آمال نوار: كمرآة في ذهنها فحوى الحواس

نصر جميل شعث من غزة: بعيدًا عن الطوفان اليومي للنصوص والمجاميع الشعرية المكتوبة على إيقاع التساهل وسهولة النشر، وعلى وقع المقالات الصحفية المشاركة في تطبيع هول الرداءة؛ لعدم وعي الذهن بمبدأ المرآة، ولعدم التفريق بين الشعر وتفاصيل السطح التي قوّضت العبارةَ والهيبة في القصيدة؛ وبعيدًا عن تواطؤ النظرة المكبوتة مع بدعة الاستعراض الإيروتيكي المكتوبة، وما إلى هنالك من أضواء فجّة يَخجل منها مثالُ الضوء، ويخجل منها مُواطِنُ الظلّ.. بعيدًا عن كل ذلك، وقريبا من الذات في الظلّ الخلاق؛ تعود مواطنة الشعر، الشاعرة اللبناية آمال نوّار (المقيمة في أمريكا)، لتقدّم للمشهد الشعري العربي مجموعتها الشعرية الثانية الموسومة بعنوان: quot; نبيذها أزرق ويُؤنِسُ الزجاجquot;، (دار النهضة العربية، تموز 2007). وذلك بعد أن أصدرت في العام 2004 مجموعتها الأولى بعنوان: quot; تاج على الحافةquot; (دار الفارابي، 2004 ). حيث نرى مهارة آمال نوار الشعرية، خلال أنشطةِ الحواس والشعور المتلاحقة؛ على أنّ ما تتميز به قصائد نوار هو التؤدة، وامتلاكها قاموسًا من المفردات والتراكيب والاستعارات والصور الفريدة واللدنة المنحازة للرمل والحجر والصلصال، والموازنة بين الرومانسية والايروتيكية. بجماليات الانحياز والتوازن، هذه، تحتفظ، الشاعرة، بخصوصيتها، وتميّزها عمن حولها من quot;اللبواتquot; أو quot; اللمْباتquot; الإعلامية المبذولة في فضاء الورق والانترنت. وهو ما كانت عبّرت عنه نوار في أكثر من قصيدة، عن إيثار ذاتها الشرود إلى quot;الداخلquot;، والإقامة في quot;الظلquot;، فكلاهما مَعيْن وسَماء الموهبة. ولنستشهد، مثلا، بقصيدة quot;عربة وهمquot;، والتي فيها تقول نوار: quot; ما حاجتي للضوء/ حين يَجري فيّ النهر/ وعيني الغريقة في بطن عيني العميقة؟/ ذلك أنني كنتُ دنيا أضواء وأحلك/ أمشي وأنا شاردة خلف البابquot;.

