الجواهري يتحدث لكاتب هذه السطور
في دمشق اواسط عام 1994
رواء الجصاني من براغ: بقيت ثمانينات الجواهري دون توثيق ملموس حتى اليوم، باستثناء بعض اللقطات المتناثرة، وقد توفق الخلاصات التالية في تأشير بعض المحطات الرئيسة بهذا الشأن، خاصة وأنها تجيء من خلال معايشة مباشرة لكاتب هذه السطور...
وتبرز أهمية هذا التوثيق لبعض سجل الجواهري، من تزامن ثمانينات الشاعر الكبير مع ثمانينات القرن العشرين تماماً، حين شهدت البلاد العراقية أحداثاً وشؤوناً وشجوناً بالغة الاستثناء كما يثبتالمؤرخون... وخاصة حرب النظام مع إيران في مطلع العقد، وغزوه الكويت في نهايته، وما ترتب على ذلك من مآسٍ ودمار وكوارث.
وتؤرخ لنا وقائع تلكم الفترة شيوع الارهاب، ولمديات قصوى في العراق، ليطال حتى بيت الشاعر والرمز الوطني الكبير، شملت اقتياد ابنته الوسطى لدوائر الأمن، واعتقال وتعذيب أصغر أبنائه لعدة أيام، إضافة لاحتجاز وتهجير العديد من أفراد الأسرة الجواهرية... وقد أكد ذلك قناعات جديدة بشأن الطريق التي صممت على انتهاجها قيادات حزب البعث الحاكم آنذاك، باصرار، كما أكدت السنوات اللاحقة... وفي ضوء ذلك وغيره يقرر الشيخ الثمانيني الجليل، الهجرة من الوطن، وهو يحمل quot;منقاراً وأجنحةquot; ليس إلا، عائداً للاغتراب من جديد إلى العاصمة التشيكية، وحتى مطلع التسعينات، ليستقر بعدها في دمشق الشام وحتى رحيله في 27/7/1997.
وفي براغ، مغتربه القديم ndash; الجديد، يقيم الجواهري في quot;شقيقةquot; مؤجرة لا تتعدى مساحتها السبعين متراً مربعاً أو تكاد، منشغلاً بالشعر والوطن وما بينهما، باحثاً عن ايما استقرار، عارفاً سلفاً أن ذلك وهماً بعيد المنال لمن مثله quot;صاعقاً متلهباًquot; وquot;سبوحاً عانق الموجة مداً وانحساراquot; طوال عقود حياته المديدة... وتعود تلك quot;الشُقيقةquot; كما في الستينات والسبعينات، مزاراً لقيادات سياسية معارضة، ولنخب مثقفين عراقيين وعرب، تستمع لآراء وأحاديث الجواهري واستشرافاته... ولربما توجز قصيدته النونية عام 1980 بعضاً من همومه، ورؤاه لأوضاع وآفاق quot;البلد العجيبquot;.
وخلال السنوات الأولى من ثمانيناته ndash; وهي ثمانينات القرن الماضي كما سبق القول، وجهت للجواهري الكبير دعوات عديدة لزيارات رسمية، وفعاليات ثقافية بارزة، لم يلبّ منها إلا قليلاً، ومن أبرزها دعوتان رسميتان إلى العاصمة السورية دمشق التي كان قد كتب عنها قصيدة جديدة في أواسط عام 1980، والثانية إلى عدن، عاصمة اليمن الجنوبية حيث ألقى فيها نونيته المطولة عام 1982...
... ومع ازدياد أوضاع البلاد العراقية تدهوراً في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وسقوط الأوهام والمراهنات على امكانية ابعاد النظام الحاكم من اعتماد الارهاب والقمع طريقاً وحيداً لبسط الهيمنة والنفوذ، تأصل قرار الجواهري في اتخاذ الغربة موقفاً احتجاجياً ذا أكثر من مغزى... وتبين نونيته الغاضبة عام 1982 آراء ورؤى معبرة تجاه العراق نظاماً ومعارضة... ثم يواصل الموقف نفسه أو ما يقرب منه في قصيدته الشــهيرة quot;يا ابن الثمانينquot; ليبث فيها هموماً وشجوناً وبعض غضب ومرارة من الوطن وquot;أصحابquot; وquot;زعاماتٍ من كثرِ ما اعتلفتْ بها مسٌ من الحبلِquot; على حد وصفه. كما نوّه فيها لتجاوزات quot;متطاولينquot; حاولوا هزّ دوحه، وحذّر أن يسيّر فيهم quot;الأمثالquot; خالدات! وقد نشرت القصيدة لأول مرة صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 19/2/1982.
... وفي الفترة ذاتها تجدد الرئاسة السورية دعوتها للجواهري، باستضافة مؤقتة أو دائمة، وبالشكل الذي يراه مناسباً، والصورة التي يريد... وهكذا يقرر الشاعر الكبير قبول الدعوة ليسري إلى دمشق مع عقيلته، مبقياً براغ quot;مستقراًquot; آخر، يتقاسمه مع quot;مستقرهquot; الجديد... وكما هي الحال دائماً، تصبح دارته في العاصمة السورية، وعلى مدار الساعة تقريباً، ملتقى النخب والشخصيات السياسية والثقافية السورية والعربية، فضلاً عن العراقية الوطنية والديمقراطية...
