لا يختلف اثنان في الاقرار بمدى الاذى والقسوة والحيف الذي وقع على اكتاف الاكراد الفيليين من قبل النظام الديكتاتوري البائد. صحيح ان النظام الشمولي quot;وزعquot; جرائمه على الجميع؛ الا ان ما اصاب الاكراد الفيليين، عد ذروة ذلك الظلم وذلك الاضطهاد. ففي قرار واحد وسريع وquot;بجرة قلمquot;،كما يقال؛ تم اسقاط المواطنة عن مئات الآلاف منهم. كما اقترن ذلك الاجراء التعسفي الظالم بنهب اموالهم المنقولة وغير المنقولة ومصادرتها، وابعادهم الى ايران وسجن شبابهم واسرهم في سجون ومعتقلات الطاغية السرية الكثيرة، ومن ثم تغييبهم بحيث لا احد يعرف حتى الآن مصيرهم وماذا حصل لهم.
إن مجرد استذكار ما كابده الاكراد الفيلية من ويلات، كفيل بان يملْ النفس رعباً ورهبة، حتى وان مر نيف وربع قرن على واقعة فجيعتهم المأساوية وهم يقتادون من بيوتهم ومحل سكناهم التى شيدوها بعرق جبينهم وبعملهم الشريف: المضني دائما، ويرمون على الحدود بين حقول الالغام بحجة عدم عراقيتهم: هم الذين سكنوا مع ابائهم واجدادهم هذه الارض منذ آلاف السنين وعمروها مع الآخرين. ولئن كان مجرد استعادة وصف تلك الحوادث التراجيدية الان، كفيل بحضور ذلك المقدار من الذعر والهلع، رغم قدمها وتقادمها، فكيف كان، اذن، شعور quot;ابطالquot; تلك الفواجع، هم الذين عايشوا تلك المعاناة ورأوا بام اعينهم آبائهم وامهاتهم واقربائهم يتساقطون موتى الواحد تلو الآخر جراء قساوة الوضع الرهيب الذي وضعوا فيه؟. - لا احد، مهما اتي من بلاغة، يمكنه ان يصف مقدار تلك الاهوال. وحدهم الذين عانوا تلك المأساة وتحملوها باستطاعتهم سرد تفاصيل الجحيم الذي مروا عبره.
لكننا نعرف جيداً بان محنة الاكراد الفيلية كانت مفجعة، وجرت احداثها بقسوة ما بعدها قسوة، وستظل تلك الاحداث، هي وعواقبها تلاحق القتلة، وتشير الى جرائمهم الوحشية التى ارتكبوها، مطالبة بانزال العقاب الصارم بكل من اُقترف اثماً بحق اؤلئك المواطنيين، واعتبار الجرائم التى لحقت بهم كونها جرائم موجه ضد الانسانية؛ ما يقتضي اولا وبسرعة، ارجاع حقوقهم غير المنقوصة، وتعويضهم جميعا، هم وورثتهم، عن ما مرّ بهم من مصائب وكوارث!.
بدا يوم سقوط الديكتاتورية في 9 نيسان الاغر، وكأنه ايذاناً بانتهاء معاناة العراقيين، بضمنهم الاكراد الفيلية. وقد عملت خصوصية مأساتهم في فضح النظام السابق وتبيان وحشيته تجاه مواطنيه، ما اقنع كثر من المتعاطفين مع قضية الشعب العراقي بضرورة ووجوب اسقاط النظام الشمولي المنبوذ اقليميا وعالمياً. لكن اتجاه الاحداث بعد السقوط اتخذ مسارا غير متوقع بسبب هيمنة الاحزاب الدينية والقومية، التى تبين بانها ليس فقط لا تمتلك مشاريع جادة لحلول مشاكل العراق المعقدة فحسب، وانما اعتمدت، (بسبق اصرار غير مفهوم ولا مبرر) على بعض ثقافة quot;تقاليدquot; الحكم الشمولي في النظام السابق واساليبه. واوكلت سلطتها، في الغالب الاعم، الى ناس غير اكفاء، انطوت تصرفاتهم على شعبوية فاضحة، واتسم جل نشاطهم في امور غير مجدية لم يستفد احدا منها كثيرا. وكان غالبيتهم بعيدين كلياً عن طبيعة اختصاصات المناصب التى شغلوها، وكثر منهم لا يمتلكون ادنى معرفة مهنية بطبيعة تلك المناصب. وترافق كل ذلك مع ظهور مسببات آخرى عديدة خارجية وداخلية، معروفة للجميع، اثرت بقوة على تأزيم المشهد السياسي واحتقانه، ما افضى الى نتائج كارثية نشهد، بمرارة، تبعاتها الاليمة الان.
