خرائط الروحraquo; ملحمة التاريخ الليبي الحديث ...

بقلم أحمد زين الدين

تبشّر رواية أحمد إبراهيم الفقيه الجديدة laquo;خرائط الروحraquo; (دار الخيال، 2007) بصفحاتها التي تقارب الألفي صفحة بولادة رواية ملحمية عربية، الى جانب laquo;الحرب والسلامraquo; و laquo;الدون الهادئraquo;، وغيرهما من الروايات العالمية. إذ تضيء بأحداثها العظمى والصغرى تاريخ الصراعات الدولية التي تتقاطع على الأرض الليبية وما جاورها، عشية الحرب الكونية الثانية. وتقذف هذه الصراعات بشخصية روائية إشكالية هي عثمان الشيخ، ليعاني ما يعانيه من أزمات روحية، وتقلبات في الظروف والأحوال، وتحولات واختبارات مصيرية، تجعل منه بطلاً تراجيدياً، يقارع الأقدار من دون جدوى، وينشد خلاصاً مستحيلاً. خلاصاً فردياً، لا يمكن أن ينفصل في أتون حرب ضروس على بلده، عن الخلاص الجماعي. ويمثل مسار عثمان الشيخ منذ مغادرته قريته منبوذاً، أو شبه منبوذ لفعلة شنيعة قام بها، الى عودته المظفرة الى بلدته laquo;أولاد الشيخraquo;، حاملاً رتبة عالية من الجيشين الإيطالي والانكليزي المحتلين، ثم قائداً لحركة المقاومة الشعبية، قبل أن يلقى حتفه. يمثل هذا التواشج الذي لا تنفصل عُراه بين مصير الفرد ومصير الجماعة. وهذه المحاولة المخفقة، التي حاول من خلالها البطل التراجيدي، أن ينسلخ عن بيئته وثقافته وتاريخ بلده القديم والحديث.
وفي أسلوب laquo;نيو كلاسيكيraquo; مستخدماً الضمائر المتعددة في بعض محاور الرواية، يضيء الفقيه الأحداث من زوايا رصد مختلفة، من دون أن يتخلى عن البؤرة السردية الأساسية التي تدور حول بطله عثمان الشيخ. لأن التماهي بين العام والخاص، يبلغ ذروته في حياة هذه الشخصية. فعثمان هو ضمير ليبيا، وسيرة عثمان ملتحمة بمسار التاريخ الليبي الحديث، وتداعياته السياسية والاجتماعية. والروائي الفقيه حاضر في هذه الرواية، لا عبر شخصيته، أو تدخله في مجريات الوقائع، إنما عبر ثقافته العميقة التي يمنحها لبطله عثمان القروي البسيط، الذي لا يتعدى تعليمه المتواضع ما حصله من قراءة وكتابة في بعض الكتاتيب، والتي لا تتلاءم مع ما يتحفنا به في الفصول الأولى من الرواية، من معلومات عن طرابلس في حلتها الإيطالية، على لسان من هو غريب عنها، فيتحدث عن هندستها المعمارية والجمالية، وآثارها التليدة، وعن التحديث والتقليد، وعن الإضافات واللمسات الفنية الإيطالية، وعن الفنون والمقاهي والأحياء الشعبية والراقية. وغير ذلك من أوصاف تشكل فضاء الرواية المكاني وتثريه، وتدل على عظمة طرابلس عهد ذاك، لكنها أوصاف تصدر عن الكاتب الملمّ، لا عن بطله المتواضع. وهذه الوقفات الوصفية تتعدد في معظم فصول الرواية، وتستهلك الصفحات الطوال، وعلى رغم غناها بالتفاصيل والمعطيات، إلا أنها تبطئ من انسيابية السرد المشوّق.
