توطئة
بعد تجارب آندريه إِنطوان ونزعته الواقعية في الإخراج، أراد الكثير من المخرجين الخروج من معطف الواقعية، أي البحث عن شكل مسرحي آخر بعيدا عن القواعد الثابتة التي نادى بها آندريه انطوان.
أرادوا إيجاد عوالم أشد إيهاما وأكثر جمالا من واقعية تتكرر وتُشاهد كل يوم من خلال روتين الحياة للإنسان العادي، لتعرض مجددا على الخشبة!
هذا ما انتبه إليه الرمزيون من خلال طروحاتهم القائلة بإن الطبيعية تقتل الإيهام وتقتل الصور التي يمكن أن تنتجها الذاكرة الجمالية، وهكذا خطى المسرح خطوات مهمة وجريئة في عدم محاباته للواقعية والانطلاق إلى عوالم الشعر الخلاقة، ظهر ( آدولف ابيا، كوردن كريك وجان لوي بارو) وغيرهم من الذين اهتموا بالجانب البصري امثال ( الالماني ماكس راينهارت والروسي فسفورد مايرخولد وبرخت والفرنسي جاك كوبو والالماني اورين بسكاتور ومن ثم تجارب ارتو وكروتوفسكي واوجينو باربا).
لعل المخاضات التي افرزها القرن العشرين وما جرى فيه من أحداث هي التي أحدثت ثورة فنية، بل انها ليست على مستوى الفن لوحده وانما على مستوى الشعر والفن التشكيلي وكذلك الموسيقى، وهذا مايُشيراليه الناقد عواد علي بقوله (لقد تميز الإخراج المسرحي الخلاق للقرن العشرين بمنهجه الكلي الذي يعبر عن أجتهادات لاحدود لها، ومغامرات فنية، وأتجاهات مختلفة يجمع بينها المنحى التجريبي والطليعي، ويتصدر فيه أشتغال المخرج على البناء المشهدي والبحث عن فضاءات جديدة للعرض والقراءة المغايرة المنتجة التي تهدف إلى الإمساك بما هو مسكوت عنه في النص او لامفكر فيه وإطلاقة في فضاء العرض في صيغة علامات حرة لاتكتمل دلالاتها الا بفعل قراءة المتلقي لها وفعاليته في إستنطاقها وتأويلها. وبذلك تداخلت سلطة المخرج ( القارئ الأول للنص ) وسلطة المتلقي ( القارئ الثاني للنص والعرض) في إنتاج الخطاب المسرحي وإزاحة المؤلف).

مسرح صورة، أم مسرح كادر؟
في النصف الثاني من عام 1996 وصلتُ إلى بوخارست عاصمة رومانيا - احدى دول اوربا الشرقية الاشتراكية سابقا-. كنتُ في شوق لمعرفة هذه العاصمة التي تخرج منها واحدا من أهم المخرجين المسرحين العرب وقد يكون أهمهم وسنتطرق لذلك ونوضحه فالقصب هو مشروع ورقتنا هذه وسنبين لماذا نجده من أهم المخرجين العراقيين والعرب عموما.
شوقي نابع من السحر الذي سحرنا به القصب، والذي تخرج من جامعة بوخارست في نهاية السبعينيات وجاءنا حاملا لواء الثورة الجمالية في المسرح من خلال أول أعماله بعد عودته من رومانيا وما إستلهمه من أستاذته الرومانية ( ساندا مانو) وما تركته هذه المخرجة المبدعة من تأثيرات في الشكل المسرحي السائد وقيامها بثورة بصرية أمتد تأثيرها الى الساحات المسرحية المجاورة لرومانيا كبلغاريا وهنكاريا.
