الديوانية في الستينات ndash; نص للذكرى
كانت اضواء المدينة الكبيرة تبدو كلمعة سرج ذهبي لمهر شارد أواخر النهار، وتتوامض مصابيحها الكهربائية المتوقدة فوق اشجارها المصطبغة باللون الاصفر طوال ايام الربيع مع خفقات رياح قلب الغسق، هكذا كانت تبدو من بعيد، أراض متموجة ناتئة، مياه رجراجة، وحروق.
وحينما اتذكر غبارها الرمادي الذي يطوق بناياتها الضيقة ذوات الطابق الواحد وهي تفقد الوانها مثل جمال غريب
ذابل مع حدائقها الصغيرة وأزهارها، أصل الى سنوات ساحتها المكشوفة قرب الجسر الخشبي قبيل ساعات شروقها وأوقاتها المتأخرة الدافئة مع صافرات الحراس الليليين بهراواتهم وموديلات شواربهم المختلفة حيث تصادفهم فجأة في ليل سوق المدينة، وكأنهم انبثقوا من التراب، تختلط صيحاتهم وصوت قطار المحطة القريبة الغارقة في مياه بحر العتمة.
فحينما يأتي الليل تستغرق المدينة في سباتها مع الظلام المخيم كأنها داخل أوجرة متحركة في الضباب الشبحي الآخذ بالشحوب، وتنحدر شوارعها الرطبة الملساء بزواياها المكشوفة وتعرجاتها الطينية دون ان تقول شيئا كأنها مسارات أقدار لم يكشف نقابها، وقناعات وهمية لم تستثمر في ذاتها أسباب بقائها او أقامتها. لماذا يروح ويجيىء آلاف الماشين بين أسواقها الضيقة المتفرعة او عند مزارها الوحيد بقبته التركوازية الضخمة التي وجدناها مبنية منذ الأزل؟ ناسين الالتفات الى بعضهم من شدة الدهشة، وكأنهم في تجوالهم المسائي الطويل يتقدمون نحو الماضي، ماضيهم او ماضي سواهم، او يسيرون ووجوههم تتلفت الى الوراء، تكشف لهفتهم المحال المنتظمة المرتبة والدكاكين والمقاهي التي تختلف وتتشابه في الوقت نفسه عند السوق المسقف، بلا سمات حيث التغير حسب ألوان الوقت حتى لاتتجمد الصورة في الذاكرة او تمَل، ويبقى حبك لها مستمراً، فأيامها القادمة ايام اخرى، وذكرياتها لاتتشابه، انها سؤال(أوديبي) يتناقض مع منطوقه وحلم لايحلمه أحد.
تتكور ساحة الجسر على نفسها حيث ستستمر سلسلة التشابه والاختلاف في لعبة جديدة، ويدور باعة صواني( الداطلي ) وقدور الحريرة والشلغم المسلوق ومواعين الكبة والدوندرمة وحب الرقي ولفات البيض والعنبة الهندية ومنادو مانشيتات الجرائد المسائية في فلك مرتعش حتى يضيعهم الغروب وتبهتهم الذاكرة في الممرات النائية من محلات العذارية والكرفت والحي العصري واليوسفية، بين مزابل الأرصفة ونتوءات الجدران والنوافذ المطبقة كأنهم زالوا من الوجود، او كأنهم اوهام تقود الى اوهام اخرى..
اجلس الان بعد انتهاء نصف قرن مترددا في الكتابة عنها، يتملكني الشك في ان أتمكن من استعادة عبء تلك الحوادث والمشاهد والرؤى التي تقلبت في ذاكرتي مع عجلة سحق الايام.وسأكتشف لأول مرة ان الزمن لايجري وفق أية قاعدة، او كأنني أطل على مدينتي من وراء الزمن.فهذه المدينة ليس لها واقع جغرافي حقيقي، بل ان واقعها الحقيقي ليس مهما البتة، فما يعتبر ممكنا هو نسبية وجودها في الممكن.دون ان تكون لوجودها شواهد كثيرة او ارتباطات او دلالات على ذلك الوجود المنزلق
نحو زاوية العدم والغياب.
