فى منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر عام 1969 وفى يوم اشتد فيه البرد ، وصلت شميم رسام مقدمة برامج فى تلفزيون بغداد ، الى دار الدكتورمصطفى جواد فى ضاحية المنصور من بغداد الغربية يصحبها عدد من مساعديها لغرض اجراء مقابلة تلفزيونية للعلامة المريض بالقلاب ، وكان قد اشتد عليه مرضه وهزل جسمه هزالا شديدا . طلبت شميم ان يخرج معها الدكتور الى حديقة الدار حيث الانارة الطبيعية الجيدة . لم يوافق على طلبها بسبب البرد ولكنه اضطر الى الموافقة بسبب الحاحها الشديد وقد تسبب ذلك فى تعجيل وفاته بعد بضعة ايام حيث وافاه الأجل المحتوم مساء يوم 17 من ذاك الشهر. شيع جثمانه فى صباح اليوم التالى ، وحضر التشييع أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية آنذاك وعدد من الوزراء والمئات من أعلام الفكر والأدب والثقافة والعلم. حمل نعش الفقيد على سيارة مكشوفة محاطة بأكاليل الزهور الى مثواه الأخير فى مدينة النجف الأشرف.

ومما جاء فى نعي وزارة الثقافة والاعلام : (ان العراق اليوم رزىء بوفاة العلامة والمربى الكبير الاستاذ الدكتور مصطفى جواد الذى عرفته الأوساط الفكرية والادبية والتربوية علما من الأعلام متفانيا ودؤوبا ومخلصا أضاء بعلمه وأدبه أجيالا عديدة من أبناء العراق والوطن العربي. وقد كان رحمه الله غزير العطاء فى مجالات اللغة والتأريخ والأدب طيلة حياته التى قضاها استاذا فى جامعة بغداد وعضوا فى المجمع العلمي العراقي وفى مجامع لغوية وعلمية عربية وهيئات علمية ولغوية أجنبية).
نعاه الدكتور طه حسين ببرقية جاء فيها: هزنى النبأ الفاجع من الأعماق واننى اذ انعى الزميل المغفور له الدكتور مصطفى جواد الى المجامع اللغوية والعلمية فى الوطن العربي انعي فيه زميلا عزيزا مقتدرا وأديبا فذا. فباسمى واسم زملائي أعضاء مجمع اللغة العربية فى القاهرة اتقدم بأخلص التعزية سائلا الله تعالى ان يتغمد الفقيد برحمته ورضوانه وان يلهمنا فيه الصبر والعزاء. ونعاه الدكتور حسنى سبح رئيس مجمع اللغة العربية فى دمشق ببرقية بعث بها الى الدكتور عبد الرزاق محي الدين رئيس المجمع العلمي العراقي ، و نعاه كذلك الأساتذة: جاسم محمد الخلف رئيس جامعة بغداد ونافع عبد الجبار العلوان وعماد عبد السلام رؤوف وعشرات غيرهم داخل العراق و خارجه.

أول ما وقعت عيناي على الفقيد كان بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما اشترى والدى الدار الملاصقة لداره قرب ساحة النهضة ببغداد الشرقية. كنت صبيا فى الابتدائية ولم اكن قد سمعت باسمه. خاب املى عند مشاهدة الدار لقدمه ولكن ابى قال بأنه اشترى جارا وأي جار، ولم أعرف مغزى كلامه الا بعد مدة حيث أصبح الدكتور مصطفى جواد بمثابة الأب الثانى لى. كان لا يتوانى عن الاجابة على اسئلتى المتلاحقة حول اللغة العربية وقواعدها وأسئلة معلمي المدرسة التى كنت ادرس فيها بعد ان عرفوا بعلاقتى بالدكتور. وأذكر اننى اتصلت به مرة تلفونيا من المدرسة بطلب من أحد المعلمين أسأله عن مجموع كلمة (منجنيق)!.

