إعداد سامية المصري: في بحثه عن أحوال المجتمع اليهودي خلال الحكم الإسلامي في الشرق الأوسط تحدث الباحث اليهودي شلومو دوف غويتين عن وثائق عُثِر عليها في أحد المخازن الملحقة بكنيس يهودي في الفسطاط، القاهرة القديمة اليوم، وعاصمة مصر الإسلامية قديماً. تحكي هذه الوثائق عن أوضاع الأوساط اليهودية ضمن بوتقة المجتمعات في حوض المتوسط في فترة تبدأ من القرن الحادي عشر وتنتهي في الثالث عشر الميلادي، أُطلِق عليها اسم Cairo Geniza نسبة إلى المكان الذي وجدت فيه، أي quot;مدفن القاهرةquot; إن صح التعبير، واعتُبِرَت مصدراً زاخراً بالمعلومات حول موضوع البحث، كونها كُتِبَت بلغة عبرية.

يضع الباحث غيوتين في مقدمة بحثه في كتاب (A Mediterranean Society) نبذة عن تاريخ المنطقة على امتداد العصور الوسطى (1069 - 1250)، حيث يشير إلى أن حوض البحر المتوسط (بحر الروم) كان ينقسم إذ ذاك إلى ثلاثة أقسام: الشرق، ويعني مصر والدول الإسلامية غرب وجنوب غرب آسيا، والمغرب الإسلامي، ويشير إلى بلاد شمال أفريقيا غرب مصر والأندلس وصقلية الإسلامية، وأرض الروم التي تُعرف ببيزنطة محل الأوروبيين المسيحيين، كما برز مصطلح quot;الإفرنجquot; في أقدم وثائق المدفن لوصف الأوروبيين الغربيين، والذي أصبح من نصيب الصليبيين بعد مجيئهم. كان ذكر الأوروبيين حاضراً في كل مكان من الوثائق، لطغيان تأثير التجارة الأوروبية على السوق المحلية.

استطاع اليهود تأسيس كيان سلطوي خاص بمجتمعهم (يشيفا) يتكون من محكمة عليا وبرلمان ومجلس تعليمي، ويخضع لشريعة الله المذكورة في التوراة. وفي تلك الفترة كانت هذه المجتمعات متشعبة إلى ثلاث فرق: اثنتان منها في بابل، وواحدة في فلسطين. ولم يكن السبب عقائدياً بحيث تكفر كل منها الأخرى، بل كانت المجالس الدينية اليهودية تعترف بصحة الفرق الثلاثة، بغض النظر عن الخلاف في كيفية أداء الشعائر وتطبيق الشريعة. كما كان يُطلق على كل طائفة من هذه الطوائف اسم (إسرائيل) باعتبارها إحدى مكونات المملكة المقدسة، حسب سفر الخروج(19-6): quot;وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة.quot;

ظهرت في معظم مدن الشرق الكبرى مجموعة القرّائية، وهي طائفة يهودية رفضت تعاليم التلمود، ومارست هذه الطائفة نشاطها الاجتماعي الذي أوصل عدداً كبيراً من أغنيائها إلى عقد صلاتٍ وثيقة مع أعضاء الحكومة الإسلامية. وخلال العهد الفاطمي ومعظم العهد الأيوبي تم تمثيل الأقليات غير المسلمة ضمن حاشية الحاكم وإدارة الدولة، إلى حدٍ يتجاوز مجال المناصب التي يتولونها. وكان عدد كبير من اليهود يسكنون قرب مقر الفاطميين في مصر، وبالتالي تمكنوا من مراقبة ما يجري في أروقة الدولة الفاطمية بسهولة.

وفيما يتعلق بالقضايا الجنائية فكانت السلطات الخاصة بالأقليات في أراضي الخلافة الإسلامية تعتقل المذنبين من رعاياها أو تنزل بهم ما تراه من عقوبة. اندمج اليهود في المجتمعات المحيطة بهم، وزاولوا أعمالاً ومهناً كثيرة، فكان منهم العلماء والقضاة والوعاظ والكُتاب، ولم تكن الرعاية الطبية من بين اهتماماتهم فتركوها للمؤسسات الخيرية. ومن بين الأعمال التي عملوا بها كانت المراقبة الليلية، وهم من يُطلق عليهم في العربية (الطوافون)، حيث كان للأقليات الحق في أن تختار مراقبيها من بينهم لحراسة أحيائهم.

وتذكر وثائق المدفن أنه بعد احتلال الصليبيين القدس عام 1099 لم يُباد اليهود في المدينة المقدسة بالكامل كما كان معتقداً، وإنما تسبب الاحتلال في خلق مشكلة اللاجئين بأعدادٍ كبيرة. ولما استعاد صلاح الدين القدس عام 1187 بُذِلت جهود حثيثة وناشطة من أجل إعادة بناء بيوت العبادة والتعليم اليهودية.


وبما أن غويتين خصص بحثه للحديث عن الأوساط اليهودية فإنه يشير إلى أن تاريخها تغير تغيراً ملحوظاً بالنسبة للقرون التي سبقت وجاءت من بعد الفتح العربي للشرق، ويصف تاريخهم بالظلامية والانعزالية في تلك الفترة، بينما شهدت الدولة الفاطمية أجواء من التسامح الديني أعطت لليهود حرية دينية وثقافية واجتماعية لتكوين مجتمعاتهم الخاصة ضمن منظومة الدولة الإسلامية، وأورد الكاتب تفصيل ذلك في كتابه.