نحن الشباب اللاهثين وراء بهجة الحياة وفضائحها، والذين تدهشنا أبسط انغام أسرارها، كتب اسم المدينة منذ زمن بعيد في حيرة دقات قلوبنا وأقصى احلام صبانا ثم ارتبط بمصائرنا الى الأبد. تنقلنا بين مدارس كثيرة بسبب الضجر، وطردنا من مدارس عديدة بسب الفاقة وشغف ارتياد دور العروض السينمائية المدهشة. تسبقنا رغبات الشباب غير المستقرة لرؤية افلام هوليوود وخيالاتها الوردية، أولادها الفاتنين وصباياها المنزلات من فردوس عدني.
التقي نهرها الذي القيت فيه بكل المتاعب التي تصيدتها خطوات طفولتي، يتخذ طريقه نحو سكون الشرق الفسيح على احجار (نفر ) العاصمة القديمة حاملا في انحرافته الطويلة المضنية أشعة الشمس البراقة ونشوتها الحية التي تحرسه مع اخضرار اعواد القصب والبردي والصفصاف والسيسبان الرطبة وهي تتكيء في مجاميع منحنية فوق جروفه المثلمة مثل ومضة شعر مرسلة فوق جبين عذراء. وهناك عند نهايات النهار تجلس نساجات (اهل الشط)ببسطهن الزاهية وألوانها الاخاذة يحكن بدأب لايمكن ادراكه جدائل نحاسية مشتعلة لاقمار المغيب كأنهن صبايا دير منعزل تحيطهن صلوات مياه ليلية متبخرة في انتظار ( بنيلوبي )مستمر.
سافكر بالمأخوذين الذي اكتشفوا قبلنا متطوعين فتنة الحياة، (علي طبعن) الذي لم أره إلا وهو سائر كأنما كتب عليه من دون البشر ان يبقى سائرا في طرقه السماوية التي اخترعها بديلاً عن طرق الأرض الى الأبد، علي طبعن بمعطفه العسكري السميك ونياشينه العثمانية التي حال بريقها في معارك وهمية لم يخضها وقلائد خرزية تتدلى على الصدر في إرتعاش مذهول، ممسكا بعصا تتدلى في نهايتها صرة ملفوفة هي كل متاعه في الحياة، لايعرف أحد ما بداخلها، ولا تستثير فضول أحد، كشخص متهيىءللسفر دائما، لايضع صرته على الارض أبدا ولايستريح،، سيره خطوات متئدة كأنه لايريد ان يصل الى مستقر ودون ان يقلق أرواح الارض الخامدة، انه موكل بالوصول الى النقطة اللانهائية في كون لاينتهي.
(خنياب) الكهل الخرافي، حارس بوابة طريق شمع الطفولة نحو المراهقة لشباب مدينة باكملها، يمسك زمام امور الأعمار بحزم عند مدخل سينما ( الفرات الشتوي) التي تفتح منهاجها اليومي باغنيات صباح ونجاح سلام وفريد الاطرش، كل صغيرين يستطيعان الدخول ببطاقة واحدة سعرها أربعون فلسا، لكن ثمة تغييرا لايدركه أحد حتى انفسنا يراه خنياب بعينه الثاقبة من نظرة واحدة للزغب النامي فوق شفاهنا، فيمنع من وصل الى عمر المراهقة من الدخول إلا ببطاقة رجل كامل الاحترام باربعين فلسا لاتنقص ولاتزيد. بقي خنياب بجلال أمطار شيخوخته الحزينة شاهداً على تحول جيل خمسيني بأكمله من مرحلة الطفولة الى سن الضياع لأعوام طويلة، ولكننا كنا نستغرب لبواب سينما مدة عشرين سنة لم ير لقطة واحدة من فيلم سينمائي طيلة عمره، ولايقسم الا بروح رجل اسطوري اسمه الحاج جمعة صاحب السينما الاول.
