منير بولعيشمن طنجة: نور الدين الزاهي (الدار البيضاء 1952) واحد من أهم الباحثين المغاربة في المجالين السوسيولوجي و الأنثربولوجي له العديد من الإصدارات (الفلسفة و اليومي ـ الزاوية و الحزب ـ المقدس الإسلامي) بالإضافة إلى بعض المؤلفات المشتركة مع باحثين آخرين و كتابه الصادر مؤخرا عن دفاتر وجهة نظر في128صفحة من القطع الصغير و المقسم إلى خمسة فصول أساسية: (حركية الصلحاء ـ الصالح أو الشيخ المفوض بطريقة رمزية ـ الصالح و السلطان السياسي ــ إسلام الزوايا أو الإسلام السياسي ــ البنية التنظيمية للزاوية أو طرق تصريف المعتقد داخل المجتمع) هو كتاب يعمل و بكثير من الدقة و الجهد الأكاديمي على الإقتراب من عالم الزوايا الدينية في المغرب انطلاقا من القرن السادس عشر و محاولة تفكيك بنياتها التنظيمية و آليات اشتغالها الداخلية وكشف علاقاتها السرية و الواضحة مع السلطان السياسي.


حركية الصلحاء:

استهل الباحث نور الدين الزاهي الفصل الأول بتحديد الحقل الدلالي للصلاح باعتباره مقابلا لصلاح الخلق و هذا المقابل الدلالي يحمل ضمنيا فكرة بروز الصالح باعتباره رهينا بوضعية الفساد بلغة الصلحاء أو بوضعية الأزمة بالإصطلاح المعاصر، و بمعنى آخر يعتبر الفساد في المجتمع شرطا مؤطرا لنشأة حركية الصلحاء ذلك أن الصالح لا يمكن له أن يجسد طبيعته الصلاحية إلا ضمن وضعية فاسدة، و قد عرف المغرب في القرن السادس عشر نضج بعض الشروط التي يمكن اعتبارها شروطا مؤطرة لحركية الصلحاء و تتمثل في الصراعات السياسية بين المرينيين و الوطاسيين و تهديدات الأتراك العثمانيين المتواجدين بالجزائر و سقوط الكثير من الشواطئ المغربية تحت قبضة الإحتلال البرتغالي و توالي سنوات الجفاف و المجاعة و التطاحن حول الأرض و الطرق التجارية بالإضافة إلى تعامل بعض القبائل القريبة من المدن الساحلية مع الإستعمار البرتغالي.
بعدها انتقل الباحث لتحديد الفوارق بين ما يسميه بالصلحاء و بين المصلحين فيرى أن الإختلافات بين الأول و الثاني اختلافات في الأشكال التاريخية التي اتخذها كل واحد منهما، حيث اتخذ الإصلاح عند الصلحاء وجها دينيا تمثل في منح الدين موقعا أساسيا في بنية المجتمع السياسي كما أن الوجه الديني للإصلاح برز أيضا في المجتمع المدني حيث أصبح الدين ممحورا حول مرحلة الإسلام الأولى و المتمثلة في مرحلة النبي التي أصبحت العودة إليها مصدرا أساسيا لشرعية الخطاب الديني و هو ما أحدث تحولات في المجتمع المغربي كما أن الأوجه الأخرى لعملية الإصلاح التي قادها الصلحاء خاصة على المستوى الإيديولوجي تتمظهر في عملية إحياء جديدة للتراث الموحدي و بالضبط لتراث المؤسس محمد بن تومرت باعتباره كان محطة أساسية في تاريخ الإرتباط بالنبي و هو ما سيتم استثماره من طرف الصلحاء قصد تمييز الشرف بجعله مجالا عاما و ذلك بفتحه على آفاق فكرية مختلفة كالمتصوفة و المهدوية و التراث الموحدي، و يعتبر الباحث أن الإلتقاء بين المجال الشريف و الصلاحي لم يكن التقاء اعتباطيا لأنه جاء كاختيار واع بأهمية المنطقة على المستوى الإيديولوجي و أهمية استثمار الصلاح من أجل تأسيس سلطان سياسي جديد لكنه يخلص إلى أن سبب توقف هذا التلاحم بين الشرفاء و الصلحاء يعود إلى أن الإندماج الذي تم تحقيقه بين الشرفاء و الصلحاء لم يكن مرتكزا على الدين و الجهاد فقط، إذ أن هذا التقارب كانت له أهداف و غايات سياسية و اقتصادية فرضت تطبيق مبدأ الضرورة باعتباره منطق الحاجيات المادية ـ الواقعية و السياسية للدولة الصاعدة و بالتالي خضوع الصلحاء للأمر الواقع و اكتفائهم بخدمة السلطان السياسي.