نوار في غربة الظل:
إذن، تبتدىء الشاعرة نوار مجموعتها الجديدة بقصيدةٍ تحمل عنوان: quot;في غربة الظلquot;. وما بين عنوان المجموعة وعنوان القصيدة الأولى نَلحظ - عشية المضيّ في عالم الشاعرة- البنية الدلالية العامة للمجموعة، خلال هذا التقابل بين quot;غربةquot; كوضع وموضوع وجودي، وفعل المضارع quot;يُؤنِسُquot;. وكذلك بين quot;الظلّquot; كغموض وإيحاء، وquot;الزجاجquot; كشفافيةٍ بوصفه بيانـًا للون نبيذِ الشاربة الشاردة الغائبة، التي يَعْبر بها النبيذ الأزرق غاية الوصال؛ إذا ما علمنا أنه المبتدأ والفاعل، معًا، في عنوان المجموعة. ولكنه يؤنسُ الزجاجَ من الداخل. وهكذا، يؤهلنا وصفُ ما تقدم لقراءة نوّار في غربة الظلّ. فمنذ تلك القصيدة الأولى تراوح الشاعرة كتابة حَرَجها وحيرة إجابتها أمام برودة الليل وفراغ البئر، أي أمام سؤال النار وسؤال الماء. فتتساءل: quot; بأي حبر أدفّىء شعور الليل/ وبأي كلمة أصيب وتر البئر؟quot;. وتظهر حقيقة انفصال الزجاج عن الحلم عندما يُصاب الزجاج بالمؤثرات الخارجية، فيعيق ذلك وصالَ الرؤيةِ الحلمَ أو الرؤيا. لذا تعبيرًا عن خطورة الوضع الخارجي ترسم الشاعرة لها جسرًا، في الآفق، بين الهواء(القلق) وظلها(الوهم).. والنتيجة أنها ترى ذاتها في مرآة الغياب. ونرى، بدورنا، quot; امرأة الثلجquot; في مرآة الحضور، تكتب عنها امرأة ثالثة، بلغة حياد إيجابي، طالبة من الرائي النظر بظاهر العين وبطنها إلى الوضع والحال: quot; أنظر إليها في الصقيع/ كيف هي منغلقة على ذاتهاquot;. ولكن حالة الانغلاق، هذه، والتي تستند إليها شعرية المجموعة؛ لا تؤخذ بالمعنى الذي يعلّله علم النفس، بل بالمعنى الذاتي المنفتح على فلسفة الاتجاه للداخل. ذلك أنّ الأرض باردة، مثلما تصرخ الشاعرة بذلك، في قصيدةquot; شجرة أول الليل، وآخر البحرquot;، قائلة: quot; أنت باردة أيتها الأرض/ باردة/ حتى ولو اشتعل زيت بحارك/ في دم الحجرquot;.
وعليه، فقصائد الشاعرة هي وصال روحي، بطاقة إيروتيكية متحولة في العمق. فلا يَصعد الجسدِ لسطح لغة الاستعراض، ولا تظهر رموز الاتصال العضوي. وإنما هي طاقة صادرة عن نشوة، وعن حلم يسري في جسد الأنثى/ الكتابة؛ منشدًا لحظة الإفاضة العظيمة على برودة الأرض القاصرة عن التمرئي في مرآة الصفاء الذهني الصادر عَن ـ والمنعكس على ـ والخالق لـ ـ نشوة الحواس وجموحها وتماوجها وتمازجها في هدأة زرقة النبيذ المرئي كبيان كابٍ، للرائي، من خارج الزجاج. لذا، بقدر ما تبحر العبارة الشعرية في تحولات الإستعارات والصور، للعبير عن شهوة الجسد وحرارة الداخل، بقدر ما تشتهي الشاعرة الغموض كمتعة وكشكل من أشكال الوصال والحلول في العتمة والظلّ بوصفهما مَـعْقلي الحنان والحنين السرّيين:
quot;إذ غير متاع الظلمة
ماالذي يؤخذ إلى أحشاء البحر؟quot;

وهي بهذة الزرقة المظلمة ليست متشائمة، من الداخل، ولا قصيدتها مثقلة بالتراكيب المأساوية المدفوعة، بوقع الخارج مباشرة عليها، وإنما هي عاشقة وصال وحالمة. فهي ذي تقول: quot;بلؤلؤ أعمى لفرط أسراري أشتهي وصال كلماتكquot;؟! وهذا التكتم الداخلي على وصال الكلمات/الشعر بمكنون الأنوثة، إن هو إلا مواصلة نوار إعلاءَ غنائية الظلّ، في الوقت الذي تصل الآخر المطلق بالمخاطبة، وتجهر للقارىء بالشعر الجميل، حتى غدا الجهر أناها، وهي ظلها، في قصيدةquot; أغمض عليّ القلبquot;، التي تقول فيها: quot;كأنك الجهر وأنا الخفاء/ كأنك أنا، وأنا ظليquot;. وعلى طريق هذا التفاعل الشعري بين الأضداد، تمشي الأنوثة ذات التواضع الرومانسي وذات الكبرياء الشعري أمام الطبيعة؛ فنستمع في قصيدة: quot;العصفور الناسكquot; لهذه الغنائية الهادئة والصافية:
quot;أنا الأقلّ من خفقة عصفور،
والأضلّ من خيال ريشة،
والأرقّ من بصمة ضوء على المياهquot;.