(عبدو) سيد الشوارع وامير مملكة الخمر وأزقة الغبار، لامكان لقانون او نظام او هاجس اجتماعي، لامكان لكل شيء الا لأخيلته التي تصنعها قناني العرق وصولجانه الذي هو عبارة عن مكنسة تمسح من خلفه الطرقات.يصرخ الاطفال عبدووووو، فيهتف سليل مملكة الغيوم وهو يلوح بيديه المفتوحتين ويهزهما الى الخلف في حركة تواشجية ( قواويد..افعلوا ماتشاؤون..اعملوا ماتشاؤون..كل شيء.. ماعليا) في اطالة مموسقة للكلمة الاخيرة. انه من ارض ثانية، ويعيش ضمن قانون آخر، بلا حاشية، عند المساء نراه نائما في الأوحال والبرك التي صنعتها أمطار الليل، يرفض المساعدة ويصيح بين روائح الزحلة ورأسه المثقل بالدوارالصوفي (انا مرتاح.. انتم افعلوا اي شيء..ماعليا)مع نظرة حائرة من عينين غائبتين تحملان معنى اللوم.
(حسنة ملص) تحولت الى عرش الرجولة وتنكرت لبنات جنسها، فما انصفها ذلك التغيير وبقيت تسوق البقرات المقادة للذبح عند مسلخ المدينة البعيد لكأنها واحدة منهن، امراة بملابس رجل وجسد هرقلي، حملت معها حياء الانوثة وبقيت تختبىء في كل مكان باحثة لها عن ملجأ من نظرات العيون المحدقة وصراخ الصبية، فاصبحت تعيش وراء ستارة الحياة، تمر بين الازقة وهي منفصلة عنها، كأن في انتظارها عند كل منعطف عيون وهمية، فتغضي حياءاً حتى لايشعر بها الآخرون، ودون ان تخدش بمرورها المبطىء وشوشة حبات الهواء.
كانت احلامنا تسير عارية حلما إثر آخر خلف ذلك الشاب ذي الدشداشة القصيرة والسواعد المفتولة (عبد اللي)وهو يخترق الشوارع بربل تجره الخيول المزركشة حاملا ملصق فيلم الليلةوالليالي التي تليها وهو يملأ الشوارع بالصياح (هاي الرواية باجر.غدا) كان الملصق قطعة خشبية عريضة لها حامل رسم عليها باللون الازرق الغامق على الجهتين وجه (مارلين مونرو) التي كانت تتمايل قلوبنا الحريرية امام مرأى ملامحها الدافئة كل مرة في جنون طفولي ليست له حدود، ونحن نمني انفسنا بالتطلع الى ذلك الوجه القمري المتوهج بالحياة قبل أفوله الاخير، في حفلة يوم الجمعة القادمة او أثناء الزوغان وقت دروس ساعة الظهيرة، والتنقل بين ست صالات عرض سينمائية انتشرت في حاضرة المدينة.
كنت اتطلع عند مدخل الحديقة العامة مقابل تمثال العامل الاحمر، حامل مشعل الحرية عند الصوب الثاني الى لافتة وضعها طبيب على باب عيادته اسمه (محمد عزت العبيدى) كنت اقرأ قصصه التي ينشرها في مجلة (طبيبك)لصبري القباني افضلها بين مجموعة مجلات يحتفظ فيها قريب لي، ومن يومها صرت أتحين الفرص لرؤيته دون ان اعرف كيف اتعرف عليه فانا صغير وهو دكتور، ومنعني سني من التقرب والتعلم من تجربته، وقد تملكتني الحيرة هل هو نفسه الذي كتب تلك القصص التي انمحت من ذاكرتي كلها؟ وكيف يكتب الناس ؟ وهل من المعقول ان يكون مثلنا من يكتب القصص او مثل اولئك الاشخاص الوهميين الذين شغفت بكتاباتهم على الصفحات القديمة من كتب تركت في بيت الدرج تعود لخال اعتزل الحياة، نجيب محفوظ واحسان والسباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله، وحينما رأ يته مثلنا اتخذت قراري ان اصبح كاتبا مثله لاطبيبا بلافتة، فبدأت محاولاتي الاولى مقلداً كتاباته دون ان يدري او انقل منها جملا صغيرة من تلك التي تشبه كتابات ذو النون أيوب او جبران خليل جبران. ذات يوم وبعد مرور سنوات طويلة رأيته في بغداد، ولم نكن قد تعارفنا بعد، وهو على اعتاب الكهولة، وقد اخذت انشر قصصي في مجلات عديدة، كان يعبر الشارع الساخن بالقيظ نحو الجهة الاخرى، كأ نما يعبر نهرا لايراه احد، خوف ان يعكر صفو مياهه، اردت محادثته ولكنه لم يلتفت الي فتملكتني نفس الحيرة التي كانت تعتريني وانا اتوقف امام حروف تلك اللافتة الغائمة في مطلع حياتي وانا طفل، وفاتت الفرصة ثانية دون ان اعرف كيف اتعرف عليه واعرفه بنفسي والى الأبد.