عندما صرخ القصب من خلال عروضه المسرحية لتذهب الذاكرة الإنفعالية لستانسلافسكي إلى الجحيم ودعونا نبحر في فراديس الجمال البصري( المشكلة هي ليست بقضية الإنسان المتلقي وقضية المسرح، عندما تكون هناك قرارات جمالية، عندما يكون المسرح قد دخل إلى رحاب أكبر أتساعا وعندما يدخل إلى فراديس الجمال، عندما يدخل إلى الفلسفة فعندما يرتقي المسرح جماليا ويرتقي فنيا، هذا يعني بأن الإنسان قد أرتقى أيضا فنيا لذلك الانحسار الموجود هو عندما تكون هناك أعمالاً مألوفة، أعمالاً تقليدية، أعمالا متوارثة، أعمالا ساكنة، أعمالا ميته فهذا يعني بأن الجمهور قد أبتعد، قد كون مسافة بينه وبين تلك العروض وعندما تكون هناك عروض متألقة، عروض كبيرة فإن المسافة ستتلاشى وسيندمج المتلقي والعرض في محيط واحد ).
تجربة الدكتورصلاح القصب في مسرح الصورة، تختلف اختلافا جذريا عن كل ما هو مطروح بالساحة المسرحية العراقية منذ ولادته وإلى حين عودة القصب من دراسته

د. صلاح القصب اثناء تكريمه
بمهرجان القاهرة التجيربي الاخير الدورة 18

برومانيا ومشروع القصب الذي يقترب كثيرا من طروحات آرتو ومايرخولد، من خلال اهتمامهم بالجانب البصري على المنطوق الأدبي وحركة الممثل وإستثمار طاقته الجسدية على الخشبة وكذلك تهميشهم للنص المسرحي ولا يخضع القصب لسلطة المؤلف، بل العكس هو الصحيح يخضع النص لسلطته الإبداعية ولمشرطه الذي لا يرحم كمشرط الجراح حين يستأصل الداء من الجسد العليل.
تجربة القصب أثارت ردود فعل عديدة في العراق، لكنه حصن نفسه بأسلحة ليست تقليدية، من خلال إصداره لبيانات مسرحية، يسعى من خلالها للتعريف بتجربة مسرح الصورة، وأيضا قدم تطبيقات مختبرية كعروض مسرحية من أجل تكامل عناصر تجربته المسرحية، وبعد كل هذه السنوات الطوال لازال القصب يدافع عن تجربته من خلال طروحاته النظرية ومن خلال عروضه المسرحية، تحت تسمية مسرح الصورة.
وهو يبحث دائما عن معالجات وقراءت مسرحية جديدة غير تقليدية - قراءت خاصة به وحده، وهويعتبر التجريب في المسرح عملية إنقطاع عن الماضي مثلما هو سفر وتجوال في فضاءات المستقبل الذي يبحث فيه عن فراديس يسكنها كل ماهو جميل وجليل وهو القائل في قراءته لمسرحية ماكبث ( في مكبث شعرت اني وسط جحيم كوني يديره الملائكة متسربلين بأنظمة مملؤة بالقلق والفزع، ( مكبث ) عين لا ترى من خلال لحظة الرؤيا بل نظرات من خلال استعادة قوى وحركة زمن مضطرب مصطدم متنافر لا يعرف الرحمة والحب في كثير من تفصيلاته وهوامشه اليومية ( مكبث ) جحيم منتقم لسوداوية القرن العشرين ) 2، وقتها سمعنا الكثير من الكلام بأن القصب نقل حرفياً تجربة أستاذته ( ساندا مانو ) الى العراق لغرض تقديمها، باعتبارها صاحبة منجز بصري مهم برومانيا.
شكك الكثير في إمكانية هذا المبدع البصري، قالوا سيأتي اليوم الذي سينضب خزينه الجمالي الذي خزنه من رومانيا وبعدها سيفتضح أمره كغيره من المخرجين أصحاب التجربة المسرحية الواحدة والذين توقفت تجاربهم بعد تجربة أوعمل مسرحي واحد قدموه بعد عودتهم من بلدان الدراسة، بعد تجربتهم الواحدة لم يقدموا شيئا يستحق المتابعة او الدراسة، لكن القصب لم يتوقف، بل أستمر بالعطاء متنقلا بين فراديس الجمال وكان المنظر الأول لهذا الإتجاه المهم في مسيرة المسرح العراقي والعربي.