... وحتى منتصف الثمانينات تتبلور، وتثمر بين دمشق وبراغ العديد من منجزات الشاعر الابداعية والأدبية، ومنها طبعة شبه كاملة لديوانه عن دار العودة اللبنانية، والجزء الأول من موسوعة بالغة الأهمية تحت عنوان quot;الجمهرة في المختار من الشعر العربيquot;، سبّب جهده المضني فيها، مشاكل جدية في نظره مما تطلب إجراء عملية جراحية في باريس نجحت في إزالة جزء من الأضرار... ووقف على مراجعة تلك الموسوعة د. عدنان درويش... وقد تزامن ذلك أيضاً مع صدور quot;مختارات الجواهري في العيون من أشعارهquot; بإشراف د. عبد الحسين شعبان... وقد شهد النصف الأول من الثمانينات أيضاً، قصائد جديدة للجواهري جاء أغلبها موثقاً لنظرته وآرائه في رواهن الأحداث والوقائع العراقية والعربية، وان اتخذت الحوارات والمخاطبة الذاتية إطاراً لها... ومن بين جديده في تلك الفترة، وكان غالباً ما يعبر بهذا الصدد quot;ان جلَّ قديمي جديد أيضاًquot;: رائية quot;بغدادquot; الغاضبة عام 1981، والبائية اللاذعة عام 1982 رداً على مؤلـَـف quot;أدبيquot; هجين مدفوع الثمن وفقاً للجواهري، وميمية quot;أأبا مهندquot; التحريضية عام 1983، ثم قصيدة quot;برئت من الزحوفquot; النقدية العنيفة عام 1985...
... وإذ تنتصف ثمانينات القرن الماضي، تستمر براغ ودمشق في تناصف الجواهري، حاملاً معه هموم البلاد المستباحة ارهاباً وعسفاً وحروباً داخلية وخارجية، ومن دون أن تلوح في الأفق مؤشرات بوقف نزيف الدم quot;والثارات والاحنquot;... ولربما شاء الشيخ الجليل أن يهرب، ولو لبعض الوقت، من quot;جبال اسىquot; يحملها جراء تلكم الأوضاع، فيعكف جدياً هذه المرة ndash; بعد محاولات أولية سابقة ndash; ليؤرخ ذكريات عن quot;البلد العجيبquot;، وشهادات quot;حادي قوافلهquot;، كما يصف نفسه أحياناً... وإذ ينال منه ضعف البصر ndash; لا البصيرة ndash; quot;وقد بُلغَّ الثمانينquot;، تصعب عليه الكتابة، فنجده يلجأ إلى الأشرطة الصوتية تارة، والفيديو أحياناً أخرى، ليتم تحويل تسجيلاته لاحقاً إلى مسودات ورقية، تليها مراجعات ومراجعات، وبتفاصيل وفيرة، طويلة الحكايات...
وبرغم quot;ضريبة العمرquot; التي يعترف بها لماماً ndash; ولكن أمام المقربين فقط - ينتاب الجواهري الكبير في بعض تلك الأعوام الثمانينية، حنين إلى quot;عهد الصبا، لو طلل سمع الشكوى...quot;، بل وتعتامه quot; صبوات مهرquot; بين وقت وآخر، على ذمة شهود عيان، لعل كاتب هذه السطور من بينهم!!!... وفي تلك السنوات أيضاً، وحواليها، يلبي الجواهري زيارة خاطفة إلى بولندا لحضور فعاليات احتفائية، بمناسبة الذكرى الأربعين لانبثاق مجلس السلم العالمي الذي كان قد شارك في مؤتمره التأسيسي بعيّد انتهاء الحرب العالمية الثانية... كما يقضي أياماً في طرابلس ومدن ليبية أخرى، بضيافة زعامات ثقافية ورسمية آثرت الاحتفاء بشاعر العربية، والرمز العراقي الأبرز.
ولمزيد من التوثيق عن هذه الفترة نشير إلى أن وزارة الثقافة السورية قد بدأت في عام 1986 توزيع الجزء الأخير ndash; الخامس ndash; من طبعة شبه كاملة لديوان الشاعر الكبير ضمت غالبية خرائده، مرتبة ndash; وفي سابقة أولى - حسب حروف الهجاء... كما ويصدر في السنة ذاتها مؤلف مهم للكاتب والباحث العراقي المعروف حسن العلوي حمل عنوان quot;الجواهري ديوان العصرquot;... ومن المفيد أيضاً التنويه هنا إلى أن quot;اليفن المجيدquot; ndash; كما يصف نفسه في تلك السنوات - قد كتب في الأعوام الخمسة الأخيرة من ثمانينات القرن الماضي خمس قصائد جديدة، اختلفت محاورها وتنوعت بين دالية quot;عهد المروءةquot; في مناجاة براغ عام 1985، وميمية سياسية عام 1986، ودالية quot;عائليةquot; عام 1988، إضافة لرثائية quot;نبيهةquot; المؤثرة، والتي ألقاها في دمشق خلال تشييع مهيب لشقيقته الوحيدة عام 1987... ذلك فضلاً عن قصيدة quot;صاح قلها ولا تخفْquot; عام 1986، وقد جاءت عنيفة كما يبين عنوانها، وفيها أكثر من غضب شاعر وعتاب رمز، ومرارة انسان...
[email protected]