في laquo;خرائط الروحraquo; ينفض أحمد إبراهيم الفقيه غبار الإهمال والنسيان عن تاريخ ليبيا، ويقدم في هذه الرواية الملحمية سرداً تتزاحم فيه روح المؤرخ وروح الفنان، لينسج لنا تاريخاً انسانياً ووجدانياً حياً، في زمن الاحتكاك بين الحضارات والقوى والمصالح والأفكار، وهو احتكاك حوّل طرابلس آنذاك، الى مختبر عظيم للتيارات والمفاهيم كافة. حيث ظهر وجهها الكوزموبوليتي، الذي يقوم على وجود جاليات أجنبية من كل الأجناس والأعراق والثقافات والتقاليد والأذواق، تتعايش الى جانب أهل البلد، وتترسّب أو تتجاور فيها الطبقات الحضارية والتاريخية.
وهذا المزج عند الفقيه بين المهارة الروائية الدرامية، والمعطيات التاريخية التي تتجلى في معاينة ما يدور على أرض المعارك الحربية، في صحراء ليبيا وفي الحبشة وعلى الحدود. وما يُحاك في داخل القنصليات وبيوت الولاة والحكام الأجانب من دسائس. إنما تخدم أفكاراً عدة تنضح بها الرواية، أهمها أن مصير الإنسان، كما هو مصير الأمم تصنعه الحروب. فالحرب هي سُنّة من سُنن التحول في الدول والمجتمعات. ورحاها هي اختبار للقوة والإرادة وإثبات الذات.
صعوبة الخيارات
يمثل تاريخ عثمان المحارب رغماً عنه، في الجيش الإيطالي ثم الإنكليزي، موضوع الصراع بين القوي والضعيف، والتحام القضية العامة بالخاصة. ويعيد طرح معنى الولاء الوطني والخيانة، حيث الخيانة ليست خياراً حراً، في ظل هيمنة القوي على الضعيف. إنما ثمرة صراع مرير في داخل الإنسان. والكاتب هنا يعيد النظر بتاريخ الاستعمار، على غير ما درجت عليه الأدبيات السياسية الوطنية العربية، من تعارض مطلق بين الخير والشر. الخير الذي يمثله دائماً أبناء الوطن، والشر الذي يمثله المحتل. في حين أن مثل هذه الحدود غير موجودة في الواقع. إذ يذكر الفقيه في روايته أن بعض شعراء الوطنية القدامى من الليبيين، كانوا يكتبون قصائد التمجيد لحاكم ليبيا الإيطالي. ويذكر الى جانب الجنرال الفاشي جرسياني الطاغية المستبد، والنقيب توسلي، المارشال ايتالو بالبو، الحاكم المتنور والمتسامح الذي كان يرعى شؤون الليبيين، ويشيد لهم الصروح.
يتماهى عثمان في بعض مراحل حياته مع المحتل، وهو تماه يذكرنا به laquo;فرانز فانونraquo; باعتباره سلوكاً تعويضياً تتماثل فيه الضحية بجلادها، في ظروف القهر والاستعمار. وفي سعيه الى اكتساب نفوذ شخصي وهيبة اجتماعية، يبدأ عثمان خطوته الأولى في معسكر التدريب الإيطالي، حينما يؤدب المجندين من أبناء وطنه، نيابة عن الشاويش عنتر، ثم بالأصالة عن نفسه. ويترقى في عمله مع الزمن، ويخوض غمار حروب عدة في صفوف الإيطاليين والإنكليز، ليقوم أخيراً مقام رؤسائه الكبار في إدارة شؤون البلاد. إلا أن هذا الانزلاق الى حضن المحتلين يُرجعه الى ظروف قاهرة، تورّطه أكثر فأكثر في علاقته بهؤلاء. لكن بطل الرواية ينطلق في أساس تكوينه الشخصي، من رؤية تعتبر خلاصه الذاتي أولوية، بصرف النظر عن خلاص الجماعة. فعنوان حركته laquo;دع عقلك لا ينشغل بأي شيء آخر غير خلاصك الشخصيraquo;. وهي حركة نرصدها، لكن في ظروف أخرى، في روايات نجيب محفوظ، حيث تصبو بعض شخصياته الى الارتقاء الطبقي، والوصول الى الثروة والوجاهة، عبر التزلف والمداهنة، وعبر التخلي عن الكثير من المبادئ والقيم التي تربّت عليها. هل كان عثمان انتهازياً ووصولياً، أم كان واقعياً براغماتياً؟ هل كان مصيره محتوماً، أم هو الذي قاد نفسه الى ما كان يرتجيه ويتمناه؟ تلك هي الإشكالية التي تطرحها الرواية، فلا ندري إن كان ما يحدث لعثمان عن سابق تصور وتدبير، أم محض مصادفة غير منتظرة. أو إن كان منطقه الذي يقول انه يخدم بعلاقاته ونفوذه أبناء وطنه، ويعينهم بما مُنح من سلطة، على تجاوز ما يتعرضه من صعوبات وعوائق، منطقاً وطنياً واقعياً أم تسويغاً ذاتياً؟
ومن خلال كل هذه الإشكاليات يتمكّن الكاتب عبر سلوكية بطله وأفكاره، أن يطرح التساؤلات عن السياسة وعن المصير الإنساني. فالرواية بهذا المنظور اختبار حي لأفكار كثيرة تدور حول دلالة الوجود، وحول تجربة الصراع الدارويني من أجل البقاء، والعيش في الحروب على حافة الموت، وحول الحرية والعبودية، والقضاء والقدر، والتقدم والتأخر، وعلاقة الشرق بالغرب... وإعادة النظر في معنى الوطن والمواطنية في ظل العجز والخوف والجوع. وسوى ذلك من موضوعات يحرص الكاتب على تظهيرها، من خلال الأحداث وعلى ألسنة أبطاله العديدين.
في رواية laquo;خرائط الروحraquo; تتصاعد حركة الأحداث في مسار ينطلق من الداخل، الى خارج الحدود الليبية، الى مصر والحبشة. ومن العاصمة الى مناطق الصحراء، ومن الجبال والبحار الى الغابات والواحات. وتتشكل صورة بانورامية عن الحياة داخل الثكنات، وداخل السجون والقصور. وعن العادات والعقائد والأنظمة الاجتماعية، والتحولات في العمران والاقتصاد والسياسة. وعن اختلاف النظرة الى الموت والجنس والحرية والدين. وتعبّر هذه الحركة التي تتقاطع خطوطها وتتداخل عن انفتاح الفضاء السردي وتنوعه واتساعه، الذي يتفاعل معه بطل الرواية، ويكابد ما يكابده من مخاطر وصعوبات، لتصهره في أتون التجربة الإنسانية الشاقة، وتطهره من ذنوبه. وهذه حال البطل الإشكالي الذي يقف عادة، على مفترق صعب من الخيارات الملتبسة والمفارقات الحادة.
وفي فصل laquo;ميراناraquo; من الرواية ترسم الصحافية الهندية، سيرة عثمان لترسلها الى صحيفتها، بعد أن قُتل في غارة فرنسية، على إنها حياة صنعتها المعاناة، والعبور المضني من الشك الى الإيمان، ومن القلق الإنساني البسيط من أجل لقمة العيش، الى البحث الدؤوب عن معنى الحياة. شخصية ظلت حتى بعد موتها في سبيل الوطن، شخصية ملتبسة اختلف الناس في النظر اليها اختلافاً جوهرياً. فعثمان هو رجل المفارقات الصارخة، فقد انتقل من كونه وصولياً وماجناً ولاهياً، وصاحب فحولة خارقة، ومتعاملاً مع أعداء الوطن. الى معالج روحي وصاحب كرامات. ومن جندي ثم ضابط في جيش المحتل، الى مقاوم شريف يسعى الى دحر الأعداء والمحتلين.
