كان أخر شئ لفت نظرها، الهواء الذي تلاعب بعباءة أخته السوداء، وصوت طقطقة كعب حذائها الاحمر العالي. نظرت أليها من السطح.. وهي تمر قرب نخلة الدار، وتغادر باب بيتهم لتجلس قرب أخيها الطبيب الذي توهج شعره بالبياض، كانت علامات الستين ترتسم حول عينيه، جال نظرها في المكان، في الطبيب والسيارة الواقفة قرب نخلة الدار الطويلة، وفي أخته التي غادرت قبل لحظات من غرفة الضيوف. حدث هذا قبل أن تتمدد في السطح... في ذلك المغرب الحار جدا من اب.. فقد كان كل شئ يحرق ويحترق. نامت على الارض ووجهت وجهها نحو السماء، كانت تشعر باحتراق جسدها الملاصق للارض، لكنها ظلت تحدق في نقطة بيضاء في صفحة السماء، لم تكن تدري أكانت مغسولة بالدموع أم بالمطر... أطلقت حسرة في الفضاء وهمست بصوت خافت....
ـ أهي الدموع جاءت بموعدها؟ أم المطر جاء بغير موعد؟
... ... ... .
كانت أجمل طالبة في كلية الطب. هذا ماقاله لها الجميع ومااعتقدته على طول الخط والحياة المستقيمة التي عاشتها، فحينما كانت تسير في الجامعة، كانت وجوه الرجال تحمر وتعرق، وكانوا ينظرون أليها ويتسمرون في أماكنهم على الجدار.. وكلما تحركت بمشيتها، تحركت رؤوس الرجال وفقا لقوانين الحركة في جسدها، حين أصبح وجهها ماركة مسجلة عند الجميع.. لحظة ذاك أطلقوا عليها (منى القمرية). فقد أمتلكت وجها قمريا ذا لون أبيض مائل الى الحمرة، وقتها أبقت على قرص شعرها الاسود الطويل، الذي يصل الى ماقبل القدم. منتظرة فتحه لاهم وأحسن رجل ستتزوجه حتما... فقد أكد لها جمالهابأن بدلة زفافها
ستكون مثل بدلة الاميرة (ديانا)حيث ستقيم حفلة، تفتح فيها بغداد كل أنوارها.. وستركب في سيارة لم تجلس فيها أمرأة سابقا، وسيبقى الجميع ينتظرون يوم الزفاف.. عندها سيلقون نظرة حاسدة، على البدلة المصممة عند (شانيل)، وعلى أهم رجل تسير معه الى كرسي الزفاف. كان هذا هو الحلم الوحيد الذي ظل يراودها كحقيقة.
... ... ... ... ... ... .
حينما تخرجت من الجامعة، وبدأت العمل سارت معها الحياة ببطء شديد، كانت تذهب الى العمل لتقتل الفراغ والملل.. الذي أصابها بسبب الانتظار.. كانت كل يوم تشرب فنجان قهوتها الصباحي من يد العامل الكبير، وهو الرجل الوحيدالذي تتحدث معه، فما أن نهرها والدها وبقوة أمام الجميع، حينما راها تتحدث مع احد الطلاب في الجامعة، حتى أنسحب ذلك الطالب ولم يتكلم معها ابدا، وهكذا سارت على طريق الاستقامة الذي اعتنقته، ارضاء وخوفا من والديها. ساعتذاك ألتزمت بتلك القاعدة التي اسستها أمها في عقلهاليل نهار حين قالت لها
ـ لاتتحدثي مع الرجال، عيب عندها سيدق الخطاب بابك ليل نهار..
... ... ... ... ... ... ... . .
دقت باب بيتهم، ولاول مرة بعد سنوات من أنتظارها، كانت الام قادمة لوحدها، بينما يجلس أبنها المهندس في السيارة.. جلست تتحدث وتنظر أليها وقد أخفت أسم العائلة واسم الخطيب.. ثم غادرت الام الخاطبة من دون عودة... ثم دق بابهم مرة آخرى ليدخل الى بيتهم طبيب في الاربعين.. كان يتحدث كثيرا وكانت غارقة في حمرتها، جلست أمها على الجانب الاخروكانت تكتم فرحة زواج أجمل أمرأة في العالم... سألها الطبيب
ـكم عمرك
ـ في التاسعة والعشرين
ـ أنت أذا على مشارف الثلاثين
تجهم وجه الطبيب وطلب من أمه مغادرة البيت، وهكذا غادروا الى غير رجعة، أما الارملة أخت الطبيب الستيني كانت أخر خاطبة تغادرمعترضة على دخولها مشارف الاربعين حينما قالت لها وهي في غرفة الضيوف...
ـ أنت في الاربعين وأخي في الستين أنت كبيرة عليه.
... ... ... ... ...
أجئت الى هذا الكون كبيرة؟ ألم أكن صغيرة؟ ألم أكن طفلة؟ ألست جميلة؟
هكذا قالت لنفسها وظلت تتساءل.. هل ولدت كبيرة؟ فهي لاتذكر شيئا عن طفولتها.. وتذكر فقط أنهاكانت في التاسعة والعشرين، وهي الان على مشارف الاربعين... وقفت امام المرآة لتتأكد من وجودها الارضي.. فوجدت صورة العامل الكبير وهو يقدم لها قهوة الصباح ويبتسم بنظراته.
