ايلاف: صدرت حديثاً عن دار quot;أزمنةquot; الأردنية الترجمة العربية لرواية فريدريش دليوس quot;قاتل لمدة عامquot; التي نُشرت في ألمانيا عام 2004 وعدها النقاد من أهم الأعمال الصادرة في الفترة الأخيرة. نقل الرواية إلى العربية سمير جريس.
ويُعد دليوس من أكثر الكتاب الألمان اهتماماً بتاريخ بلده المعاصر، لا سيما فترة الانتفاضة الطلابية والحركة اليسارية في الستينيات. كان شباب العالم يغلي بالتمرد والرغبة في التغيير، وكان الشعور السائد أن السلطة فاسدة في الشرق والغرب معاً، وquot;أن كل إنسان يطالب بأبسط الحقوق الأساسية ينال بلا رحمة نصيبه من القمع. إلى هذا الحد كانت صورة العالم بسيطة، إلا أن السؤال كان معقداً: كيف يدافع الإنسان عن نفسه؟quot; في quot;قاتل لمدة عامquot; يرسم دليوس جدارية ألمانية ضخمة عن تلك الفترة وعقود النازية التي سبقتها، جدارية مليئة بالتفاصيل المدروسة جيداً، لكن القارئ لا يضيع في شعابها.
quot;كُلفت بالقتل في ساعة الغسق، عشيةَ عيد القديس نيقولاوس.quot; بهذه الجملة المقتضبة ذات العواقب المهولة، يبدأ فريدريش كريستيان دليوس أحداث روايته المثيرة. هذا الموقف المتفجر المُعلن عنه منذ البداية سيظل هو السمة الغالبة على الرواية التي تزاوج بين أحداث التاريخ المعاصر وعناصر السيرة الذاتية في نص شيق يختلط فيه الوثائقي بالمُتَخيل.
ما نقرأه هنا هو quot;اعترافquot; الراوي مجهول الاسم الذي تبين سيرته توازيات واضحة مع حياة الكاتب. بعد مرور ثلاثين عاما يخبرنا الرواي بالخطط التي نسجها عامي 1968/1969 لاغتيال القاضي النازي هانز يواخيم ريزه. آنذاك كان الرواي طالبا يدرس الأدب في برلين، وداخل رأسه تتصارع كافة الأفكار السياسية، إلا أنه إنسان مهذب متحفظ، وبالتالي لا يصلح للوهلة الأولى أن يكون هو المنتقم العنيف.
عندما أصدر القضاء الألماني الغربي آواخر الستينيات حكماً ببراءة القاضي المسؤول عن إصدار ما يزيد عن 200 حكم بالإعدام خلال الحقبة النازية، كان ذلك فضيحة سياسية وأخلاقية. ولكن الفضيحة وحدها لم تكن هي ما جعلت الرواي يخرج عن طوره، وحثته على أن quot;يرسل إشارةquot; مناهضة للظلم السابق والراهن. ما أغضبه كان بالأحرى الشعور بأن ذلك يمسه شخصياً، وهو ما جعل القرار يختمر في نفس هذا الإنسان الهادئ المسالم لكي يثأر من ريزه الذي شاخ الآن وضعف، ولكي يكفّر هذا القاضي عما ارتكبه من مظالم. كان غيورغ غروسكورت - والد أكسل، أفضل أصدقاء الراوي - أحد الذين حكم عليهم القاضيان ريزه وفرايزلر بالإعدام. ربطت بين أكسل والرواي صداقة وثيقة منذ الطفولة، وعبر هذا الصديق سمع الراوي لأول مرة عن جرائم حقبة النازية. أما quot;الخبرة الحاسمةquot; في حياته فكانت عندما كشف أكسل ndash; وهو في الثانية عشرة من العمر ndash; عن سره، وباح لصديقه بأنهم quot;قطعوا رأسquot; والده في سجن براندنبورغ عام 1944. أما السؤال الذي ما زال يتردد صداه في رأس الراوي البالغ: quot;لماذا يقطعون رأس إنسان؟quot; وعندما يسترجع الراوي الصدمة التي حدثت له في الطفولة، وما تولد عنها من سخط عاجز، فإنه يجد فيها البذرة التي أنبتت خطة الاغتيال. من ناحية راح الرواي يخطط بدقة متناهية للثأر من القاضي النازي، ومن ناحية أخرى راح يجمع المعلومات لإصدار كتاب عنه. أما هدفه من الكتاب وعملية الاغتيال فهو إرسال إشارة ضد تناسي جرائم النازية في ألمانيا ما بعد الحرب: quot;ينبغي أن يكون الأمران علنيين، الاغتيال سينفذ فور طرح الكتاب في الأسواق. الكتاب يشرح دوافع الاغتيال، والاغتيال هو النتيجة الحتمية للكتاب. وبذا يتحد القول أخيراً مع الفعل، وينتفي التناقض الذي طالما عذب أصحاب الكلمةquot;.
خيوط القص في الرواية تقود القارئ إلى أحداث فترة النازية وما أعقبها من انقسام ألمانيا، كما تقود إلى أحداث الحركة الطلابية في الستينيات، وما صاحبها من رغبة في الفعل بالغت في تضخيم قدرة الذات. والجزء الأخير المتعلق بالحركة الطلابية يقصه الراوي بعيون نقدية، وبعد أن ابتعد عن أحداثه بمسافة زمنية تبلغ أكثر من ثلاثين عاما، وهو ما يتجلى على نحو خاص عبر النبرة الساخرة من الذات، إلا أنها سخرية لا تقلل من جدية التناول لمختلف الفصول المظلمة في التاريخ الألماني المعاصر.
مثلما نجح في رواياته الوثائقية السابقة - مثل: quot;بطل الأمن الداخليquot; و quot;مقديشيو، مقعد بجانب الشباكquot; - ينجح المؤرخ دليوس هنا أيضا في أن يروي قصة من مختلف الزوايا على نحو جذاب ومثير، وعبر المزج الفني للمستويات الزمنية الأربعة التي تعكس خبرات رئيسية في حياة الراوي. لقد نجح دليوس بروايته في الجمع بين تناول موضوع شديد الراهنية وتقديم معلومات توثيقية للقارئ، وهي بهذا تنجز ما كان الطالب يهدف إليه عبر الكتاب الذي لم يكتبه: أن يقاوم النسيان وquot;يساهم في التوعية والديمقراطية والعدالةquot;.
قد يقول قائل: رواية عن النازية والستينيات في شطري ألمانيا، إنها أحداث بعيدة في أرض بعيدة - هل تهمنا في المنطقة العربية؟
لا يعيد التاريخ نفسه، لكنه يقدم دروساً تتشابه عِبَرُها. هذه الرواية تلقي ضوءاً كاشفاً على حقبة مظلمة في التاريخ الألماني، وتبيّن أن الجناة ليسوا بالضرورة وحوشاً آدمية. إن التعبير الذي استخدمته الفيلسوفة هنّه آرنت عن quot;عادية الشرquot; يجد له خير تجسيد في هذا العمل. وتظهر الرواية بجلاء أن الديمقراطية لا تولد بين يوم وليلة، وأن شعباً ساير الديكتاتور سنوات طويلة وآمن به، لن ينقلب شعباً حراً ديمقراطياً بمجرد إسقاط الطاغية - أحداث بعيدة في أرض بعيدة؟