المرأة المثال
وعلى عادة خليل الإمام بطل الفقيه في laquo;ثلاثيتهraquo;، تشكل مغامرات عثمان النسائية محوراً أساسياً في الرواية الجديدة، فتحيط به ثريا وحورية وفرنشيسكا ونورية وإيزابيلا وسارة وعايدة. وتحتل laquo;تيمةraquo; المرأة المثال مركز القلب. وهي هنا حورية وثريا. أما السنيورة حورية الليبية عشيقة حاكم البلاد الإيطالي المارشال ايتالو بالبو، فهي تتحول بين يدي عثمان الى هالة نورانية، حيث يترقى من وصف مفاتنها الأنثوية، وجموحه الإيروسي، الى حال من الإشراق والصفاء الروحيين. وتغدو الأمكنة التي يكون فيها مع المرأة، أمكنة أثيرية تتضافر فيها الأحاسيس مع الخيالات والمشاعر، لتشكل لوحة شاعرية، يتمازج فيها جمال المرأة بجمال الطبيعة (وصف فرنشيسكا وهي تستحم في الغابة الأثيوبية). وكل جسد أنثوي هو بين يدي عثمان، كما كان بين يدي خليل الإمام، في الثلاثية رعشة فردوسية. أما ثريا فهي الحبيبة الأولى. وهي الأيقونة التي يبهت بريقها مع الزمن، وتتداعى صورتها، بعد عودته من الحرب، وتتوارى في الظل، ليبقى طيفها ذكرى من ذكريات البطل المتكاثرة. كذلك تثير علاقته مع فرنشيسكا المراسلة الحربية الإيطالية مسألة فرويدية، هي الارتباط بين النزعة الجنسية والموت.
بيد أن المرأة ليست في laquo;خرائط الروحraquo; موضع الغُلمة ومثار الشهوة فحسب، إنما هي قضية تطرح مسألة التقدم الاجتماعي والفكري الذي تمثله في الرواية عايدة. إذ تربط تحرير المرأة من التقاليد البالية كشرط من شروط التحرر الوطني. كذلك لا يمثل طلب حورية الملحّ من عثمان أن تنجب منه طفلاً، التماساً للأمومة المنشودة عند كل أنثى، بقدر ما هو طلب للانتماء الى هذه الأرض، لتكون أماً مجبولة بتراب الوطن، وجزءاً من هويته الوطنية. في رواية الفقيه هذه، بل في معظم رواياته وأقاصيصه يحمل بطله اعجاباً بالتقدم التكنولوجي، والإنجازات العلمية. وهو يرجعهما الى الحضارة الغربية، التي تمثلها في الرواية إيطاليا، فقد جاء الإيطاليون بالطعام والدواء والتقدم الزراعي والطرق الحديثة. ولأنه يؤمن بدور العلم كرافعة للنهوض الاجتماعي. فإنه ينتقد اعتصام أهل بلده بالكتاتيب، بدل التعلم في المدارس الإيطالية الحديثة. وعلى رغم العمق الديني عند أبطال الرواية بمن فيهم عثمان نفسه، فهو يرى الى العقائد الشعبية الأسطورية والخيالية، والى التعازيم والرقى والشعوذات والكرامات والتنبؤات عاملاً من عوامل كبح العقل عن حل المعضلات الاجتماعية والسياسية، بالاعتماد على قانون الطبيعة وسنن الحياة. ويدعو الى الإصلاح السياسي والاجتماعي، والى التسامح الديني ووحدة الأديان التي تمثلها سارة اليهودية، التي يتعاقب الى الزواج منها، رجال من الديانات السماوية الثلاث، وتمارس طقوس هذه الديانات معاً من دون تفرقة أو إيثار. لا يرسم الكاتب في laquo;خرائطهraquo; خطأ مستقيماً ووحيداً للنفس البشرية، بل خطوطاً متعرجة ومتداخلة هي من طبيعة النفس وجوهرها. وبهذه الرؤية يشبه بطله عثمان كثيراً من الناس الذين يعانون صعوبة تحديد خياراتهم. ومن أجل هذا ربما احتل عثمان موقع النموذج والرمز في الرواية العربية الحديثة.