حسن ولد المختار

ولد امبرتو إيكو سنة 1932 في مدينة ألكساندريا، في شمال إيطاليا. وبعد دراسته الجامعية في الفلسفة، ناقش سنة 1954 أطروحته عن ''الأستطيقا عند توماس الأكويني''. وبعد ذلك دخل الحياة من بابها الواسع أستاذاً جامعياً، وصحفياً لامعاً في الوقت نفسه.

ما يميز أعمال امبرتو إيكو أساساً هو ازدحامها بعوالم قروسطية قديمة، فبعضها يقتحم دهاليز الأديرة، ويتلبَّس البحث عن الكتب السحرية ''اسم الوردة''، أو يرسم تجارب أطفال الشوارع في القرن الثاني عشر الميلادي (بودولينو). والبعض الآخر تنظير ودراسات نبيهة تنفش الخيوط المُعقدة التي تربط المؤلف بالنص المؤوَّل، أو تفضح مكائد وحِيل السرد مثل ''ست جولات في الغابة القصصية'' و''العمل المفتوح''. وفي كتابه ''التأويل بين السيميائيات والتفكيكية'' فصل طريف يعيد فيه أسس معظم أطروحات نظريات النص والتأويل المعاصرة إلى مدارس قديمة جداً كالهرمسية والغنوصية وغيرهما من المدارس التأويلية التي راجت في القرون الأولى للميلاد.

تكمن أهمية دراسات إيكو المتعلقة بهاتين المدرستين القديمتين اللتين شكلتا لحظة انحلال العقلانية اليونانية القديمة، واللتين راجتا في الإسكندرية وحران وإنطاكية، في القرنين الأول والثاني للميلاد، في أنها تكشف بعض الخلفيات الفكرية الأيديولوجية لنظريات يتعاطى معها كثيرون اليوم كما لو كانت رؤى محايدة، منهجية في ذاتها، في حين أن ثمة تاريخاً مفهومياً وتصورياً طويلاً وعريضاً يقف خلفها، ويرتبط في الغالب الأعم بالتاريخ الفكري والديني الغربي. وفي مقدمة تلك النظريات المنجز الغربي المعاصر المتعلق بنظريتي التأويل والاستقبال.

من أجل تأصيل طرحه حول مغامرة أو مجازفة التأويل يعود امبرتو إيكو مع تاريخ الأفكار إلى عصر البدايات والمدارس الفلسفية والتأويلية القديمة، فيقوم بعملية حفر جريئة في الفلسفة اليونانية القديمة وفي المدارس الهرمسية والغنوصية ليثبت أن معظم ما هو متداول الآن من مفاهيم بخصوص التأويل، والتأويل المضاعف للنُّصوص، إنما هو موجود بالقوة أو بالفعل في طرح تلك الفلسفات والعقائد القديمة؛ فكل نص، وبحسب التصوُّر الذي سعى لتأصيله، هو أفق مفتوح لجميع التأويلات على نحو يجعل الحدود غير واضحة تماماً بين كينونة النَّص/ النّاص، المؤوَّل/ المؤوِّل، لأن التأويلات تتعدَّد بتعدُّد المؤوِّلين، بل وتتغير بتغير المؤوِّل الواحد، وتتلوَّن بما يكون عليه من حال، وبحسب استراتيجيته القرائية وصيرورة ذاته ووعيه.

لكي يبرهن على أن ثمة جذوراً قديمة ـ هي الجذور الحقيقية ـ لكثير من طروحات آخر المدارس التأويلية، ينطلق إيكو من عرض لمفهوم التأويل اللامحدود عند المدرسة الهرمسية، التي تفتح أي نص أو أية حقيقة على مصراعيها لتقبل جميع التأويلات حتى أكثرها تناقضاً، وقد قضت بذلك شيئاً فشيئاً على أبسط مبادئ وبديهيات ومُسلَّمات المنطق كمبدأ الهوية، أو عدم التناقض أو الثالث المرفوع. تعتبر المدرسة الهرمسية قديماً مدرسة باطنية لأنها لا تشترك مع نفس الموسوعة المعرفية السائدة في المنطق نفسه ولا في اللغة نفسها، بل لقد أصبحت اللغة عندها (بقدر ما تكون غامضة ومتعددة، بقدر ما تكون غنية بالرموز والاستعدادات).

وهكذا فإن فكر هرمس ـ كما يلاحظ إيكو ـ يؤسس لمفارقة عجيبة فيما يتعلق بموقفه من اللغة والنصوص وتأويلهما، فهو يحوِّل العالم كله إلى مسرح لغوي، ظاهرة لسانية، وفي الوقت نفسه يحرم اللسان من أية سلطة إبلاغية محددة أو قاطعة.