ولد الدكتور فى عام 1904 فى محلة عقد القشل قرب جامع المصلوب من بغداد الشرقية وكان والده خياطا بسوق الخياطين المجاور لخان مرجان ، وقبل ذلك كان من أصحاب البساتين فى دلتاوه (الخالص) ونزح الى بغداد حيث تحسنت أوضاعه المالية بعد ان تعسرت فى دلتاوه ، ولكنها ساءت مرة اخرى فعاد الى دلتاوه وأخذ معه ابنه الطفل مصطفى وأدخله الى احد الكتاتيب لتعلم القرآن. وبعد انتهاء الحرب العالمية الاولى ووفاة والده أعاده أخوه الكبير الى بغداد وادخله المدرسة الجعفرية ثم مدرسة باب الشيخ الابتدائية. تدرج فى الدراسة ودخل دار المعلمين الابتدائية وقويت عنده الرغبة فى دراسة العربية وتخرج سنة 1924 وتعين معلما فى مدرسة الناصرية الابتدائية ثم نقل الى مدرسة السيف الابتدائية بالبصرة ثم الى الكاظمية فى مدرستها الابتدائية حيث تزوج هناك . بعدها نقل الى مدرسة المأمونية التى كان يدرس فيها قبله الشاعر مهدى الجواهري ، ثم عين مدرسا فى المتوسطة الشرقية سنة 1932 وداوم ال نشر فى مجلة لغة العرب وساعد الأب انستاس الكرملى مجانا على تحريرها. وفى سنة 1934 رشحته وزارة المعارف فى بعثة علمية للتخصص فى الآثارفى امريكا الا انه غير وجهته الى فرنسا حيث أكمل رسالة الدكتوراه بالفرنسية عام 1939 وعاد الى بغداد وعين فى كلية التربية . وفى عام 1942 دعي لتعليم الملك فيصل الثانى اللغة العربية وكان الملك شديد الحياء ضعيف الشخصية فحاول ان يغرس فيه الرجولة المبكرة فأبعدته العائلة المالكة عنه ، وعاد الى التدريس فى كلية التربية.
فى عام 1955 تزوجت من شقيقة زوجته مما زاد فى ساعات لقائنا والتى اعدها من احسن ساعات عمرى. وفى نفس العام انتقلت الى ضاحية البياع وانتقل الدكتور الى حي الآثوريين فى الدورة حيث كان بعض الآثوريون يسمون انفسهم (وما زالوا) بالآشوريين. ويرد الدكتور على ادعائهم بأن الآشوريين هم من الأقوام السامية وقد اندثروا ، واما الآثوريون فأصلهم آريون من أواسط آسيا وقد جلبهم الاحتلال البريطاني الى العراق وشكل منهم جيش (الليفى) الذى انضم بعد ثورة تموز الى الجيش العراقي.

فى بداية سنة 1960 استدعاه الزعيم عبد الكريم قاسم مع الاستاذ محمود فهمى درويش والدكتور أحمد سوسة الى مكتبه وطلب منهم تأليف دليل للجمهورية العراقية الفتية ، وطلب من وزير الارشاد الدكتور فيصل السامر الذى كان حاضرا تهيئة كل الاسباب لنجاح هذا المشروع الوطني. وكان آخر دليل للعراق قد طبع فى عام 1936. صرف المؤلفون الثلاثة من جيوبهم على المشروع على أمل ان تدفع لهم وزارة الارشاد فيما بعد . وبدأت المماطلة والتسويف وهو شأن (الروتين) الحكومي ، وتضايق المؤلفون الثلاثة اذ لم يكن اي منهم على سعة من المال، وكان الدكتور جواد قد اقترض من معارفه واقاربه. وقام انقلاب 1963 ولم تشأ الحكومة الجديدة ان تدفع له ولزميليه الأتعاب فساءت حالته النفسية والصحية ، ولا أشك مطلقا فى ان هذه المشكلة وضعته فى موقف مالي حرج سببت له الجلطة القلبية التى قضت عليه فيما بعد. ومن المفارقات ان الدليل صدر فى 17 كانون الأول 1960 وتوفي الدكتور فى 17 كانون الأول/ديسمبر 1969.

وقبل ان اختم الموضوع أذكر بعض الأمور الطريفة التى حصلت للدكتور بحضوري. اتفقت معه على الذهاب لزيارة موقعي بابل والكفل ، وأصطحبنا معنا الأستاذين حسين امين وسالم الألوسي. كنا نحاول قراءة ما كتب على منارة جامع الكفل التأريخية عندما اسرع الينا من ادعى بأنه الدليل السياحي للمنطقة وقال بان الاستاذ بهجت الأثرى قد زار الموقع فى الجمعة الماضية وقرأ ما هو مكتوب على المنارة وهو كذا وكذا وكذا ، فرد عليه الدكتور بأن بهجت الأثري له عينان ونحن لنا ثمانية ، فخجل الرجل وانسحب. وصلنا الى موقع بابل الأثري وكنا على وشك دخول المتحف الصغير هناك عندما سمعنا صوت اذان الظهر وأسرع احد الموظفين ليرشد الدكتور الى مكان يصلى فيه ، فرد عليه الدكتور بانزعاج انه سيصليها قضاء اذا لم يكن عنده مانع. وفى سفرة الى سامراء دخلنا الى المطعم السياحي لتناول طعام الغداء ، فأسرع المدير لاستقبالنا وابدى امتعاضه لعدم اشعاره مبكرا بالزيارة ، فقال له الدكتور: المفروض بالمطاعم ان تكون جاهزة لاستقبال الزبائن خاصة فى ايام العطل. فأجاب الرجل محاولا ان يبرهن على اجادته العربية: هذا صحيح يا دكتور ولكن الطباخ متغيب هذا اليوم ولا يوجد لدينا الآن الا (الكامخ والمكموخ وما بينهما) وكان يقصد (ألهامبرغر).