محمد الحمامصي: يأخذ هذا الكتاب (تحولات القصيدة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين) الصادر هذا الأسبوع عن سلسلة كتابات نقدية عن هيئة قصور الثقافة للناقد والشاعر د. صلاح العايدي أستاذ النقد الأدبيبجامعة عين شمس، علي عاتقه منهجا علميا في بحث ملامح الشكل للشعر العربي الحديث ولتحولاته عبر عدة مداخل أهمها ما أسماه الباحث نفسه التشكيل الفني للقصيدة، فضلا عن أنه عني بالمركب المجازي والنحوي علي نحو ما واضعا في الاعتبار أن الوعي بهذا التشكيل وبدلالاته وتحولاته يعد ملمحا نقديا معاصرا لا مناص من الدخول إلي غياهبه لسبر أغواره.
ويري الباحث أنه لا نستطيع أن ندعي أن نموذج التفعيلة انتهي أو بطلت قيمته الفنية بوفاة ممثليه الكبار، وبالمثل لا نزعم أن قصيدة السبعينيات تراجعت إلي الظل بتحول أكثر شعرائها إلي اصطناع نموذج قصيدة النثر في تطورها الأخير ومن ثم فإن من الخير أن ننظر إلي القصيدة العربية في تاريخها الطويل والحداثي خاصة بوصفها مجموعة من النماذج، أي مجموعة من التشكيلات الفنية المتميزة تخص كل نموذج علي حدة، سواء كتب هذا النموذج شاعر ينتمي إلي جيل مبتدعه أو كان ينتمي إلي جيل أسبق.
ويشير الباحث إلي عدم أهمية وجود التفعيلة في بناء القصيدة إلا في حال استخدامها بوصفها عنصرا عضويا من عناصر بناء الدلالة وأن هذا ما اعتمد عليه شعراء الخمسينيات وكان عنوانا لتجاربهم، أما شعراء السبعينيات فقد جعلوا اللغة المغلقة عنوانا لتجاربهم لما أثبته النقد جملة من اعتماده علي هذا النحو الخاص من تشكيل الدلالة، أي بالاعتماد علي مخالفة التركيب الشائع في التعالقين النحوي والدلالي، أما النموذج الأخير والذي يعد آخر ما وصلت إليه القصيدة من تطور في رحلتها المحدثة، فقد اتخذ من التشكيل البصري لدلالته عنوانا رئيسا يميز تجاربه.
ويقول: في السبعينيات تحولت العلاقة بين المعنى / اللفظ ليكون اللفظ هو المركز الذي يحرك المعني، وبعبارة أخرى لم يعد المعني هو الذي يوجه اختيار اللفظ بل إن اللفظ هو الذي يحدد بايحاءاته تشكيل المعنى ومن ثم انتقلت صورة العالم من طبيعتها المفتوحة إلي طبيعة مغلقة، يمثل فيها عالم اللغة عالما موازيا للواقع، أما المرحلة الأخيرة فقد مضت أبعد من ذلك بهذا الحدس، فلم يعد مرتبطا بالتصور الذهني عن العالم وإنما العالم هو ما تحدده الصورة البصرية التي تلتقطها العين في لحظة بعينها، وهذا يفسر اتجاه الألفاظ في هذه المرحلة إلي تمثيل حركة الواقع وليس معانيه، أما المعاني أو الأفق الدلالي فهو حركة وسيطة تنشأ في الاستجابة الجمالية للقارئ وبعبارة أوضح انتقلت المعاني من كونها معروفة أو محتملة نصل إليها بالحدس إلي كونها لحظات بصرية تتشكل وتنحل في لحظة واحدة، أي يعاد صنعها في قفزات وفي اتجاهات شتي دونما تدخل من التشكيل المعروف لدي الجماعة اللغوية.
وفي موضع أخر من الدراسة يفصل الباحث حيث يقول: هذا الفهم لحقيقة الشعر المبني علي تفهم التراث وتطويعه لخدمة التشكيل الجديد للقصيدة العربية، أقول هذا الفهم تغير في المرحلة التالية مع ظهور شعراء السبعينيات الذين عدوا اللغة مناط البحث في الشعر، وبمعنى آخر رأي شعراء الجيل الجديد أن القصيدة في حقيقة أمرها عملية كشف لمعان غير مسبوقة في الألفاظ وفي التراكيب، وبالتالي لم تعد القصيدة رحلة الشاعر إلي المعنى علي النحو الذي يراه رواد الشعر الحديث، والفرق بين الموقفين يتجلي في سعي الرواد إلي تحديد المفاهيم الكامنة في دلالات الألفاظ، وفي سعيهم إلي كشف علاقاتها بالواقع، فالشاعر يريد أن يعيد بناء واقعه وفق رؤيته المعاصرة، وهي رؤية ذات طابع أيديولوجي تبني الواقع علي تصور فني يراه الشاعر ذا طبقات متصارعة، في حين لا يؤمن شاعر السبعينيات بهذا التصور ويريد إعادة بنائه وفق طبيعته الجوهرية الخالية من مبادئ الأيديولوجيا، أي علي النحو الذي تقترحه اللغة لا تصورات الساسة أو تصورات المثقفين الموالين لهم.