الصالح أو الشيخ المفوض بطريقة رمزية:

أما في الفصل الثاني من هذا الكتاب فقد ناقش فيه الباحث موقع الصالح في النسق الإيديولوجي الديني باعتباره مصلحا دينيا و اجتماعيا و سياسيا و حيث يرى أن أي تدخل للصالح في الحقل الديني قصد إصلاح وضعية (الفساد) سيتخذ بالضرورة طابعه السياسي و الإجتماعي على اعتبار أن البنية الثقافية الإسلامية تعرف هذا التداخل و الترابط بين هاته المستويات و هو ما يجعل مهمته تتحدد في الحفاظ على توازن الجماعة عبر الرأي السلمي المستند على طبيعته كرجل صالح.
بعدها سينتقل نور الدين الزاهي للحديث عن الخصائص التي تميز الحقل الديني الإسلامي عن الحقل الديني المسيحي و اليهودي و التي تتمثل في وحدانية الله و غياب الوساطة و التفويض و هو ما يؤدي بالضرورة إلى أن يحتل القائد السياسي للأمة موقعا سياسيا لأنه يوحد العلاقة الأفقية بين أفراد الأمة و موقعا دينيا لأنه يجسد و يطبق و يسهر على سلامة وديمومة العلاقة العمودية بين الفرد و الله مما يلغي عن أفراد الأمة أية شرعية دينية لمنافسة الخليفة و السلطان.
أما بخصوص نجاح عمل الصالح الميداني فهو يعود بحسب الكاتب إلى ارتباطه الكبير مع خصوصية و تميز المجال الذي يتجذر فيه و أيضا لطبيعته الكاريزمائية التي يتمتع بها هذا الصالح و هو ما يعطيه نوعا من السلطة التي يمارسها على الآخرين، و التي تتجلى بصفة خاصة في الحظوة و التكريم الذين يحاط بهما من طرف جماعته و حتى من طرف الجماعات الأخرى و هو ما يسهل عليه من جذب الناس إليه و التفافهم حوله و بالتالي تحويل هذه المكاسب إلى مؤسسة دينية تتمثل في: (الزاوية)

الصالح والسلطان السياسي:

و فيما يتعلق بالفصل الثالث فقد بحث فيه نور الدين الزاهي العلاقة التي تحكم الصالح بالسلطان حيث لاحظ أنه و نظرا لسلطته المؤسسة على طابعه الكاريزماتي و لطبيعته كمفوض من غير مفوض رسمي تطرح على الصالح مشكلة نوعية العلاقة التي يجب أن يرسيها مع السلطان السياسي، لأنه و كما يرى فإن الصالح لا يعيش تحت ظل إلزامات محددة واضحة من طرف هذا السلطان الذي عمل الصلحاء بنفسهم على خلقه و ترسيخ حكمه.
بعدها بحث الكاتب في أشكال التأسيس الإيديولوجي و ما ارتبط به، حيث وجد أن لحظات التأسيس السياسي كانت دائما ما ترافق بأشكال تأسيسية رمزية تعكسها بعض الكرامات بما لها من أهمية كعنصر مكون للبنية المعرفية و الرمزية للمجتمع لذا كانت الكرامات مصاحبة لتأسيس أي سلطان سياسي جديد يستنجد هو الآخر بقوى قدسية/إلهية تمكنه من توحيد كل الفئات الإجتماعية و تحقق له القبول من طرف الجميع، لذا يرى الباحث في آخر هذا الفصل أن كرامات الصلحاء و ضمن هذا الإطار هي شكل تعبيري تراجيدي عن تناقضهم الداخلي البنيوي و بصياغة أخرى و وفق تعبيره (إنه شكل تعبيري عن نهاية تراجيدية) رغم أن هذه النهاية التراجيدية ستجد في الزوايا شكلا تأسيسيا جديدا و فاعلا.

