الرجل الذي عرّفني علي الموسيقي الغربية الكلاسيكية، وعلي أشعار شيللي وباوند، وعلي أطايب الأطعمة الغريبة مثل صلصة ويلز المصنوعة من أعشاب البحر، كان عراقياًَ اسمه صلحي الوادي (1934 ـ 2007).كان مؤلفاً موسيقياً وعازفاً موهوباً وقائد أوركسترا ترك أبوه الوجيه مدينته الأمّ، بغداد، إلي مدينتي الأمّ، دمشق، في بواكير القرن الماضي، حين كان التنقل بين هاتين العاصمتين العربيتين العريقتين ما يزال يسيراً.
وفي الشقة المتواضعة، حيث سكن صلحي مع زوجته الرائعة سينثيا، عازفة البيانو القادمة من ويلز، كانت الحياة تسير علي نحو يختلف عن بيوت المدينة الأخري. وفي حين أنّ معظم السوريين من أبناء طبقته كانوا منطوين علي تقاليد اجتماعية صارمة، وكرّسوا انفسهم لأعمال تكديس الثروة، ظلّ هذا العراقي المهاجر روحاً حرّة، يكدّس الكتب لا الثروات. وكانت الحجرات البسيطة غاصّة بأكوام الطبعات الشعبية من كتب الشعراء الذين أحبّهم. وأذكر، خصوصاً، طبعة بالية من مراثي ريلكه باللغة الإنكليزية، كانت صفحاتها متقرّنة ومنتفخة بسبب سقوطها في مغطس الحمام أكثر من مرّة. وما تزال تهزّني تلك التحية التي يزجيها الشاعر الألماني إلي ملاك الإلهام، ربما بسبب تلميحها الواهي إلي جبريل في القرآن الكريم. وما أزال أري صلحي يقرأ الأبيات الغنائية في مطبخه الفوضوي، وهو يملأ أطباق الفخار الطريفة، التي ألقي بها صديق فنّان، بالمخللات والفستق الحلبي:
مَن، إذا هتفتُ صارخاً، سوف يصغي إليّ بين الملائكة؟
وحتي لو، بغتة، ضمّني أحدهم إلي صدره،
فإنّي سوف أهتلك في ذلك الحضور الطاغي.
لكنّ قصيدة ديلان توماس quot;تلّ السرخسquot; كانت هي التي أحبّها صلحي أكثر من أي قصيدة أخري. كان يحفظها عن ظهر قلب، ويلقيها برهافة و اتقان. وكان يحلو لي ان اتخيل شبح توماس و قد عبر الأرض، ليجلس في تلك الغرفة خلال هاتيك الليالي العاطرة، ويبصر كلماته تمارس تأثيرها الفائق علي هذا الرجل العراقي، الذي تغرورق عيناه بالدموع وهو يلقي:
لا شيء أعبأ به، في نهارات بياض الحملان، فيأخذني الزمن
صاعدا إلي علّية اكتظّ بها السنونو في ظلّ يدي،
في غمرة قمر دائم العلوّ،
أخطو إلي منامي مصغياً إليه يحلّق في الحقول العالية
فأستفيق علي المزرعة، فارّة أبد الدهر من أرض بلا أطفال.
آه لي، حين كنت فتياً ورخيّاً في رحمة وسائطه،
وأبقاني الزمن مخضرّاً وفانياً،
رغم أنّي، في سلاسلي، غنّيتُ كما البحر.
والقصيدة التي تستوحي طفلاً لاهياً في طبيعة جميلة، quot;شرّفته بصحبة الثعالب وطيور الحجلquot;، وراقب quot;الخيول المسحورة تخبّ دافئةquot;، ذكّرت صلحي بطفولته في مزرعة الأسرة خارج بغداد، التي لم يكفّ عن العودة إليها مرّة بعد أخري، رغم الصعوبات والأخطار التي انطوت عليها تلك الرحلة. وحين التقيت به، كانت النخبة الأنغلوفونية عالية التعليم والترقّي، التي انتمي إليها أهله، قد دُمّرت في بلده منذ زمن طويل. وجاءت الإنقلابات العسكرية بأناس أفظاظ إلي السلطة، رفعتهم إليها المخططات الأنغلو ـ أمريكية وتولي حزب البعث الحكم، تحت قناعين مختلفين متحاربين، في العراق وسورية، بمباركة أمريكية.