على ان مايثير الدهشة والحيرة معاً، هو موقف الحكام الجدد تجاه معاناة الاكراد الفيليين، التى ظلت مشكلتهم عالقة، طوال السنين التى اعقبت السقوط، من دون حل جذري (ومتوقع!)، يعيد الحقوق المشروعة التى نهبت في وضح النهار، الى اصحابها. فاكثريتهم لم يبت في ارجاع ممتلكاتهم لحين الوقت الحاضر، كما ان قضية آسراهم المختتطفين مابرحت يلفها الغموض وعدم اليقين، فضلا على عدم حسم مشروعية مواطنتهم التى لا تزال قرارتها اسيرة رؤى تتغذى من quot;ارثquot; ثقافة النظام المباد. وفي إختصار شديد فان فاجعة الاكراد الفيلية لا تزال مستمرة، تنتظر الحل، الذي يدعي الجميع لاسيما الطبقة الحاكمة، باحقية ومشروعية وشرعية حقوقهم. وفي ظني ان المستقبل القريب لا يحمل اية بوادر لحل هذه المشكلة، التى بدأت تقلق المجتمع العراقي بكل فئاته، نظراً لعدم مقدرة المسؤولين الحاليين، (بجهلهم الفاضح وعدم كفاءتهم وايغالهم بفساد مالي وادراي)، في تبني مقترحات واقعية بمقدورها ان ترفع الظلم وتزيل المظلومية الى وقعت على كاهل الفيلية ؛ مثلما لا يمكن لتلك الطبقة الحاكمة، ولنفس الاسباب، ان تقترح مشاريع تنموية واعمارية تهم البلد وترفع من مستواه الحضاري والثقافي. وquot;منجزquot; السنين الست بعد السقوط يحكي ببلاغة عن ذلك!.
في خطاب له في ذكرى مأساة الاكراد الفيليين، اقترح مسؤول رفيع في الدولة العراقية، أن تتنادى النخب الفيلية quot;.. لتحمل مسؤوليتها بالتوحد وان يتبلور لديها تصور واضح لما يجب ان تقوم به الحكومة العراقية ويقوم به النواب والاكاديميون.quot; (موقع شفق الالكتروني في 4 نيسان 2009). وقد اثار هذا النداء حنق بعض المثقفين الفيلية وغضبهم، واعتبروا ذلك التصريح بمثابة تنصل عن واجبات السلطة التنفيذية وما يتعين ان تقوم به تجاههم. والحق انه اقرار جلي وواضح، كما اراه، بعدم قدرة المسؤولين quot;بثقافتهمquot; الحالية وquot;كفاءتهمquot; المعروفة عن ايجاد تصور منطقي يؤهلهم لحل تداعيات تلك الفاجعة وايجاد حلول مقنعة ومنطقية لها. وهو امر متوقع ومعروف، لا يمكن له ان يثير امتعاض ودهشة احد. انه تحصيل حاصل لذيول الازمات المستفحلة وتبعات quot;العمىquot; السياسي quot;المترعquot; بها البلد الان.
ان التطلع نحو quot;حكمةquot; رجال السلطة الحالية، والاقتناع بامكانية ايجاد حلول ناجعة لمحنة الاكراد الفيليين عندهم، سيعمل على اطالة تلك المحنة، ويؤدي الى ضياع احقيتها. ويتعين ان يعى جميع العراقيين التواقيين لرؤية بلدهم بلداً متسامحاً وتعددياً وديمقراطياً، بان عدم حل محنة الاكراد الفيليين، سيضرب بالصميم تلك الرؤى؛ ويعيق الوصول الى الصورة المشرقة لعراق المستقبل الذي نرغب. كما يتعين التذكير بان واقعة فاجعة الاكراد الفيلية ليست تهّم ضحاياها حصراً؛ انها تهم الجميع، وفي طليعتهم نخب المثقفيين العراقيين معاضدي القضايا العادلة، وبضمنهم بالطبع المثقفيين الفيليين. ويقع على عاتقهم جميعاً تهيئة الحلول واجبار اصحاب القرار على تبني هذه الحلول باساليب حضارية كفلها الدستور النافذ. بغير ذلك سيكون الامر حرثاً في بحر!.
