تُرى أكان هو الذي غمّس قامته في زماني الآفل؟، يوم كنتُ صبيّاً مسكوناً بالعنفوان، ملتفاً بجمرات جنوني، أتذكّر حتى الآن أن ما رأيته هو نفسه، تعرفته معرفة عابرة أيامَ كنتُ أمرّ أمام دكانه الصغير أشبه بملاك آيبٍ من طيوف الأساطيروهو يتربع فوق كرسي غير عادي، وعرفتُ أيضاً أن بيته يقع في نهاية زقاقنا، يمرّ أمام بيتنا مرتين في اليوم، صباحاً لايسترعي وجوده أحداً وهو يغادر الزقاق الى السوق، فألناس ما زالوا في بيوتهم، لكن آوانَ عوده مساءً يكون مهرجاناً للعيون المشاكسة. تخالسه النظر بإعجاب وحسد، يمرّ أمام أعين النسوة الجالسات عند فوهات البيوت. اللائي يرمين كلّ غاد وآيب بسهام الغيرة والفضول، يمرّ رصيناً هادئاً عالي الجناب بقامته المربوعة كما لو كان أحد شخوص مسرحية يوليوس قيصر، بشرة بيضاء مشوبة بالحمرة داخل جلباب حريري ابيض، لافاً رأسه بغترة بيضاء، يمرّ دائماً حاملاً فاكهة في منديل أبيض، فيما كان أولاده يُرون أثناء النهار حاملين سلالاً من الخضار واللحم والخبز، أحدى إبنتيه متزوجة من عسكري عجوز، والأُخرى لم تزل عانساً، تقوم مع أمها بشؤون البيت.
الجاووش سميع، هكذا ينادونه، مهيب، بهي الطلعة، يحمل وجهه المدوّر عينين سوداوين نسريتين ذواتي رموش طويلة، وأنفه جميل، وفمه ذو شفتين ممتلئتين، وياخته مفتوحة دائماً في الصيف يتدفق عبرها صدره الواسع الممتليء بالشعر، يداه ضخمتان تحمل يسراهما ساعة ذهبية، كما ينطوي أحد أصابعه على خاتم ذهبي كبير. ينتعل نعلين من الكتان الأبيض. ان عوده مساءً فرصة غير عادية تتلهف لرؤيته نساء الزقاق، عشرات العيون ترنو اليه بإعجاب وشوق، كان يمرّ بين سهام من النظرات النهمة هادئاً صامتاً من دون أن يرفع بصره تجاههن، أو ينبس بكلمة، الا أنه حين يلتقي رجلاً من المحلة يسبقه الى السلام عليه. هوأشبهُ بغريب كما لو جاء من مجرة سحيقة، فلم يحضر أية مناسبة من مناسباتهم، ما عدا مجالس الفاتحة، ولا قام بزيارة أحد، ولم يزره أحد، كان يسكن مع عائلته المكوّنة من اربعة بنين وبنت وزوجته في بيت حجري كبير مميّز عن سائر بيوت المحلة، أمّا إبنته المتزوجة فقد كانت تزورهم أيام الجمع، وهي وحدَها من دون أفراد العائلة تقيم علاقات مع أهل الزقاق، حتى أنها كانت تزورنا أحياناً، وكان الى جوارهم بيت ذو باب واسع مفتوح طوال النهار، ينطوي على غرف مبعثرة وفناء كبير يضمّ عدداً من النساء يرتدين ثياباً سوداء، ومن بينهن واحدة بيضاء طويلة ذات عينين بلون العسل الأصفر، إنها هي ذاتها جاءت من متون بدايات القرن العشرين، من وهج إحدى لوحات كاندنسكي الروسي، كنتُ أجلس ساعات طويلة قبالة ذلك الباب المفتوح إبان النهار، أتكيء الى الجدار الخشن، أتطلع الى قامة بدرية، كانت أخواتها أكثر بدانة منها، كنّ جميعاً بيضاوات عيونهن ملونة يتحركن بين سرب من الدجاج والجرار والغنم والأبقار وبراميل المياه والأطفال، وأحياناً خارجات الى بيوت الجيران أوالى السوق أو عائدات الى البيت. كانت فتاة كاندنسكي quot;بدريةquot; تتطلع اليّ وتبتسم ولسان حالها يسألني: الا تتعب من الجلوس والنظر اليّ؟. كانت في العشرين من عمرها وأنا في العاشرة أعشقها، وأملأ قلبي بمرآها، وأحملها معي الى فراشي الفقير، هذه العروسة الآيبة من مدائن الثلج والشجر والأنهار، وجهها منوّر أبهى من القمر، متينة البنية، كنتُ طيلة جلوسي امام بابهم أستغرق في أحلام تلد أحلاماً. أراهاً كتلة من النشاط تلوب مع أخواتها الخمس وأولادهن خلل فضاء الفناء الفسيح، كان بيتهم ملاصقاً لبيت الجاووش، لكن شتان ما بين البيتين، بيت سمين أشبه بقلعة وبيت معشوقتي واطيء الجدار، فناؤه مترب، بدرية وحدها من بين أخواتها لم تتزوج ْبعد، تمنيتُ لو كنتُ أكبر من عمري بعشر سنوات، ولي عمل ومورد رزق، عندئذ أطرق الباب على أهلها، أخبرهم: أني آت لأخطبها وأتزوجها، وأُريد أن أضمّ اليّ هذا الجسد البدري، وأتدثر بهلام روحها الثلجي الذي استطعت رؤية كلّ تفاصيلها، الا أن quot;خليلquot; أكبر أبناء الجاووش حظي بها وتزوجها، إنه يساعد أباه قي شؤون دكانه المخصص لبيع التبغ والسيجاير، كان شاباً غامضاً لا يُرى الا قليلاً، طويل نحيف، يعمل في غرفة معزولة تابعة للدكان، فيما يتربع أبوه وسط دكانه على كرسي عال أشبه بملاك، ويحترمه أهلُ السوق جميعاً.
