طه عدنان: عندما اتصل بي الصديق الشاعر عبد الإله الصالحي في طلب شهادة عن الراحل سركون بولص لإذاعة مونتي كارلو، لم أجد لديّ شيئا محدّدا لأقوله عن هذا الشاعر الشاهق كجبل... فاعتذرت

ياسين عدنان وطاهر رياض وبولص في مهرجان لوديف الفرنسي صيف 2005
للصالحي وأنا أفكر في ذلك المقطع من قصيدتي quot;أكره الحبّquot;. القصيدة التي تورّطت في كتابتها ذات ضجر في بودابست، بلد أتيلا يوجف، قبل عامين ونصف من الآن:

لا أحبّ الرثاء
لأنه محضُ مجاملاتٍ متأخرةٍ
وملاطفاتٍ
نلوكها بعد فوات الأوان،
وأكره المديح
لأنه كذبٌ فصيح.

سحبتني دوامة العمل... لكن طيف سركون بولص ظلّ يرافقني... وفي لحظة سهوٍ سرحتُ بأفكاري إلى مراكش أواخر الثمانينات، عندما استعرت من صديقي الشاعر سعد سرحان ديوان سركون quot;الحياة قرب الأكروبولquot; الصادر حينها عن دار توبقال بالدار البيضاء. لقد اكتشفتُ شعراً جديداً خالصاً لا يضاهى على مستوى الفرادة والانفلات. شعر يتقدم خفيفاً من كلّ موسيقى كانت تُشكل لديّ حينها هيكل الشعر. لقد كانت قصيدة سركون بولص ثرّة ثرية بصورها الواضحة الغامضة قوية بنبرتها النثرية الخفيضة والنابضة بإيقاعات سرية تلزمها أكثر من أذن لكي تتحسس موسيقاها الجوّانية. ولقد كان لعوالم سركون بولص كبير الأثر في نفسي... أثر لا يضاهيه سوى الرنين السحري لهذا الاسم الآشوري الغريب الذي اختار المنفى موطناً وملاذاً.. قبل أن يرتضيه مرقداً أبدياً بعد ذلك. لذا كان من البديهي أن يرتبط لديّ اسم سركون بالهجرة والمنفى حتى أنه صار للمهجر عنوانا وللمنفى رديفاً... وهكذا وجدتني أستعيده رمزاً غامضاً حدّ الوضوح في قصيدتي quot;وئيداً أحفر في جليد حيّquot; التي كتبتها ذات حنين في أواخر 1999:

مثل أصحابي هناك
كان لي بابٌ ومفتاحٌ قديمٌ
وسماءْ
كان لي دفترُ أشعارٍ
سريرٌ ورفاقْ.
لكن أغوتني قصائد سركون بولص
أغواني أدب المهجر
منذ الرّابطة القلميّة
حتى آخر قصيدةٍ مجمَّدةٍ
لشاعرٍ عراقيٍّ
ينتظر الاعتراف به كلاجئ
في الدانمرك.
صديقي هشام فهمي
دعك من الحلم عبثاً
بالهجرة إلى سويسرا
واحفظ لقصائدك
شراستها الأليفة.

استعادة صريحة لشاعر أحببته... أما الاستعادة الأخرى فجاءت مضمرة في قصيدة كتبتها في يناير 2002 تحت عنوان quot;الشاشة عليكمquot;:

لا حياة خارجكِ، فضُمّيني إلى ذبذباتكِ
أيّتها الإلكترونات الرّحيمة
أنا أسيرُكِ المُساقُ برِضاي
سآتيكِ كاملاً غير منقوص
سآتيك بما أخفي وما أُعلن
وبما لم يخطر على بالي بعد
سآتيك بأحلامي وأوهامي
بأسماء دخولي كلّها
وبكلمات السر
سأحمل روحي على فأرتي
وأُلقي بها في مهاوي الكوكيز.

قبل خمسة أعوام، قرأتُ هذا المقطع على سركون بولص في مطعم فلمندي بمدينة أنتويرب البلجيكية. كان ذلك على هامش أمسية شعرية أحياها هناك رفقة الشاعر عبد الكريم كاصد. الأمسية نظمتها quot;ثقافة 11quot; الهولندية التي كان يرأسها الصديق ياسين النصير ويساهم معه فيها من أنتويرب ثلاثة مستشرقين بلجيكيين شباب: فرانك أولبريختس وهيلج دانييل وكارلوس تويس...
سألتُه إن كان قد انتبه لشيء خاص أو لفت انتباهه شيء أليف مثلاً. أجاب بالنفي باسماً... لأخبره بأنني كنت معجباً بشطر من شعره قال فيه quot;مثل خطيفة تذهب برضاهاquot;... لا أذكر أين قرأتُ ذلك ولا متى... لكنه له. وعندما كتبتُ quot; أنا أسيرُكِ المُساقُ برِضايquot; كنت في الواقع أسطو بأسلوبٍ شعري سافر على مقطعه الجميل الذي علِق في مكان مزهر شمال القلب جنوب الذاكرة. ضحك سركون طويلا وقال: quot;والله لا أذكر إن كنت كتبتُ ذلك... وإن كنتُ فعلت فلا أذكر متى وأين؟؟؟ يعني أنا مثلي مثلك تماماًquot;.

بعد ثلاثة أعوام من ذلك اللقاء، هاتفتُ أخي ياسين الذي كان بمهرجان لوديف الشعري جنوب فرنسا. قال لي: خالد النجار وطاهر رياض وفاضل العزاوي وسركون بولص معي وهم يسلمون عليك...
أما خالد النجار فنحن على صداقة بريدية وتلفونية ثم إلكترونية من زمان، ورغم ترددي على تونس في السنتين الأخيرتين وتردده هو على هذه القارة العجوز إلا أننا لم نلتق بعد... وأما طاهر رياض فقد أرداني صديقاً منذ لقائنا لأول مرة قبل أربع سنوات في بينالي الشعر العالمي بلييج... وأما فاضل العزاوي فأنا أعتز به صديقا كبيراً منذ لقائنا بمهرجان الشعر العربي الهولندي بلاهاي خريف 2002... لكن سركون؟؟؟ لقد استغربت فعلاً سؤاله عني... لأن اللقاء معه كان سريعاً مساءها... وأنا كنت محاصراً بموعد آخر قطار ليلة ذلك الخميس الأكتوبري البارد...
quot;هل قلتَ 24 أكتوبر؟؟؟quot; سألتُ فرانك أولبريختس على الهاتف.
quot;أجل كان ذلك ليلة الخميس 24 أكتوبر 2002.. بالضبطquot;.
quot; تقصد مثل اليوم تماماًquot;..
اتصلتُ مباشرةً بعبد الإله الصالحي في باريس... لكن هاتف الصالحي لم يكن يجيب.


بروكسل، 24 أكتوبر 2007

اقرأ أيضا:

وفاة سركون بولص

نصر جميل شعث، يحيى الشيخ وباسم النبريص: شهادات

مراسلات بين توفيق صايغ وسركون بولص

موت شاعر

سركون بولص أيقونة جيل الستينات

مراسيم الوداع الأخير في سان فرانسيسكو