لم يكن ذلك الحارس الليلي الغفل مازحا حينما اطلق النار على ( محمود ناصر) وهو ينتزع برصاصاته تلك النفس الشاسعة التي احببناها وقد تسلقت ذات فجر مواعيد النجوم الغافية، رفض محمود ناصر المغريات وفضل ان يقف الى جانب الضعفاء ويحميهم بقوته الجسدية من تجار السوق مثل روبن هود معاصر، وحياته الثمن.
في حرقة يوم تموزي من تلك السنوات الخمسينية الحارة البعيدة اقبل رجال غاضبون من الصوب الآخر، وتركوا حبالهم هناك فوق الاشجار مقابل بناية المتصرفية، وبقيت الجثث معلقة كالدغل المجتث في الهواء حتى غرقت الشمس في لون الغروب، فلم يعد احد
يراها تتأرجح مع انسلال الضوء، وغابت بعد فترة وجيزة كأنما ابتلعها سكون المساء.وجاء رجل يسعى من بعيد في سواد ابرد الايام وكأنما يأتي من خارج المدينة، صرخ، لقد قتل. فتناوشته الصبية والنساء بالحجارة،(فلك طرك )،عبد الكريم لايموت. وبقي الأعتقاد سائدا لدهور وخصوصا عند جدتي العمياء (حظية بنت موسى )التي ظلت تعتقد ان عبد الكريم سيعود وينقذ المكبلين في السجون ويعيد الى الناس طعم الحرية من جديد ويعطيها دواءً سيشفي عينيها وتستعيدان النور.
ذهبت تلك الايام وبدأت تنمحي شيئا فشيئا كصفير خافت مع امتداد تضاريسها القاحلة بحكاياتها وحوادثها ومواسمها، بألوانها الغائرة ورؤاها المندرسة المخذولة والمبتعدة بين طيات صحراء هامدة، في تلك السنوات رأيت مدينتي فجأة، امتلكتها، احتظنتها، نادتني فتبعتها، وطفت غير عابىء عبر مستنقعاتها، غطتني بغبار طرق نهاراتها ودياجير بساتينها، احتفالات السبايا وقت عاشوراء، واعياد دخول السنة الهجرية، ارواح قتلى الثورات المغدورة منذ عشرينياتها، طولها وعرضها، أناتها ولهاث ساعاتها الراكدة، الدبيب المذعن الممل لأوقات حدائقها السرية، حطب مواقدها، ووحول أروقتها، واجنحة السحر التي كانت
تلف سماواتها.
اجلس بعد مرور كل هذه السنين عند حافة نافذة ذكرياتها، وكلما امعنت التفكير ازددت شوقا الى التفكير فيها، ثم اقول لنفسي انها قد بقيت هناك، في الوقت الذي لم أعد فيه الى رؤية سمائها الموشكة أطرافها على التلاشي والنزول، وكأنني أرسم صورتها فوق صفحة ماء او رمال.
التعليقات