حقيقة، ودقيقة ستوصلها إلى حل لزمنها الآن، بعده لا داعي للذكريات. كانت صامتة، ومتحفظة، كيلوباترا ابنة الملك بطليموس الحادي عشر، الملقبة (الملكة المحبة لأبيها)، وكيلوباترا السابعة، ولدت في الإسكندرية، بناها الإسكندر الأكبر، ونشأت داخل القصر الملكي. فقد بحثت في ذاكرتها، وقدرتها الذهنية، وذكائها السياسي: سفن تجارية من شتى بقاع العالم ترسو، تفرغ حمولتها، ثم تعاد شحنها بالبضائع المصرية، أنشأ جدها منارة ينعكس ضوءها على مرآة ضخمة يراه البحارة على بعد ثلاثين ميل... كانت تنفذ إلى داخلها،، لم تبال بقلبها خلال جميع السنوات، فشعرت إنها بطيئة التفكير، وخطواتها بائسة، وكل هذا يشوش أفكارها، لاشيء من ذكريات الماضي، تنقضها الأحداث المجهولة، هزم انطونيو في معركة اكتيوم على الشاطئ الغربي من اليونان عام 31 وانتصر اكتافيوس، دارت الشائعات أن كيلوبترا انتحرت، سمعها انطونيو، وهنا يقول انطونيو لأحد أعوانه واسمه (إيروس) أن يقطع رأسه بالسيف فيقول له: (در وجهك)، فيبقر (إيروس) نفسه بالسيف بدلا أن يقتل انطونيو، فتعجب انطونيو، فبقر بطنه بالخنجر، وصرخ: (خذوني إلى كيلوباترا) وضعت رأسه في حضنها.كل شئ يشوش أفكارها لا شئ من الماضي ينقذها من الأحداث نظراتها كانت حادة لا يفوتها شئ، ودوت في أعماقها صرخة الاستغاثة حتى خال لها إنها أطلقتها ليسمعها انطونيو المسجى في حضنها.كانت كيلوباترا آخر حكام البطالمة في مصر، حكمت مصر حوالي عشرين عاما، تزوجت أخاها، وعمرها الثامنة عشر، وتكبره بثمان سنوات، وهو بطليموس الثالث عشر، تآمرت عليه، وفرت إلى الصحراء الشرقية لتنضم هجوما على الإسكندرية، وتستولي على الحكم، إلا أن يوليوس قيصر دخل السكندرية مع قواته hellip; خبأت نفسها في سجادة كبيرة وحملها أحد أتباعها كهدية إلى القيصر،، وبرزت كيلوباترا من السجادة، فنشأت علاقة حب مع قيصر الذي أنجبت منه قيصرون، بعد حرب أهلية قادها أخوها، وهو بطليموس الثالث عشر، فغرق في النيل العذب، وضفافه الخصبة، رافقت يوليوس قيصر إلى روما، وقتله الجمهوريون، فعادت إلى البلاد، وقتلت أخاها بطليموس الرابع عشر كي يبقى الحق بالعرش لابنها قيصرون، كانت تجتاحها قشعريرة عندما تفكر بقيصرون، ينقبض قلبها، يمكن لمخيلتها وحدها أن تتحكم بالموقف، وتفلت منه، ومن سعي إرادتها الحرة، الجريئة أن تغامر بشيء، وما هو هذا الشئ ؟!اكتافيوس يحتل الإسكندرية، صارت تعيش في عالم الأفكار اللامتناهية، وتخبئها في داخلها لئلا تكون غير مناسبة للحدث، هذا وقد أنجبت من أنطونيو ولدين، وبنت.كان هذا الشك يراودها رغم أسرار قلبها التي أصبحت وحدة الحرمان، رفعت عينيها فشاهدت سقف المقبرة التي تختفي فيها، فكان ملون بالأفاعي، كانت قد كفنت بالفشل، فقالت بصوت هادئ وواثق: انتهى عصر البطالمة، كانت تريد أن تكون بدون أوهام، ولا ضعف، وتتمتع بالجرأة، ومن جديد شعرت أن تكون وحيدة التفكير، وتناقش: ماذا يريد أوكتوفيوس ؟! وهيمن عليها شعور أن يذهب بها إلى روما أسيرة، مهانة، في موكب النصر، إنه الذل، والعار، فقد بحثت معه السلام فرفض، وأعلن ضم مصر إلى سلطان الشعب الروماني، وأطلق عليه بالمبجل راحت تجري في ذكرياتها وعقلها الدقيق الوصول إلى الحقيقة الساطعة، إنها ستصبح أسيرة، أطلقت تنهدة من الآلام،ونظرت مندهشة لوجودها وكأنها استيقظت من كابوس، وقالت في نفسها: (خسرت كل شئ)، أحست بألم ينخر في صدرها، ويهز قلبها مرمية وحيدة يطوقها جند الرومان كانت تلهث من الألم والضيق، والذعر نهضت لاهثة راعشة، كانت تتألم كثيرا،ولم يتسن لقلبها يستكين، أدركت رعبها وقلقها، وبدت ممزقة بغم عميق، رهيب، تعكر مخيلتها، وبعثرتها الأحداث، فلم تكن إلا هاربة مطعونة مضطربة.شعرت مجددا أن مخيلتها تتوقد لتجد حلا في فكرها المتوعك بالأسى والصدمة، فانزلقت إلى الحقيقة الدقيقة بعد أن أعلنت نفسها سابقا ملكة الملكات، فكان قلبها يدق بشدة، كانت تدرك كبريائها، وترى بعينيها المتوقدتين وانسيابها الهارب نحو الإحباط تختلط مكتشفة خسارتها، فتزداد قناعة إنها سائرة نحو مصير أظلم، ففي فجر أيام منتصف أغسطس 8\30 طلبت من أحد أعوانها أن يحضر الأفعى كما لو إنها احتفظت بها لهذا اليوم، وهي أفعى سامة واسمها أفعى النيل التي تقتل بلا ألم، وتضعها على صدرها فتموت بعد أن تلدغها الأفعى في الكتف الملكية اليسرى، فكانت الكوبرا السامة شعار البطالمة، إذ لا يحق لها الانتحار بالخنجر، وقرر الغازي الجديد أوكتافيوس أن يدفن انطونيو وكيلوباترا في مدفن واحد، وتحكمت روما في العالم بعد ذلك لبضعة قرون.