إن المدرسة الهرمسية على رغم كونها تأويلية صرفة، وقديمة تعود للقرون الأولى للميلاد، إلا أنها أسست الإطار الذي نمت ضده طروحات العقلانية الحديثة، بل ''إن اللاعقلانية الهرمسية ستتأرجح، بدءاً من هذا التاريخ، بين الصوفيين والخيميائيين من جهة، وبين الشُّعراء والفلاسفة من جهة أخرى؛ من جوته إلى جيرار دونيرفال وبيترز، ومن شلينج إلى فرانز فون بادن، ومن هايدجر إلى يونج''. وأكثر من ذلك يذهب إيكو إلى أن ''الفكرة التي عبَّر عنها بول فاليري بقوله إنه لا وجود لمعنى حقيقي للنص، فكرة هرمسية''. لأن الهرمسية في مؤداها التأويلي، وفي رؤيتها للعالم باعتباره نصاً مفتوحاً، وللنص باعتباره عالماً مُشرعاً وأُفقاً لانهائياً، هي احتفاء مُطلق بلانهائية التأويل، فالنص واللغة والمتن المقروء، هي دائماً المكان الذي تتطابق فيه كل المتناقضات، ليختفي هو ذاته، (ومع ذلك فإن ما يشكِّل احتفاءً بتطابق المتناقضات هو نفسه ما يؤدي إلى انهيار مبدأ الهوية. فكل شيء مرتبط بغيره).

في الفترة الزمنية نفسها التي عرفت رواج الهرمسية، راجت الغنوصية أيضاً، وهي مدرسة باطنية تأويلية أيضاً، ولذا فهي تتعاطى مع إشكالية التأويل من منظور لا تفض فيه الاشتباك بين المؤوِّل والمؤوَّل، فتحت تأثير رؤى صاعقة، بلور إنسان القرن الثاني الميلادي وهو يتلمس طريقه في بحر من الظلمات، وعياً عصابياً يتعلَّق بدوره داخل عالم غير قابل للفهم. إن الحقيقة سر، ولن تجدي مساءلة الرموز والأحاجي للكشف عن الحقيقة النهائية، فذلك لن يؤدي إلا إلى تغير هذا السر من موقع إلى موقع آخر. فإذا كان هذا هو الشرط الإنساني، فإن هذا يعني أن العالم نتاج شيء ما، وسيكون التعبير الثقافي عن هذه الحالة هو الغنوصية.

إن الوعي حسب المدرسة الغنوصية قائم على الحدس، وقد سعى نقاد أدبيون كثيرون إلى التنبيه بأن المدرسة الرومانسية الحديثة تجد الكثير من طروحاتها في التصوُّر الغنوصي للعالم. بل لقد تمادى آخرون أكثر من ذلك ليردوا إليها بعض الطروحات الماركسية والنفسية التحليلية، وبطبيعة الحال السيميائية، وإن كانت هذه الأخيرة تبدو أكثر إقناعاً لما توليه لمفهوم (السر) الذي هو أحد أعمدة الغنوصية والهرمسية معاً، والذي بموجب ما توليانه إياه من أهمية اعتُبرتا مدرستين تأويليتين باطنيتين أصلاً، وذلك بتأكيدهما على أن السر يمنح من يمتلكه موقعاً استثنائياً. فالسر شبيه بجاذب مغناطيسي له محددات اجتماعية خاصة. إنه مستقل عن السياق الذي يعد هو حارسه. وتزداد فاعلية هذا السر كلما كان امتلاكه كلياً ونهائياً.

بصفة عامة، أراد امبرتو إيكو، أن يرد إلى الهرمسية والغنوصية والفلسفات القديمة معظم طروحات السيميولوجيا والتفكيك المعاصرين. فغاية نظريات التأويل، هي كل ما عبرت عنه تلك المدارس القديمة، كالقول إن النص بصفة عامة فضاء مفتوح، وبأن اللغة هي في جوهرها عجز عن الإمساك بأية دلالة، ومسرح صاخب وسوقي للمتناقضات. كما أن أي نصٍّ يدّعي قول شيء ما محدَّد وثابت المعنى موضوعياً، يُعلن في الواقع عن تناقضه وعن لاتساوقه، وذلك لأن القراءة والتأويل لا نهائيان، وفيهما تحل قصديَّة القارئ أو المؤوِّل محل قصديَّة الكاتب التي تستعصي على الضبط، ولحظتها سنصل إلى الحقيقة، حقيقة أن الكاتب لا يعرف ما يقوله، فاللغة هي التي تتحدث نيابة عنه.

وبذلك نتمكَّن من تحقيق أولى الإزاحات؛ إزاحة وصاية ''المؤلف'' وموته. أي موت ذلك الكائن الخفي المتسلِّط عبر الهالة الفوقية النَّصية فارضاً قصديته وتأويلاته على لانهائية المعنى والتأويل وثرائهما.