في أحد الأماسي، وقبيل مغيب الشمس، كنتُ أجلس أمام بابنا، وقبالتنا باب جارتنا العجوز حمدية، أرملة طاعنة في السن تتجنبها كلّ نساء المحلة، تقوم برعايتها إمرأة قريبة لها أصغر منها سناً مع إبنتها الشابةquot;زهاوquot; وجه حمدية يزدحم بالغصون والحفر طولاً وعرضاً، فمها أدرد، بيد أن لها عينين شيطانيتين تُذيبان الصخر، تخافهما كلّ نسوة المحلة، كان بوسعها، هكذا يقلنَ، أن تصيب أيّ إنسان بنظرة خاطفة. حمدية العجوز تجلس قبالتي أمام بابها المقابل لبابنا، ترمي نظراتها النارية على القادمين والمغادرين، فجأة ظهر الجاووش عند رأس الزقاق، وجعل يتقدم نحونا مثل بجعة كبيرة، فأنار زقاقنا الفقير بطلعته البهية، وطارت تجاهه أنظار النسوة ومن بينهن نظرات حمدية الراجمة، مرّ امامي غيمة بيضاء، رماني بإبتسامة أبوية عذبة، الا أنه تعثربعد قليل وهوى أرضاً، فأسرعت نحوه ممسكاً بيده أُعينه على النهوض، حاملاً منديله المليْ بالعنب الأصفر، شكرني بهمس وخجل، وتمتم بمحبة ولا مبالاة: بسيطة، لم اُصبْ بأذى، فيما تعالت همسات النسوة: لقد أصابته عيناها. حين أمسكت بيده شعرت بضخامة قبضته، وقف ينفض عن ثوبه الحرير التراب،كنتُ لا أزال أحمل منديله المليء بالعنب، تناوله مني وربت على رأسي هامساً: أنت فتى طيّب سلم على محمد، يقصد أبي، بعد قليل قال: أشعر بدوار وتعب، سألته إن كان يرغب في مرافقته الى البيت وحمل منديل العنب، الا أنه رفع يده وشكرني، وتابع بقية الطريق الى بيته في نهاية الزقاق. لم أستطع أن أخبره أن عيني حمدية هما السبب، لقد أصابتك بالحسد، واسقطتك بنظراتها الشيطانية.. كنتُ أراه دائماً داخل إطار دكانه مهيباً جليلاً يلبي حاجات زبائنه بالكلمة الطيبة وبلباقة، أمّا أبناؤه فكانوا مجموعة من الفاشلين في الدراسة، أكبرُ أبنائه خليل، الذي تزوّج حلمي الجميل، حلم الكبار والصغار من أهل المحلة. وإبنه الأصغر منه عبثي ضائع يعتلي طيلة النهار دراجة نارية، ويحمل طيَ ثيابه مسدساً، كان يسيح في الشوارع وحسب، أخبرني أخي أنه يعمل مخبراً في الشرطة. أمّا ولداه الآخران فلا يظهران في المحلة الا نادراً، ليس لهما أصدقاء , حين هوى الجاووش على وجهه في ذلك المساء كنا في منتصف شهر يوليو، ننام على السطوح، أمضي جل ليلي ناظراً الى القمر، أو أستقدم صور أصدقائي أتحاور معهم، احياناً أحمل الى فراشي صور بنات المحلة. كان وجهُ بدرية يتقدّم كل الوجوه، بل كنتُ أحياناً أقرأ كتاباً في ضوء القمر الساطع، وفي الليلة التي أعقبت ذلك المساء نمتُ متأخراً، الا أني صحوتُ فجراً على دوّي سبع إطلاقات هزّ أركان السكون، بعد ذلك تصاعد اللغط والصياح، ثمّ همد، صباحاً إنتشر الخبر: لقد أُغتيل الجاووش على سطح منزله وبين عياله، بسرعة حملتني قدماي تُجاه بيته ولجته، صعدتُ مع آخرين من أهل المحلة الى السطح، كان نائماً على ظهره وصدره وبطنه مكشوفان وفيهما بضعة ثقوب خالية من الدم، وتدفق من خلالها شحم أبيض، كان موته أشبه بنوم