شاهدتُ عروضا مسرحية كثيرة وخاصة للمسرح التجريبي او لعروض مسرحية تنظم لإتجاه المسرح الصوري ( مسرح الصورة )كما يسمى والذي يطلق عليه (مسرح الكادر ) في رومانيا. في مشاهدات عديدة اخرج مسرورا من المسرح وفخورا بتجربة أستاذي القصب، فخورا لان تجريته لاتشبه تجاربهم ولم يكن القصب ناقلا ولا مستنسخا لتجارب المسرح الروماني، وجدتها تجربة خاصة بصلاح القصب، نعم هناك بعض التناص في الشكل العام للعرض المسرحي لكن هذا ليس مثلبا يأخذ على تجربة القصب، بأعتبار ان العرض المسرحي كان ومازال في حالة تناسل منذ المخرج الاول ( الدوق سايس منكن )الى الان لكن الاختلاف يكمن في تغير الشكل المسرحي وهذا يتطور وفق معطيات كثيرة منها الزمن، الحالة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، الخ، وطبعا هذا الاختلاف يرجع الى معطيات البلد بالدرجة الاولى.
كانت تجربة القصب، تجربة فريدة في الثورة الشكلية الجديدة لتأسيس شكل مسرحي اخر، شكلاً مسرحياً يبنى أساساً على الصورة المسرحية، هذا الشكل لايحدده النص الادبي، بل يشكله القصب نفسه وهذا ما اعلنه هو ايضا( انني لا استنسخ الخطاب المسرحي أواستنسخ المؤلف بقدر ما أعمل على منحه لغة العصر والتفكير بمنطق جديد عصري يتلائم وفي نفس الوقت يتمرد على الحاضر وأعتقد ان هذا المنطق يعتمد في جوهره على الجدلية ). وكما يقول الناقد عبد الخالق كيطان ( يعتمد خطاب المخرج القصب دائما وأبدا على حوار العين والخشبة، انه يركز فكرة المرئي على حساب الادبي ).
الخطاب المسرحي عند القصب، هو خطاب بصري ناتج من القراءة المغايرة التي ينشدها القصب للنص الادبي وأخضاع النص للمنظومة الجمالية التي يفجرهاالمخرج في النص الادبي وهذه المنظومات يوظفها المخرج للشكل المسرحي الذي يريده- المخرج / المؤلف- بأعتبار ان المخرج هو مؤلف ثانٍ للنص، اي ( نص العرض ) وما فعله القصب لنصوص مسرحية مهمة مثل( الملك لير، العاصفة، مكبث، الخال فانيا، الشقيقات الثلاث، هاملت ) هو مايدعم كلامنا هذا ولعل مسرحية هاملت تملك من الخصوصية في تجربة القصب ما يميزها عن تجاربه السابقة او على الاقل بالنسبة لنا كمشاهدين، لانها أول اعمال القصب بعد عودته من رومانيا وهي كانت أشبه بالبيان الاول للثورة البصرية التي نادى بها، اعني تمرده على القدسية التي يحملها النص الكلاسيكي خاضعا كل النصوص التي أخرجها لقراءته وليس لخطاب المؤلف ( أنني لا أتوقف عند النص الابداعي لشكسبير وتشيكوف ومايكوفسكي وأبسن ويوربيدس وبيكت وأنما أذهب بعيداً بحثا عن تلك الارواح التي صنعت الذاكرة في خطابها المسرحي من خلال هذا الاستحضار و الاستنطاق أقدم النص وأدعمه بالزمن الاتي ).