ويضيف الباحث: السبب في ذلك إحساس شعراء السبعينيات بعزلة تحول بينهم وبين عملية النشاط الاجتماعي لأسباب تتعلق بالتغيرات السياسية والاقتصادية علي وجه الخصوص، وقد يكون هذا التفسير التاريخي غير صحيح، لكنه المنطلق الذي بني عليه شعراء السبعينيات تصورهم للواقع ولمفهوم الشعر الذي ينبثق عنه، ومن ثم وجد الشاعر ملجأه في اللغة يصنع منها سياجا يحميه من نشاط الجماعة خارجه، وقد أدي هذا المسلك إلي تفتيت نظام اللغة نفسه، بينما لم تفلح إعادة البناء في إيجاد نظام بديل، ولذلك فقدت اللغة في إبداعهم قدرتها علي الاتصال وسمي هذا المنهج تشظي اللغة، وعد انعكاسا لتفتيت شفرة الاتصال فيها. ومعني ذلك أن شعراء السبعينيات بنوا موقفهم علي رفض اللغة النمطية وبالتالي رفض كل ما يتعلق بها من منطق أن نظامها التقليدي مرتبط بقيم أيديولوجية أسقطها الزمن كما أنها تحمل تصورا للجماعة وللمجتمع ينتمي للقاموس ويترتب علي ذلك أن ما حاولوا إثباته في شعرهم إنما هو لغة تستجيب لحساسية المجتمع المعيش ولاضطرابه الدائم.
ومن ثم كان الشعر والقصيدة في رأيهم نصا لغويا يقاوم علامات التقليد ويبني علي نفيها عالما جديدا يرفض التشكيل الجاهز ويستجيب لاحتمالات التشكيل غير المحدودة في بنية المجتمع.
ويتساءل الباحث لماذا يلجأ بعض المعاصرين إلي نماذج ماضية؟ ويقول: الإجابة يسيرة، فالأمر هنا يعود أولا إلي التفضيل الجمالي الخاص لكل شاعر، كما ثانيا يعود إلي طبيعة التجريب التي تشمل في بعض مناحيها الرجوع إلي القديم والإفادة من بعض سماته الفنية في إنتاج التجربة الجديدة، ولا ريب أن في هذا خيرا كثيرا للقصيدة العربية ويبقي أن أؤكد أن كل شاعر يتحمل مسئولية قصيدته وأن عليه أن يقبل موقف القراء من نموذجه الفني، مع الإقرار أن موقف النفي والنفي المضاد قد لا يقدر كل قصيدة بما تستحقه تحت دعوى الانتماء إلي هذه النموذج أو ذاك.
وقد خصص الباحث القسم الأول من الدراسة الفصل الأول والثاني لمتابعة الموقف النقدي وأدار المبحث الافتتاحي فيها (مفهوم الشعر وتحولات القصيدة العربية) علي تحديد السمات الفارقة في القصيدة العربية التقليدية، ثم تابع التحليل في المباحث التالية لتبين موقف الشاعر الحداثي منها وهو الأمر الذي استغرق الفصل الأول من الدراسة.
أما الفصل الثاني (نماذج الوعي الفني) فهو في جوهره استكمال لدراسة السمات الفارقة في صناعة نماذج (موضوعية) للقصيدة العربية تعبر عن الفكر الاجتماعي المصاحب للتشكيل الفني، وعلي هذا النحو رتب الباحث ترتيبا مقبولا عرض ومناقشة السمات الفنية في تاريخ هذه القصيدة، بالإضافة إلي وضع قاعدة منضبطة للتحليل تنتظم الدراسة بأكملها.
وفي الفصل الثالث يقدم الباحث تحليلا مفصلا للتركيبين اللغوي والمجازي في قصيدة النصف الثاني من القرن العشرين ويعمد إلي التركيز علي المركبات الأساسية في كل مرحلة من مراحل القصيدة، ومع الإغراق الضروري في تحليل هذه المركبات من وجهة نظر نحوية لغوية وربطها بالدلالة الفنية للمجاوزة في النصوص المقدمة، كما عمد إلي التركيز علي المركبات الفاعلة في تشكيل القصيدة محاولا ترتيبها بحسب الأهمية وبحسب انتقال التفضيل في استخدام المركبات اللغوية والمجازية من مرحلة إلي أخرى، وبعبارة أخرى حاول الباحث إبراز التحول الفني من خلال التشكيلين اللغوي والمجازي للقصيدة طوال النصف الثاني من القرن العشرين، مع ربط هذا التحول بسياقاته الاجتماعية والثقافية والفنية المصاحبة
إن البحث في جملته نهض علي جناحين متوازيين الأول تمثله القضايا العامة والثاني تمثله عناصر التعبير وآليات التشكيل الفني داخل القصيدة، بالإضافة إلي عناية البحث بتحليل مواقف شاعر الحداثة من الأركان الأساسية في التشكيل المحدث لقصيدته.
التعليقات