بعد لحظات إنفراج إقليمي قصيرة للغاية إكفهر الجو و تكهرب الموقف، و تشابكت كل الخطوط، وعادت حليمة لعادتها القديمة وبرز الخلاف العراقي / السوري المزمن المعقد ليطل بقرونه و يفرض نفسه بشدة على المشهد الإقليمي رغم تبدل المعطيات الستراتيجية و الظروف الميدانية لأسس و جذور ذلك الخلاف، و الطريف أن حزب البعث لا يزال هو السبب المباشر في كل التداعيات رغم إختلاف موقعه في ملف إدارة ألأزمة الأخيرة!!

فإصرار الحكومة العراقية حتى اللحظة على مطالبها المعلنة بضرورة تسليم النظام السوري لحفنة من اللاجئين البعثيين العراقيين في الشام في طليعتهم القيادي البعثي المنشق عن قيادة عزة الدوري في العراق محمد يونس ألأحمد و بعضا من رفاقه قيل أن عددهم 271 بعثيا، يقابله بالمثل إصرار سوري على رفض الطلب مالم تكون هنالك ملفات و قرائن و إدلة إتهامية واضحة لا تدحضها أية شكوك تثبت قيام هؤلاء بتنفيذ أعمال إرهابية في العراق!!

وهي عملية ليست سهلة أبدا في ظل تناطح الإتهامات خصوصا و أن دور دمشق ألأمني و التعبوي و المخابراتي في العراق بعد الإحتلال قد أثيرت حوله ملفات إتهام عديدة، كما أن الموقف الرسمي السوري مما يحصل في العراق معروف و موثق، فبرغم العلاقات الوثيقة جدا جدا للنظام السوري بالنخب و الأحزاب العراقية الحاكمة التي تمتلك تاريخا طويلا من العمل المشترك مع المؤسسات الأمنية السورية إلا أن للإعتبارات الإيديولوجية و المواقف الحزبية و ألأدوار الإقليمية رأيا آخر ومختلف عبر عنه تواجد قيادات المعارضة العراقية المسلحة وفصائل عديدة مما يسمى بالمقاومة الوطنية في الساحة السورية، ودمشق التي تستقبل المسؤولين العراقيين و تدخل في مفاوضات أمنية مع الأمريكيين و تأوي مئات الآلاف من العراقيين، هي نفسها دمشق التي تنسق مع الإيرانيين حول كل التفاصيل الإستخبارية، وهي نفسها التي تدعم القيادات البعثية السابقة و هي نفسها التي تغض النظر في أحايين كثيرة عن تسلل الجماعات الإرهابية الأصولية للعمق العراقي لتنفيذ عمليات إرهابية عشوائية و تستهدف المدنيين في أغلب الأحوال!، ودمشق التي تستثمر فيها أموال النخب العراقية الحاكمة الجديدة، هي نفسها دمشق التي تستثمر فيها أيضا الأموال العراقية المهربة العائدة لأتباع النظام السابق!!

هنالك وجوه عديدة ومختلفة للدور السياسي و الستراتيجي السوري الرسمي في الميدان العراقي وهي ملفات يحرص قادة النظام السوري على أن تكون أوراق مهمة للغاية في يدها في المفاوضات الدولية المتعلقة بمستقبل الشرق الأوسط و إرتباط ذلك بملف مفاوضات التسوية مع إسرائيل و ملف إسترجاع الجولان المحتل إضافة إلى إرتباط كل تلك العوامل بالملف اللبناني الحساس الذي لم تطو دمشق كل أوراقه بعد...! ولا شك إن الخاصرة العراقية الهشة و الوضع العراقي الركيك له أولوية كبرى في ملف إدارة الصراع الإقليمي من الجانب السوري، و إلتهاب الموقف مع العراق وفقا للصورة التي حدثت يشكل مفاجأة حقيقية للنظام السوري الذي كان مطمئنا لخطوط دفاعه الداخلية و التحالفية في العراق، فإصرار حكومة المالكي وهي تعيش هواجسها الإنتخابية على تصعيد الموقف السياسي وحتى العسكري و الأمني مع دمشق يعكس حالة جديدة من إنقلاب المواقف لم تكن منتظرة أبدا من جانب مجموعة الأحزاب الدينية العراقية القريبة لطهران و المتحالفة تاريخيا مع النظام السوري بل و المرتبطة معه بأكثر من ملف و ملف!، كما أن التصريحات العراقية المتكررة عن ضرورة نقل ملف الخلاف لمجلس ألأمن الدولي يدخل القضية في متاهات خطيرة ذات جوانب و أبعاد دولية يعلم النظام السوري جيدا طورة تداعياتها المباشرة وبما يؤكد بأن اللعبة الإستخبارية وهوامش المناورة التي باتت تضيق تدريجيا ستؤدي لا محالة لحالة صدام إقليمي كبرى!!

لا نعرف جدية ولاقدرة حكومة المالكي الحقيقية على تنفيذ تعهداتها و تهديداتها المعلنة في ضوء الأوضاع الداخلية القلقة و المتشابكة و الهشة في العراق الراهن، ولكن خروج النخب العراقية الحاكمة من تحت عباءة وخيوط الشرنقة السورية قد أضحت من مفاجآت المشهد الإقليمي المتحول، والغريب أن هنالك بعض الأصوات التي ترتفع في بغداد اليوم تدعو الحكومة العراقية للقيام بنشاطات إرهابية مماثلة في المدن السورية! كما تدعو إلى تقديم الدعم العلني و الواضح للمعارضة السورية المسلحة!! كجزء رئيسي من حملة الضغط العراقية لتسليم القياديين البعثيين، وهو ما يعيد إلى الأذهان كل ملفات وحكايات الماضي القريب حينما كان نظام البعث العراقي السابق يرسل السيارات المفخخة لدمشق وحلب ويدعم الإخوان المسلمين في حربهم المفتوحة، فيما يرد النظام السوري بدعم المعارضة العراقية السابقة و الحاكمة حاليا والتي تهدد اليوم باللجوء لنفس أساليب صدام حسين للرد على السوريين... إنها فعلا دنيا عجيبة وغريبة!! و تحولات مدهشة في إنقلابيتها...؟

و أزاء الرفض السوري الصريح لتقديم رؤوس البعثيين العراقيين كثمن واجب الدفع لإنهاء ألأزمة الجديدة هل ستقوم حكومة نوري المالكي بتفجير المدن السورية؟ وما هو موقف الحرس الثوري الإيراني الحليف لنظام دمشق وقتها؟ أم أن العملية برمتها ليست سوى ساحة واسعة للصراخ و العويل سرعان ما سيختفي سريعا في أقرب محطة عمل إرهابي قادم...؟ الشيء المؤكد لدينا هو أن دمشق لن تسلم رفاقها البعثيين لمقصلة ( حزب الدعوة )!! فرفاق البعث العراقي ليسوا عبدالله أوجلان؟ كما أن الحكومة العراقية لا تمتلك أبدا إمكانيات ووسائل الجنرالات الأتراك رغم المساندة الأميركية! وهي على الأغلب ستكتفي بالصراخ و البيانات و لن تتعدى في مواقفها نقطة اللاعودة.. فإلتهابات العراق الداخلية تجعلها عاجزة عن إلهاب الشرق الأوسط الذي دخل اليوم مرحلة جديدة ومختلفة في تاريخه ستكون حافلة بالمفاجآت الغريبة...!.
[email protected]