من المنصف القول ان القصب هو واحد من القلائل الذين تندرج تجاربهم تحت لواء التجريب باعتبارها تجربة ذات خصوصية، هذه الخصوصية تحمل الكثير من التأسيس لاتجاه مسرحي جديد وهذا الاتجاه هو نتيجة بحث دائم في الاشكال المسرحية من خلال المتابعة والقراءة وبالتالي الثورة على ما يقدم من أعمال جميعها تتحد ث بلغة شكلية واحدة وتتكررسماتها المسرحية في أغلب العروض، وهذا ما أراده القصب في عروضه، أرسال رسائل بصرية من خلال أستخدامه لمنظومات علاماتية وجمالية متكاملة أنتجها من قراءته للنص الادبي وهذا ما يذهب اليه أبراهام مول ( يتألف العرض المسرحي من رسائل متعددة تستخدم في آن واحد من أجل إنشائها قنوات أو ظروب كثيرة من ظروب أستعمال قناة في الاتصال تجتمع في تركيب جمالي أو أدراكي ).
وكذلك ما قاله جير فلتروسكي ( كل ما يكون في المسرح يكون علامة ).
وبما ا ن مفردة تجريب هي من تصريف جرب يجرب تجريباً اذا لابد ان يكون هناك تأسيس نظري يدعم هذه التجربة من أجل تكامل سماة وجودها ومن ثم الاعلان عنها وهذا ما فعله القصب، أخذ يقدم لنا تجربته بشكل عملي وقدم تجارب مهمة في مسيرة المسرح العراقي والعربي ومنها ( الخليقة البابلية، هاملت، طائر البحر، الملك لير، العاصفة، حفلة الماس، الشقيقات الثلاث، عزلة الكرستال، أحزان مهرج السيرك، الحلم الضوئي، مكبث ) ولم يكتفي بما قدمه عملياً، بل قام بأصدارخمسة بيانات مسرحية وهي (كمياء الصورة، جماليات الصورة، أثيرية الصورة، مابعد الصورة والصورة بين النظرية والتطبيق ) وكذلك مجموعة مقالات للتعريف باتجاهه المسرحي الذي أسماه ( مسرح الصورة )، وهنا نستشهد بما قاله القصب
(ان مسرح الصورة هو محطات تأسيسية متجددة يقظة ومتمردة على المؤسسة المسرحية التقليدية انها تأسيس جمالي فلسفي ومن خلال رافد التنظير لفلسفة الصورة وانبثاقها الاثيري التجريبي ورافد التطبيق في انجازه الابداعي لمجموعة العروض المسرحية التي سجلت لهذا الاسلوب خطواته المعرفية في مساحات الممارسة الاخراجية للتجربة المسرحية العراقية والمعاصرة )
لهذا قلنا بأن تجربة القصب من أكثر التجارب أهمية ومن اكثر التجارب التي تنطوني تحت مفردة التجريب، لانها تجربة حملت ملامح وجودها لحظة ولادتها وهي تجربة مسرحية تحمل الكثير من سماة التكامل وهي اشبه بتجربة اي باحث كميائي اوجراح، حيث يقوم هذا الباحث بدراسات نظرية لبحثه في أكتشاف دواء مثلا أو أجراء عملية جراحية وبالتالي تطبيق نتائج بحثه عمليا، وهذا ما فعله القصب تماما كأي جراح، قام بدراسات نظرية لعمليته المعقدة ومن ثم أجرى عملياته الجراحية أمامنا على خشبة المسرح.
فردوس المتلقي عند القصب

لقد قسم فريشار دومارسي في كتابه ( مبادئ سوسيولوجيا المسرح ) القراءة الى نموذجين للتلقي، القراءة الأفقية و القراءة العرضية:

القراءة الأفقية- تتميز بكونها نموذجاً تقليدياً للتلقي عند المتفرج تعتمد بالاساس على الانتظار المتلهف للنهاية اي النهاية السعيدة المصحوبة بتورط قوي في الحدث، في هذه الحالة يكون أهتمام المتلقي منصباً أساساً على الحكاية بتغيراتها وتسلسلاتها الخفية ونهايتها المتوجة بالتطهير - التحرر في النهاية.
القراءة العرضية - ان المتفرج في أطار هذا النوع الثاني من التلقي لايتورط داخل الحكاية بل يتحول الى ملاحظ يطرح السؤال حول كل عناصر الدلالة التي تظهر في العرض، حول ما هيتها، معناها ومصدر هذا المعنى، محققاً بذلك قراءة غير متصلة 9.