وكان أن اندلعت الحرب العراقية ـ الإيرانية، وأخذت بلاد صلحي تدخل في انحلالها البطيء و العنيف. الأمريكيون زوّدوا دكتاتورهم المفضّل بالأسلحة والخدمات اللوجستية، وزادوا في تحريضه. وتكوّم الموتي في أعداد بذيئة علي الجانبين، في حرب كان يتوجب أن لا تقع في الأساس، ولسوف تبقي لطخة مريعة في سجلّ الولايات المتحدة في المنطقة.
ثمّ جاءت quot;حرب الخليجquot; الثانية، والحصار الإجرامي الذي أعقبها، فقتل جيلاً كاملاً من العراقيين، قرابة مليون نسمة. وكانت الرسائل ما تزال تصل من أبناء العمومة الذين نجوا من الحرب، ولكنّ صلحي قرأ ما بين السطور فأدرك أنهم جياع. كانت لديهم كبرياؤهم، أولئك الصامدين من الرجال والنساء، ولكنهم كانوا جوعي.
هنا أخذت روح صلحي الرائعة تذوي. صحيح أنه واصل تأليف الموسيقي وعزفها وتدريسها وتملق البيروقراطيين البلهاء لتأمين المال اللازم لطلاّبه الأحباء، إلا أنّ البؤس حلّ في عينيه ولم يعد يكترث حتي بإخفائه. أخذ يسير في نزهات اطول فاطول مع كلبه بوريس، الذي ظلّ قادراً علي انتزاع البسمة من سيّده. ثمّ أدخل آلة القانون والعود العراقي البليغ، هو الذي اصر في الماضي علي تدريس الآلات الغربية فقط في الكونسرفاتوار الموسيقي الهام الذي أسّسه في دمسق. ولقد واصل قراءة الشعر، ولكن بصمت، ولنفسه.
ولع صلحي بالشعر كان قد ميّزه كعراقي أصيل. ورغم أنّ الثقافة العربية منذ بداياتها اتسمت بعشق الشعر، فإنّ القصائد بأيّ لغة كانت تمارس تاثيراً جارفاً علي العراقيين، بوصفهم شعباً عاطفياً مشبعاً بالحنين إلي الوطن. ولعلّ شيئاً ما في طبيعة بلادهم كان يجعلهم هكذا. فالنهران العظيمان، دجلة والفرات، وأشجار النخيل التي تسيّج الضفاف، تستبطن حزناً عتيقاً وغامضاً لا يمكن إلا أن يذيب أقسي القلوب. وشعراء العراق، مثل المغنّين وعازفي الآلات الموسيقية ورواة الحكايات، يتلبّسهم جميعاً هذا الأسي الذي لا يوصف، فينتقل منهم إلي سامعيهم. وكان شاعر العراق الأعظم، بدر شاكر السياب، تجسيداً لهذه الصفة، وعبّر عنها في كلّ كلمة كتبها.
ولهذا لم تكن مصادفة محضة أنّ يخرّ صلحي علي خشبة المسرح وهو يقود الأوركسترا، في الوقت ذاته الذي شهد استعداد الدبابات الأمريكية لاقتحام بغداد، جالبة معها أبشع ما عرفته المنطقة من أنماط استعباد كولونيالية. لقد أسقطه أرضاً نزيف حادّ في الدماغ، فأفقده الحركة والنطق. ولم يكن في وسع هذه الروح الحرّة أن تبصر بلدها مكبلاً بالقيود.
لقد أحببتُه بما يكفي لكي أشعر بالعزاء لأنه لن يعرف ما حلّ بعراقه الحبيب، من احتلال وتمزيق ونهب وتدمير ووحشية وفساد. وكيف أنّ أكثر من مليون عراقي قُتلوا بسبب مجيء تلك الدبابات. وكيف أنّ نهرَيه الجبّارين يفيضان الآن سواداً ودماً: دم أناس من أمثال صلحي الوادي.
كاتبة وإعلامية سورية
عن القدس العربي
التعليقات