ترجمة وتقديم زعيم الطائي: اتخذت هذه القصة تفسيرات عديدة لدى معظم النقاد كغيرها من قصص كافكا، فمنهم من فسرها بالعلاقة الألهية مع البشر، أو مع الكنيسة، التي مغزاها أن الأنسان قد ألقي دون عدل في وضع مضطرب بمواجهة قوى ليست له القدرة على مجابهتها أو التصدي لها، فقد أعتبر تزفيتان تيودوروف أدب كافكا أدباً ميثولوجياً، ومنهم من أعطاها ملامح العلاقة القاسية مع الأب الذي نشأت منه معاناة كافكا في صغره وحياته في الجيتو، مقاطعة بوهيميا، النمسا، بمرافقة مرضه الصدري، الذي قضى عليه شاباً 1924، بعد معاناة قاسية من الفقر والمرض أثر عودته من خطوط القتال وأشتراكه في الحرب العالمية الأولى.. لم ينشر كافكا أياُ من كتاباته بعد تجربة قاسية وفاشلة في نشر عمله الأول، سلمها الى صديقه ماكس برود طالباً منه أحراقها بعد وفاته، وكانت خمس روايات تركت تغيراً كبيراً في الرواية العالمية، هي المحاكمة، القصر، سور الصين العظيم، أمريكا، والتحول أو المسخ. مع مجموعة من القصص القصيرة نشرت بعنوان مستعمرة العقاب، والتي أخترنا منها هذه القصة. الغريب أن نبوءة كافكا قد تحققت بعد وفاته ففي عام 1938 وجدت الأمبراطورية النمساوية نفسها ذات صباح وقد ضمها هتلر الى بلده دون حرب.
***

يبدو كما لو أن تقصيراً واضحاً في قد حدث في خطوط نظام قطرنا الدفاعية، لم يكن أحد منا يوليه أهتماماً حتى هذه اللحظات، بعد أن شغلنا بأعمالنا اليومية، لكن بعض الأشياء التي أخذت تحدث منذ عهد قريب، بدأت تثير في نفوسنا القلق.
أمتلك محلاً لترقيع الأحذية القديمة يقع وسط الساحة المقابلة لقصر الأمبراطور، قلما أخفض المظلة الخارجية للمحل، حين لمحت على أول خيط من ضياء الفجر، مجاميع من الجند قد أتخذت لها مراكز منذ الليل عند فتحات الشوارع المؤدية الى الساحة، لكن هؤلاء الجنود لم يكونوا جنودنا، وكان واضحاً أنهم من بدو الشمال، بشكل ما لم يكن مفهوماً لدي أن أقتحامهم العاصمة فيه خير لنا، سيما وأن ما يفصلنا عن الحدود مسافات طويلة، على أية حال فقد أتوا، وتعودنا أن نرى أعدادهم في أزدياد صبيحة كل يوم.
وتماشياً مع طباعهم، راحوا يعسكرون تحت السماء المفتوحة، كما تعودوا أن يفعلوا في مساكنهم الكريهة، كانوا يشغلون أنفسهم طوال الوقت بشحذ السيوف، وتلميع النبال، وتدريبات الفروسية، حتى حولوا الساحة الآمنة التي كنا نحافظ على نظافتها دائماً بشكل دقيق، أصطبلاً بمعنى الكلمة. حاولنا مراراً نقل دكاكيننا الى أمكنة أخرى أو على الأقل نقوم بتنظيفها من الأقذار التي لحقت بها، لكننا لم نفلح الا لمرات قليلة، فالعاملين أختفوا ولم تجدِ محاولاتنا القليلة في ذلك نفعاً، أضافة الى تعرضنا ماأن تقترب للخطر تحت سنابك الخيل أوالوقوع فريسة لجلد السياط.