لقد عمل القصب مع النموذج الثاني للمتلقي، أراد ان يصدم المتفرج بالصورة المسرحية التي تحمل بين طياتها منظومة علاماتية، كل وحدة جزئية من هذه العلامات تتشظى الى مجموعة أسئلة، أراد من خلالها تحفيز المتلقي وألانتقال به الى منطقة أخرى لم يعتدها من قبل، أراده أن يكون مفسرا لعلاماته الصورية وان لاينتظر ( اي المتفرج ) ان تقدم له حكاية، تكون نهايتها سعيدة وبعدأنتهاء العرض يذهب الى سريره سعيداً بمشاهدته لهذه الحكاية.
كان يهدف القصب الى اقلاق نموم المتفرجlsquo; أغراقه بصور بصرية وعليه ان يستقبلها وبفكك شفراتها وهذا ما ذهب اليه ميرخولد أيضا (ان هدف المسرح لا ينحصر في مسألة تقديم الحلول،بل أن يعرض المشاكل بشكل أوضح ويطرقة تدفع المشاهد بعد رؤيته للعرض والتفكير في القضايا المقدمة ). 10
وما يعمله القصب من خلال تجربته الصورية يؤكده باتريس بافيس بقوله ( إن مقاربات نظرية ألاخبار أو سيميولوجيا التواصل تعتبر الفرجة غالبا كأرسالية مكونه من أشارات مرسلة بقصدية من الخشبة إلى متفرج متموضع ضمن وضعية مفكك للرموز )11، وهذا يدعم رأينا كثيرا بما ذهبنا اليه في تجربة القصب مع المتفرج، ولهذا حدث الجدل حول تجربة القصب بـ ( مسرح الصورة) وصفها البعض بأنها تجربة تشكيلية أكثر من كونها مسرحية لانها تفتقرلأهم عنصر من عناصر العرض المسرحي وهو النص، والنص وقدسيته شيء مهمش عند القصب lsquo; لانه يعمل على جعل النص المادة الاساس التي يؤسس عليها عوالمه البصرية ولهذا يخضع النص الشكسبيري والنصوص الاخرى لمشرطه، حاله حال اي جراح أخر لكن القصب جراح في جسد المسرح العربي الذي ترهل من كثرة الاعمال التقليدية التي تسوده او من خلال الفوضى التى نراها تحت شعار التجريب المسرحي.
لكن المآخذ على القصب انه لم يهيأ المشاهد العادي ( اي الانسان البسيط ) للمسرح، للانتقال معه الى تجربته، لان هذا المشاهد العادي كان قد تسيس على مشاهدة عروض مسرحية اخرى وتناقش وضعه الاجتماعي وتناغي حسه العاطفي لاستثارة عواطفه، وعليه يريد هذا المتفرج فترة زمنية لفهم وتقبل تجربة القصب الصورية الجمالية، لان مشاهدنا المسرحي العادي ( غير المختص ) تعود على سماع الحكايا، هذه الحكايا هي التي تأتي به الى المسرح ولهذا لم يستقبل تجربة القصب ونفر منها واعتبرها تجربة دخيلة عليه لانه لا يفقه منها شيء.
أين الحكاية في عروض القصب ؟ ليس هناك حكاية، حكاية ترويها المنظومة الجمالية التي كونها القصب وكذلك ليس هناك الجهد التمثيلي للممثل، الممثل مجرد أدات في التشكيل الصوري داخل ا لمنظومة الجمالية، اذا حتى الممثل هو ليس الممثل الذي راه المشاهد في عروض اخرى، الممثل الذي يريده المشاهد هو ذلك المشاهد الذي تربى على مدرسة ستنسلافسكي، الممثل الذي يتقمص الدور كي يتفاعل معه المشاهد ويحزن على نهايته المأساوية ويفرح لفرحه وهذا الذي نادى به ستنسلافسكي في نظريته تقنية الممثل، اذا لاوجود للتقمص الكامل للممثل والغاء الذاكرة الإنفعالية والتي هي كل نظرية ستنسلافسكي في فن التمثيل، هدمها القصب وحل محلها الممثل الذي يجب ان يكون مفكرا جماليا محلقا في المنظومات الجمالية التي ينشدها في شكله المسرحي والممثل عنده (يكون جزءاً من نظام أشاري متعدد المستويات، والعرض لايمنح فرصة لانتاج حدوتة معينة تستدعي ممثلا يسهم من خلال الاداء في صناعتها وبثها للمتلقي ) 12.