ومثلما يهم جميع العراقيين الشرفاء ايجاد حل لقضية الاكراد الفيليين، فعلى الاخيرين ان يدركوا بان حل قضيتهم منوط بحل مشاكل العراقيين الآخرى. لا يتعين ان تكون ثمة افضليات في حسم فواجع العهد المباد. فالتراتبية هنا مرفوضة، ولا يجوز لاحد تصور عراقاً مسالما وصحيا، اذ شعر مكوّن فيه بانه مغبون اوحقوقه منتهكة. كما انه ليس من الحكمة اضفاء قداسة على فجيعة ما، وتجريد آخرى منها. واذكر اني شخصياً حررت رسالة مفتوحة الى برهان شاوي، قبل اربع سنوات (4 أيار2005، موقع الحوار المتمدن)، عندما هبّ مع رفاقه لتأسيس كيان سياسي عراقي جديد باسم quot;الحزب الكوردي العراقيquot;، مناشدا اياه مع رفاقه بان لا ينظرالى محنة الاكراد الفيليين من كونها quot;..مصدراً من التفرد quot;الفجائعيquot;، والارتقاء بها كحالة خاصة ومتقدمة عن المظالم الآخرى، التى انزلها النظام الاستبدادي في حق الآخرين، فالظلم واحد، وآلام ضحاياه متشابهة، والقتل نتيجته واحدة، رغم تنوع الاساليب والطرق المستخدمة.. لقد مرت فئات وطوائف وشعوب وقوميات عديدة، على امتداد التاريخ الانساني، في مآسي مماثلة لما عانى به الكورد الفيليين بالعراق. لكن حديث بعض من تلك الكيانات في استذكارها لتلك الفواجع وشعارات استدعاءاتها ظل قرين خطاب مأسوي يتبنى رؤية بعينها، رؤية تمجد معاناتها quot; المتفردةquot; عاليا، وتتماهى مع ماهية الحدث الكارثي الذي عانته، بحيث وصل بها الامر الى انكار تماثل محنتها مع محن الآخرين التى مروا بها..quot;. وقد اجاب الدكتور شاوي على ندائي في حينه قائلا : quot;.. قرأت رسالتك مرات عديدة، وتمعنت فيها، وتوقفت عند ملاحظتك في عدم المبالغة في النبرة الفجائعية...quot;؛ ويضيف quot;... ومن هنا فان مبادرتنا جاءت لتحتضن فجيعة الكورد الفيليين ومعاناتهم الهائلة، لا لكي تكون لها النبرة العالية في المأساة العراقية، ولا نبالغ فيها ونجعلها جوهر خطابنا الفكري والسياسي، وانما لنجعلها جزءا لا يتجزأ من نشيد الضحايا والشهداء العراقيين، ولنؤكد على ضرورة القصاص من القتلة وعتاة المجرمين، وعلى ضرورة نشر ثقافة حقوق الانسان ودولة المؤسسات الدستورية والمجتمع المدني. فنحن نقولها بصراحة بانه لا سلام سيحل في العراق بدون قيام دولة المؤسسات الدستورية المنتحبة بنزاهة وبدون الايمان الحقيقي والمخلص بحقوق الانسان وقيمته التى لا تخضع للتأويل والتجريب والتفسير..quot; (انظر: موقع quot;وطن الجميعquot; الالكتروني).
واذ اتعاطف مع موقف الدكتور شاوي واحيّ موقف حزبه في رؤيته الصحيحة والصادقة والواقعية لحل مشكل الاكراد الفيليين، فاني اود ان اؤكد مرة آخرى، بان حلّ مشاكل العراق جميعا يكمن عبر هذا الطريق: طريق عراق متسامح يؤمن بحقوق الانسان وله مرجعية دستورية ديمقراطية. كما يتعين ايصال هذه الرسالة الى الجميع: سواء كانوا في السلطة ام المنضويين في مؤسسات المجتمع المدني. والمهم التعجيل في حل مشكلة الاكراد الفيلية العادلة التى طالت اكثر ما ينبغي بدون اي داعٍ وبدون اي سبب مقنع.
انها لمفارقة، ان يحصل بعض من تورط في تنفيذ مأساة الكورد الفيلية، (بطرق خادعة وخبيثة، وفي ظرف اربع سنوات او خمس)، على وثائق مواطنة وجنسية بلدان لجؤا اليها، وهم لا يعرفونها سابقا، ولم تربطهم بها اية رابطة، في حين يظل الاكراد الفيليين طيلة هذه السنين بعد السقوط (وقبله ايضا!) يطرقون، في وطنهم، ابوابا تبدو مغلقة في وجوههم، للحصول على حقوقهم المغتصبة؟
كيف يقدر، أذن، الرجال والنساء المتربعين على السلطة الان في العراق، العارفين جيدا بانهم علة وسبب اطالة محنة الاكراد الفيليين، ان يناموا قريري الاعين، ومن دون وخز ضمير؟
كيف يمكن ذلك؟
د. خالد السلطاني
التعليقات