كان فتح حوار أو التحدث مع الغزاة مستحيلاً، فلم يكن أحد منهم يفهم لغتنا، وبينما كانت لديهم في الحقيقة لغتهم، كانوا يتبادلون بالكاد الكلمات فيما بينهم، لكن تواصلهم مع بعضهم البعض يشبه تجمعات زيغان الحقول، فزعيقهم كان يملأ آذاننا كما تفعل الزيغان. لاسيما أن طريقتنا في العيش وتقاليدنا كانت عصية على مداركهم جداً، وحتى لو فهموها فلن يعبأوا لها، ولم تكن لديهم رغبة في أستشعار علاماتنا اللغوية. تستطيع أن تومئ بلوي فكيك وتحريك رسغيك، لكنهم لايفهمون ولن يفهموا أبداً. يأتون أحياناً بحركات مثل شد الوجه، أو يقلبون محاجر أعينهم فتمتلئ شفاههم بالزبد، لكنهم لايقصدون بذلك شيئاً، حتى ولا التهديد، أنهم يفعلون ذلك فقط كطبيعة لديهم، فكلما أحتاجوا الى شيء أستحوذوا عليه بيسر، لكن ليس بأمكانك أن تدعو ذلك أغتصاباً، فحالما يمسكون بأيديهم شيئاً، عليك بسهولة أن تنأى بنفسك جانباً لتتركه لهم. من دكاني، أيضاً، أخذوا عدة أشياء ذات قيمة، ولم يكن بوسعي أن أشكو، وأنا أشاهد ماعاناه جاري القصاب عبر الشارع عندما جلب لحوماً أنتزعوها منه كلها، ومضوا وهم يلتهمونها، فحتى خيولهم تزدرد اللحم. وعادة مانراهم مضطجعين مع خيولهم على جوانب الطرقات، يقضمون الشيء نفسه، بالأشتراك مع أحصنتهم. كلهم بلا أستثناء. مرة أستثار القصاب غضباً ولم يأبه للتوقف بطلبيته من اللحوم، نحن من جانبنا، فهمنا مبعث هذا التصرف، ومن جانبه عرض مالاً بغية المرور، لكن أذا لم يحصل البدو على لحمهم، فمن يعرف ماسيحصل؟ ومالذي يتوقعه المرء وكيف يفكرون؟ حتى وأنهم قد أمنوا حصولهم على اللحم بالرغم من ذلك، في كل يوم؟
بعد فترة قصيرة، كان القصاب يفكرعلى الأقل أبعاد نفسه عن مشاكل الجزارة، لذا جلب ذات صباح ثوراً حياً، لكنه لم يجرؤ على فعلها ثانية، كنت مضطجعاً على الأرضية لساعة في خلفية الدكان، فلففت رأسي بكل ماتيسر لدي من ألبسة وخرق ووسائد لكي أتحاشى صوت الخوار المنطلق من الثور، وقد وثب عليه البدو من كل الجوانب، وهم يمزقون لحمه الحي إرباً إرباً بين أسنانهم. بعد مرور وقت ساد فيه الصمت، خاطرت بالخروج لأستطلع الأمر، فوجدتهم منبطحين بنشوة حول بقايا جثة الحيوان، كما يتحلق الشاربين حول دن الخمرة.
تلك كانت مناسبة لن تضاهى حين حضيت برؤية أمبراطورنا، شاهدته في الحقيقة خلال أحد شبابيك القصر، فعادة لم يكن يدنو من تلك الغرف الخارجية، وكان يقضي أغلب أوقاته في حديقة القصر المخفية. أخيرا، توقف في هذه الفرصة، أو هكذا تراءى لي من أحدى النوافذ، حانياً رأسه وهو يرقب مايحصل أمام قصره.
(ترى مالذي سيحصل بعد ذلك؟) كلنا طرحنا السؤال على أنفسنا، وكم سنحتمل وزر هذا العذاب؟ فقد أجتذب القصر الأمبراطوري البدو اليه دون أن يعرف كيفية قيادتهم أو ابعادهم ثانية. كانت البوابة ماتزال مغلقة، والحراس الذين كنا نراهم يروحون ويجيؤون في عروضهم العسكرية والرسمية، تخاذلوا خلف النوافذ المشبكة، فلم يبق لحماية وطننا سوى الباعة وأرباب الحرف، لكننا في الحقيقة لسنا أكفاء لهذه المهمة، ولا ندعي أنها ملائمة لنا، وهذا نوع من سوء الفهم، الذي سيتسبب لنا بالخراب.