وما حدث عند المشاهد العادي من نفور لتجربة القصب واتجاهه الصوري، كان هناك نفورا من داخل الوسط المسرحي لاعمال القصب واعتبرت أعماله مجرد أرهاصات جنونية ليس لها اي مبرر، الغرض منها الاثارة فقط، وان أعماله لا احد يفهمها غيره وإنها تجربة تشكيلية أكثر من كونها مسرحية وهذا ايضا ما يؤكده القصب بقوله (ان النص المسرحي ما هو إلا انتاج فكري لزمن حيث علينا أن نستحضره الى زماننا ولا تهمني الجغرافية المعلنة للخشبة ما يهمني جغرافية البنية التي أتصورها فأنا فنان تشكيلي ولكل لوحة مفرداتها )13.

فردوس التأثر

كانت رومانيا وتجربتها النظرية والعملية احدى المصادر المهمة لتجربة القصب البصرية، وما استلهمه من تجربة عملية من خلال مواكبته للساحة المسرحية الرومانية و الثورة البصرية للمخرجين الرومان امثال ( كاترينا بوزيانو،ساندامانو و ليفرجولي)، وتجربته النظرية من خلال دراسته الاكادمية في جامعة بوخارست، وبالاضافة لكل ذلك ما تحمله الساحة المسرحية الرومانية من ثقل بصري تحت ما يسمى بـ (مسرح الكادر).
وكان القصب امينا دائما بذكر كل انسان وتجربة ساهمت في أغناء تجربته الابداعية، وبالاضافة للتجربة الرومانية لا يتوانى بذكر تأثره بـ( ارتو، بيتر بروك، كروتوفسكي، فيسفورمايرخولد وريد هارت) ومن المخرجين العراقين ( ابراهيم جلال، سامي عبد الحميد، قاسم محمد)، وهذا الشيء لايقلل من شأن تجربته، لان كل الفنون هي في حالة تاثير وتاثر، والمادة الابداعية متاحة للجميع، وعلى كل فنان مبدع ان يعيد صياغتها وبلورتها من اجل اغناء تجربته الشخصية والارتقاء بها نحو عوالم خاصة به، بدون استنساخ تجارب الاخرين، ومافعله القصب هو بيثقافي( يعني بدمج ثقافتين او اكثر ) ، وهذا ما ساعده لخلق اسلوب مختلف تماما عما هو سائد في الساحة المسرحية العراقية، وهذا الاختلاف بالاسلوب المسرحي او المعالجة الجديدة للشكل الذي خلقه القصب، او بمسى اخر القراءة الجديدة للنص المسرحي، ماهي الا نتاج لارهاصات واحداث شهدها العالم، نتج عنها، ثورات معرفية وفكرية ليست على الصعيد الفني فقط والرواية والعمارة والشعر والذي هو احد المصادر المهمة في تجربة القصب، كونه يبحث دائما عن الصورة داخل الجملة الشعرية.