لم يبقى أمامها سوى العامل الذي يقدم قهوته الصباحية لها... فقد كان لطيفا معها وهو لن يرفضها وهكذا أرتدت أجمل مالديها... نظرت الى المرآة لتتأكد من جمالها داخل المرآة... لكنها نسيت عمرها في تلك اللحظة... ونسيت مع العمر الحلم الوحيد الذي راودها، وهكذا سارت مسرعة لتدخل الى غرفتها التفتت الى غرفة العامل المقابلة لها فوجدتها ولاول مرة في حياتها مغلقة، نظرت الى طاولتها، كان غياب فنجان قهوتها الصباحي يثير قلقها، في العمل كان الجميع يتحدثون عن زواج العامل الكبير من العاملة الصغيرة... بقيت ساكتة، لم يرف لها رمش، واقفة قرب طاولتها دون أن تتحرك.
... ... ... ... ... ... .
لم تبق في غرفتها، خرجت الى الشارع، ونظرت الى الرجال في الشارع وهم يتطلعون أليها بعين معجبة.... همست
ـ جبناء
كان الصداع عنيفا في رأسها. شاهدت أعمدة الكهرباء فوجدت حمامة واقفة على أحد الاعمدة... لكن عينها
أبتعدت عن الحمامة.... ليقع نظرها على رجل وأمرأة يقفان في الشارع... ظلت تتفحص المرأة الواقفة مع الرجل... نظرت الى قامتها القصيرة وشعرها المجعد ووجهها الاسود الحالك..... وجسدها الممتلئ جدا، كانت عيون الرجل الواقف معها تلاحقها بالنظر والكلام... ظلت صامتة وواقفة تتأمل هذا المشهد كانت الكلمات مع الصداع تضرب رأسها كفوؤس حديدية.
ـ لا ليس من حقي... لا ليس من حقي... هناك خطأ ما.
ظل الصداع العنيف والكلمات المميتة... فاتحة أبوابها داخلة الى رأسها وخارجة منه سارت من دون أن تدري الى أين؟ولاتدري أي طريق ستسلك؟فجأة وجدت نفسها أمام المرأة والرجل........ وقفت أمامهما وأرتفعت يدها في الهواء... صفعت الرجل وصرخت بأعلى صوتها..
ـ ماذا أعجبك بها أيها الجبان؟أنا أجمل منها.. الاتراني؟
ظلت المرأة الأخرى واقفة... مذهولة... تحدق به وتلتهمه بنظرات مزرية هربت منه وهي تصرخ. .
ـ خائن... خائن
دفع المرأة الغريبة فأسقطها أرضا وركض وراء المرأة التي هربت منه وهو يحاول الامساك بها، شعرت بالفرح والابتسام والرضا... حين رأت المرأة تهرب من حبيبها قامت لتنفض التراب عن رأسها تذكرت أنها درست في الجغرافيا الجهات الاربع، شمالا.. شرقا... جنوبا.. غربا... فجأة قالت لنفسها...
ـ هناك جهة خامسة.... أذا سأذهب أليها.
... ... ... ... ... . .
كانت في غرفتها ملتصقة بالمرآة وبشكل كوميدي..... ولاول مرة في حياتها رسمت وجهها بالالوان..
وضعت خطوطا سوداء فتشكلت هالة من السواد الفحمي حول عينيها... ثم لونت الوجه القمري بالاحمر
والاسود والخطوط الفضية.... كانت كمن يجرب رسم لوحة بالالوان لاول مرة في حياته وهو يعبر الاربعين، أرتدت أيضا ولاول مرة في تاريخ حياتها المستقيم سروالا من (الجينز) لترتدي فوقه قميصا بلا أكمام... فتحت شعرها الطويل الذي حافظت عليه لتفتحه لاول رجل في حياتها... نظرت الى المرآة وقالت..
ـ أنا لست هي.. هي ليست أنا..
هبطت من السلم وسارت امام والديها سيرا وئيدا، هب والدها من مكانه وقال لها
ـ أين ذاهبة بهذه الملابس المفضوحة؟
ـ خارجة. .
ـألى أين؟
ـ الى الجهة الخامسة... جهة الرجال..
ـ الاتخجلين.. ماذا سيقول الناس عني..
ـ (يطبهم مرض) لقد أصبحت عانسا بسببهم وبسببكم.
مد يده كي يضربها.. دفعته بعنف غير عابئة بمايجري وماجرى، خرجت الى الشارع يلفحها هواء آب الحار، ووقفت قرب الرصيف الذي تسير فيه أربع سيارات.. قررت أن تختار أجمل وأحدث سيارة.. فتحت الباب وجلست مع أكثر الرجال أناقة ووسامة... قالت لنفسها
ـ أتيت لكم من الجهة الخامسة... التي يأتي منها الرجال..
كان هذا أول موعد طرقت بابه وهي على مشارف الاربعين!
كاتبة عراقية
zein52@hotmail. com
التعليقات