طفل، وتساءلتُ: أين كان أولاده، ولا سيما ذلك الشقي صاحب المسدس، لم َلم يردّوا على القاتل الذي أمطره بسبع رصاصات قاتلات؟. واختفي في أحشاء الظلمة، وآلمني موته وقد أمسكتُ بيده مساء أمس وأعنته على النهوض، وسرت في المحلة إشاعة لا عن السبب الذي دفع القاتل الى إرتكاب الجريمة، بل أن حمدية العجوز رمته بصاعقة الحسد وأودت بحياته، منذئذ كان الناس يقرؤون سورة الفلق عندما يمرّون أمام بابها وهي تصلي السابلة بوابل نظراتها النارية. حضرت الى مجلس الفاتحة على روحه مع أبي في المسجد القريب من بيتنا، وكانت باحة بيت بدرية مزدحمة بالقدور على أثاف سوداء، كانت النسوة يطبخن الطعام لمن يحضرون الى مجلس العزاء، ولا بدّ أن يتعشوا بعد صلاة العشاء. غبئذ ٍإنتشرت خيوط من الإشاعات حول مقتله، قيل: إن ثمة أناساً سبّب الجاووش في إعدامهم يوم كان في مسلك الشرطة، كان المجرمون يهابونه، وأمهلوه فترة ثم ثأروا منه. لكنْ لمَ لمْ يُقتلْ داخل دكانه؟. وقالوا أيضاً: إنه تزوج سرّاً من إمرأة باهرة الجمال، أغراها بالمال والهدايا وانفصلت عن زوجها، كان يُمضي بعض أوقاته معها، وأحياناً شطراً من الليل، وتوعده زوجها وأهله وأغتالوه. وذهب آخرون الى أن بدرية كانت السبب، فهذه العروسة القمرية الطلعة مخطوبة، قبل زواجها من خليل، لإبن عمها، وأغرى الجاووش أهلها بالمال والذهب، ودبر هذه الزيجة، لذلك ثأر أبناء عمومتها منه. وذهبت إشاعة أُخرى الى أن مزايدة جرت حول كميات من التبغ في دائرة الجمارك ودفع الرجلُ ضعف ما دفعه تجارٌ آخرون، وحظي بشرائها، وانتقموا منه. كما سرت إشاعة أُخرى لاكتها الألسن وهي أنه كانت على غلاقة براقصة تعمل في ملهى المدينة فوعدها بالزواج ثمّ أخلف الوعد، فأوعزت الى بعض الشقاة للإنتقام منه، وهكذا إشتبكت خيوط عدة حول مقتله، وبالغت الإشاعات فى تلطيخ سمعة هذا الملاك الذي كان يظهر مرتين كلّ يوم في زقاقنا. أمّا موته بسبب عيني حمدية العجوز الناريتين ورميها إياه بسهام الحسد فقد نسيه الناس، لم أُصدّق أبداً أن رجلاً مثله يموت مثل هذه الميتة، ملقى ً فوق فراشه وفي بطنه وصدره سبع زنبقات بيض. وقيل إن القاتل تسلق جدار بيت أهل بدرية ومن ثمّ قفز الى سطح داره، وكان على معرفة بتفصيلات السطح والبيت، ربما كان أحدهم ينتظره في باحة الدار ففتح الباب وهيأ له الفرار. بعد شهر طلق خليلٌ بدرية َ، وتزوجت من ابن عمها تاركة لخليل إبنة جميلة إسمها نجمة.
ذي هي تجيئني من مبتدأ خمسينيات القرن العشرين الى نهاية ستينياتي بوجهها القمحي العسجدي المأهول بالشوق، وتقطع كلّ هذا المدى الشاسع لألتقيها وتلتقيني، وتذكرّني بهذا الرجل الذي حظي بإعجابي ومحبتي، وتحشر قامتها في تفاصيل حياتي الساكنة، ترمي فيها جمرة تربك نسيجها، وتخلخل توازني وأتساءل: تُرى لمَ جاءتني من هذا البعد الزمني وتوغلت في حاضري الساخن، لتضرم فيه حريقاً؟ يبدو أن الذاكرة تستقدم مخزونها أنى تشاء، وهي كالزئبق مراوغة لا يُمكن الإمساك بها.