كان انتونان ارتو الاكثر تاثيرا بتجربة القصب من كل المخرجين الذين ذكرناهم سابقا، والمتتبع لاعمال القصب سيجد هذه التاثيرات واضحة في عروضه المسرحية وكذلك بياناته التي نظر فيها لمسرح الصورة، لقد كان ارتو يرفض الواقعية سواء في اداء ممثليه او في بناء اشكال عروضه المسرحية، وهو يعتبر الاسطورة والسحر هما اساس العرض المسرحي، وكذلك اعتقاده بان وظيفة المسرح هي تحرير النوازع الموجودة في عقل الجمهور الباطن، ويعبر عن احلامهم والامراض والعقد النفسية التي تتحكم فيها حتى تلك الاشياء البسيطة التي لايعترف الانسان او المتفرج العادي بوجودها. أرتو ( يبحث عن لغز الروح الهائمة في الفضاء والتي يهدف منها إلى تحرير النوازع الموجودة في لاوعي المشاهد، عاملا على تجريد النصوص من محليتها وقذفها في ( المطلق والكوني ) وتجريدها من صفاتها الواقعية واحالتها إلى رموز واشارات من خلال استخدام الشعر والاسطورة والسحر ولهذا فأنه يرى ان العرض لايتمكن من التعبير عنه بلغة الكلمات وانما بلغة اخرى، هي لغة العرض المسرحي ). 14
ولكي تحقق الدراما او العرض المسرحي هذا الهدف لابد ان يعطي الحوار المكانة الاخيرة في العرض المسرحي، وتاخذ الحركة بديلا عنه كمادة اساسية يستند عليها العرض المسرحي.
وهذا ما يذهب اليه القصب ايضا وما نادى به في بياناته المسرحية، وكذلك اعماله من خلال رفضه للاداء الواقعي بالنسبة لاداء الممثل والغائه للذاكرة الانفعالية التي نادى بها ستانسلافسكي، في مسرح الصورة، وأيضا تهميشه للنص المسرحي والغائه للقدسية التي يتمتع بها النص المسرحي، دور اللغة( الحوار ) في مسرحه لابد ان يقتصر على مجرد الايحاء، بأعتبار ان الحوار وسيلة تنتمي إلى الادب وليس للمسرح، ولهذا يجب ان يعتمد العرض على الصورة عند القصب.
وللامانة نقول بان ليس القصب هو الوحيد من تاثر بطروحات ارتو المسرحية، بل سبقه العديد من المخرجين والفرق المسرحية بذلك لعل اشهرهم الأمريكيان ( جودين باليان وجوليان بيك) والذين اسسوا فيما بعد معا ( فرقة المسرح الحي الامريكي عام 1965 )، وكذلك كروتوفسكي و بيتر بروك والذي يعتبر مع اوجينو باربا من اهم المخرجيين الاحياء بالعالم الان.
لكن المثير للانتباه هو كل ما احدثه ارتو من تاثيرات على معظم المخرجيين المجديين، هو تاثير نظري اكثر من كونه عملي، جلهم تاثروا بكتابه الوحيد بهذا الصدد هو ( المسرح وقرينه ) والذي يظم كل طروحاته المسرحية، وقراءته للعرض المسرحي الجديد، كون ان معظم تجاربه العملية كانت لم ترتقي لتجربته لنظرية وهذا ما شكل اعباء نفسية على شخصيته.
نرى بان بدايات ارتوا الشعرية، هي التي قادته لتهميش النص المسرحي والاقتصاد بالمنطوق واحلال المرئي بديلا عنه، اي انه اراد لمسرحه ان يهتم بالصورة داخل الجملة الادبية، وهذا ما يذهب اليه الشعر ايضا، بأعتبار ان الشعر هو لغة صورية، داخل القصيدة.

فردوس أخير
بالتأكيد ان تجربة مسرح الصورة، هي ليست تجربة رومانية خالصة، بل انهم ايضا تاثروا بتجارب عديدة من المسرح العالمي المعاصر.، في رومانيا لم تكن تسمى ب(مسرح الصورة) وانمابـ( مسرح الكادر)والتي تعتمد على البناء والهدم داخل المشاهد الواحد، بحيث يبتدأ المشهد وينتهي بتشكيل معين يعبر عن الحالة التي وصل اليها المشهد، ومن ثم يتهدم هذا الشكل للبدا بحالة مشهدية جديدة وهكذا.