كمرآة في ذهنها فحوى الحواس:
تستخدم الشاعرة نوار كلمة quot;ذهنquot; في ثمانية مواضع خلال قصائد المجموعة، وقد استدعت هذه الملاحظة تمريرَ اليدِ داخل السياق للمسِه ومعرفة أبعاد الكلمة؛ فكان معناها في كل مرّة يشير إلى صفاء القريحة وطراوة الغموض بالايروتيكا ونشوة المزاج. فضلا عن التمتع برؤية الإيروتيكيا خلال فنّ إضافة الشاعرة العناصر(كالماء) للذهن؛ لأجل إنتاج وتوليد جماليات الحرارة والنضج الجسدي الشعري ووصال الآخر، في الطرف البارد البعيد، بإشاعة غنائية الحبّ والصفاء المخلوقة من ثلاثية الماء والجمر والحليب: quot; من ذهن الماء تقطفني/ فاكهةَ جمر/ بفم فجّ يسكب حليبَه من عطشquot;. وهذه الفنون سوف تبدّد شعور الخوف من الماء، أثناء تحولات الجسد. فمن الخوف إلى اتقاد شهوة البحر في الرمل. وهذا الإقدام الايروتيكي يظل ما قادرًا على التمسك بذرائعه للنجاة، ووصْل برودة الأرض ويبابها بروح الغمام. إنها صلاة في الظلّ للسماويّ؛ لوصال الرمل وخلق الحبّ من الصلصال: quot;يا روح الحُبّ في الغمام/ صيّرْ الحُبّ من صلصالquot;، وهذا هو ما رفعته الشاعرة، في قصيدة quot; صلاة للحالم بجنية البحرquot; للسماء. وأما في قصيدة quot;على بعد شمسquot;، فقد كانت غنائية القدرة على خلق تحولات الكون بالطاقة الايروتيكية لدي شاعرة التراب هكذا: quot; ابتعد/ فأنا حين أشتهي البحر/ كل شيء يغدو رمليا فيّ/ كل شيء. إلى جانب ذلك، ثمة التذاذ بفنّ إيواء الحسي في الذهن وصدورِه عنه؛ أي الصفاءَ والجوهرَ والنشوة والمرآة.. فلتركيبة quot;ذهن الماءِquot; ايقاع الأنوثة التي: quot;مياهها صافية وثوبها يعكس الخريرquot;. كما يشير اسخدام الشاعرة المتكرر لكلمة quot;ذهنquot; إلى تشكيل ورسم وصقل الآنية والخارطة والمرآة، بفعل النبيذ الأزرق الكوني؛ إضافة لحرية المخيلة بشرودها وسياحتها، وسفر الذهن وحلوله في نبيذ الذات.. وفي امتداد زرقة البحار والمحيطات. أو نفاذه وحلوله في حجر قريب، وتحوّله من علانية الصفاءِ والشفافية في متناول الحواس، إلى الغموض والإقامة كجوهر، كسرّ، يغذّي مخيلة الحواس، كلما أغمض، على سره، وامّحى في الضوء، كـquot; يد محفوفة بالعشقquot;.. quot; كأنها آية رمل في كتاب الريح/ ولا يزيدها الضوء إلا إمحاءquot;.. حيث في قصيدة quot;في غربة الظلquot;: quot; بعيدة المراكب عن ذهن المياه/ وها الحجر يشع بعماء سرهquot;، وفي قصيدة quot;جوع بلا قرارquot;: quot;من ذهن شريد تدوم فيه الصيحاتquot;، في قصيدة quot;يد محفوفة بالعشقquot;:
quot;لمستكِ فضاء لا يُسبر باللمس
أراني وأسمعني وأشمني وأتذوقني
أنا القليلة فيها كطير
كذرة غبار
في ذهن الخارطةquot;

في قصيدة quot;غابة الرخامquot;:
quot;وحدي على أرصفتك يا روما
ثمرة نسيان
عظامك تَعصف بالذاكرة
وأنا حبر يمحي في ذهن الشطآنquot;

في قصيدة quot; لأنك قلبيquot;:
quot;من ينقب في الثلج
عن حُروقِ شمسٍ علقت
في ذهن الجرارquot;

وأخيرًا في قصيدةquot; أهزوجة خادمة في منام الجسدquot; تقول الشاعرة:
quot;متروكة كالأسى في البحر للصياد
كمرآة في ذهنها فحوى الحواس
وكنت لا أحدس ولا أستشف
لا أقتضب أو أكثف
لا أراود أو أستعافُ
متروكة في بعد يجهل أني فيه أجهل
أحيا بموات يقظتي
كخشخاش quot;عمر الخيامquot;: خادمة طيور
وجسدي يؤكل لفرط المنامquot;.
وبذا، فإنّ الغموض ليس موضوعًا مقصودًا في القصائد، بل هو نتاج خصيصة رفض العيش في الأضواء، وهو، تاليا، نتاج تزاحم أنشطة الحواس والشعور فيما بينها، تاركة الشاعرة لنا قصائد عالية الكثافة، تغمس ذهن القارىء بطراوة الغموض وتلفحه بفحوى الحواس. فيصبح الغموض كذات امتدادًا يفتح المدى على الاستقبال والتأويل، ومن طريق ذلك هوquot; وصال المسافاتquot;.. بالكلمات.