمات الإغاثة الدّوليّة.. وهذا يمثل استسلام العالم المتمدن لشيوخ هذه القبائل الهمجيّة..


متى يستطيع المواطن العربيّ أن يخرج من شرنقة القبيلة، وأن يئد إلى غير رجعة عاداته السّيّئة وأعرافه البدائيّة؟ متى نرى العربيّ يهتزّ لإخواننا في الإنسانيّة وفواجعهم، ويشجب الجرائم التي تطالهم، بغضّ النّظر عن هويّة مرتكبها؟ متى يتحلّى العربيّ بالأخلاق المدنيّة ويدين الظّلم أيّا كان مصدره، وأيّا كان لون الضّحيّة أو دينها أو قوميّتها؟ متى يفهم العربيّ أنّ سلوكه العنصريّ غير المبرّر لا يمكن للبشريّة الأخرى أن تفهمه، ولا يمكن إلاّ أن يبعث على الحيرة والخجل؟

محمد عبد المطلب الهوني