وللتاريخ نقول لو لم يكن القصب عراقيا لكانت ثورته البصرية الجمالية أمتدت الى كل بلدان العالم العربي بل لكانت زحفت الى أوربا وهذه ليست مبالغة، لكن القصب عراقي وكانت ثورته البصرية قد بدأت في العراق في بداية الثمانينيات مع بداية حرب الخليج الاولى وبما أن أعماله لاتتماشى مع خطاب السلطة السائد أنذاك والذي أستمر هذا الخطاب الى نهاية النظام السابق في العراق15 ولهذا لم يروج له أعلاميا خارج العراق من خلال أرسال أعماله للمشاركة في المهرجانات المسرحية العربية والعالمية، ومن ثم دخل العراق في حرب جديدة بعد غزوه للكويت عام 1990 وأزداد التعتيم على تجربة القصب بأعتباره عراقيا وكل ما هو عراقي منبوذ عربياً بعد حرب الخليج الثانية، وبعدخمسة وعشرون عاما من ثورة القصب الصورية الجمالية والاعلان عن تجربة مسرح الصورة، أمتدت ثورته الى بلدان الوطن العربي وأزداد مريدوه وأخذ العرب يتلفظ مصطلح مسرح الصورة مع أسم صلاح القصب وهناك الكثير من الجهات والفرق المسرحية تفتخر لمجرد ان يخرج لها القصب عملاً مسرحيا، بل الاكثر من هذا تتباها اذا كان القصب قد حاضر لممثليها او للعاملين بالفرقة مثل ما صرح به الفنان حسن أبراهيم رئيس أدارة فرقة قطر المسرحية ( الدكتور صلاح القصب هو الذي وضع لنا منهج مسرح الصورة الذي نسير على ضوئه حيث سبق لنا في فرقة قطر المسرحية تقديم مسرحية مكبث بحيرة من الدم ضمن أطار هذا المسرح على يدي الاستاذ القصب )16، وصلت تجربة القصب الى خارج الحدود عن طرق طلبته في كلية الفنون الجميلة وكذلك من خلال طروحاته وتنظيراته لمسرح الصورة.
لوكان العراق يملك مؤسسة ثقافية حقيقية مهمتها إعلاء شأن الثقافية العراقية فقط وكذلك ألاهتمام بالمبدع العراقي في مجال أبداعي وتبنت تجربة القصب مثل ما نراه في البلدان العربية من خلال تصديرها لتجارب مبدعيها وهذه هي مهمة المؤسسات الثقافية، لو عملوا على هذا، لكان اليوم اسم صلاح القصب يضاهي اسم مايرخولد بأعتباره ( اي مايرخولد صاحب ثورة شكلية في العرض المسرحي في بدايات القرن الماضي).

المصادر
1-http://www.aljazeera.net/programs/culture_view/articles/..2000/12/12-29-1.htm-

2-عبد الخالق كيطان، المسرح في تسعينيات العراق،مجلة المسلة، العدد الاول، السنة الثالثة، 2001.
3-جريدة الموعد العراقية، الاربعاء 6 حزيران 2001، العدد 166، ص.
4- عبد الخالق كيطان، البيان الثقافية الاحد 18 حزيران 2001، العدد 58.
5- الموعد العراقية سبق ذكره..
6- كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما،ترجمة : رئيف كرم، المركز الثقافي العربي-بيروت، الدار البيضاء ص61.
7- نفس المصدر ص15.
http://www.al-watan.com/data/20040107/index.asp?content=culture-8
.http://home.planet.nl/~algab000/makalat.htm-9
10- كاتيرن بليزايتون،مسرح ميرخولد وبريخت، ترجمة:فايزقزق،المعهد العالي للفنون المسرحية-دمشق ص122.
11- سبق ذكره
12- كيطان، سبق ذكره.
13- محسن العزواي، جريدة الزمان العدد 1540 التاريخ 25-6-2003، صفحة ألف ياء.
14- صلاح القصب-ماوراء الصورة-مجلةالاقلام/بغداد -ع 2شباط 1995..
.15 ينظر بحثنا ( عروض مسرحية مفخخة ) المنشور في مجلة علامات التي تصدر في هولندا، العدد الاول نوفبر2003 تصدر عن رابطة الرافدين الثقافية في أمستردام
16- جريدة الوطن القطرية 10-11-2002، صفحة ثقافة