إسلام الزوايا أو الإسلام السياسي:

يتناول الباحث في هذا الفصل العلاقة بين المخزن و الزوايا، و هي العلاقة التي يجدها تتحدد في تصورين: التصور الأول يتمحور حول نقطة واحدة تتمثل في حضور ما هو سياسي ضمن البنية المرجعية للزوايا و بسبب ذلك يتم نعتها بمجموعات الضغط أما التصور الثاني فهو الذي يذهب إليه الباحث عبد الله العروي و الذي لا ينفي من خلاله حضور السياسي في بنية الزاوية المرجعية لكنه يجعل حضور الزاوية في المجتمع المغربي رهينا بإرادة السلطان السياسي و معتبرا إياه العامل الحاسم في منح حضور الزوايا مشروعية.
بعدها ينتقل للحديث عن كيف أن نتائج هذه العلاقة بين المخزن و الزوايا حددتها نهاية القرن التاسع عشر التي عرفت عملية مخزنة كاملة لبعض الزوايا من جهة و دفعت بزوايا أخرى نحو الإسلام الجهادي.و حيث لاحظ المؤلف أن المخزن العلوي عمل على ترويض الزوايا و ذلك ضمن استراتيجياته السياسية من أجل استعمالها كأدوات لترتيب سيطرته و تبريرها، و هي العملية التي خضعت لسيرورة طويلة الأمد امتدت منذ أول سلطان علوي إلى حدود النصف الأول من القرن العشرين (لدرجة يمكن أن نقول معها إن تاريخ الزوايا هو تاريخ إضعافها بأشكال مختلفة) و رغم أن الطرق التي كان يستعملها المخزن من أجل ضمان ولاء الزوايا تبدوا مختلفة إلا أنها تبقى في الأخير تصب في نفس الهدف فهنالك الهبات العقارية و ربط مصلحة الزاوية بمصلحة المخزن و تفويض جزء من سلطته للزاوية قصد إدارة المنطقة الواقعة تحت نفوذها بالإضافة أيضا إلى الظهائر السلطانية بوصفها اعترافا رسميا من طرف المخزن بالزاوية مما سيؤدي بها في الأخير كما لاحظ الباحث إلى أن تتحول إلى زوايا مخزنية مهمتها ضمان الإستمرار التعاقبي للسلالة الحاكمة و ذلك من خلال قوتها الأخلاقية، لكن على هامش عملية المخزنة التي خضعت لها زوايا كثيرة فإن زوايا أخرى حاولت الحفاظ على استقلاليتها النسبية تجاه المخزن و المستعمر و ذلك راجع إلى حفاظ المجال الجغرافي الذي تواجدت به مثل هذه الزوايا على استقلاليته من نطاق السيطرة المخزنية المباشرة كما أن البنية المذهبية لهذه الزوايا لم تكن سنية صرفة بل كانت المعتقدات المحلية تتدخل أيضا في بنائها المذهبي و الإيديولوجي.

البنية التنظيمية للزاوية أو طرق تصريف المعتقد داخل المجتمع:

أما في الفصل الخامس و الأخير من هذا الكتاب فقد عمد فيه نور الدين الزاهي إلى البحث في البنيات التنظيمية للزوايا بما يفرضه تناول هذه القضية إلى تحديد نوعية الحضور المنظم داخل الحقل الديني، أي الحضور التراتبي و الذي تطل الزوايا من خلاله على الإسلام الكوني و المعتقدات المحلية حيث يتخذ هذا الشكل التنظيمي التراتبي مستويات ثلاثة: المستوى المذهبي و هو العنصر المؤطر دينيا و نظريا و إيديولوجيا للأتباع و هو عبارة عن ضوابط مرجعية تميز طريقة عن أخرى و تحدد لأفرادها الطريق المؤدي إلى الله.
المستوى التنظيمي و يتمثل في طرائق تنظيم علاقات التواصل بين المريدين فيما بينهم و أيضا بينهم و بين شيوخهم، كما تتحدد مهمة هذه الضوابط في توحيد مريدي الطريقة على أسس و علاقات تميزهم داخل حقل الزوايا بشكل خاص و المجتمع بشكل عام.
المستوى الميداني و هو الوجود المادي للطريقة و المتمثل في الزاوية ذلك أنه من دون زاوية لا يمكن لأي طائفة الإعلان عن وجودها.
و يرى الكاتب أن قوة الزاوية الميدانية تظهر أول ما تظهر في لحظاتها التأسيسية الأولى و لهذه الأسباب تحقق الزاوية في لحظاتها التأسيسية حظوتها و قوتها و اتساع حقل نفوذها الديني و طاعة أتباعها الكاملة رغم أنه يخلص في الأخير إلى أن هذه الزوايا لا تنجوا هي الأخرى من القانون الخلدوني المتعلق بالدول و المتشكل من لحظة التأسيس فلحظة القوة ثم لحظة الإنحطاط لكنه مع ذلك يرى أن الحالة التنظيمية اللامركزية تبقى هي الطريقة الوحيدة التي تمنع من تفتيت وحدة الزاوية و الحد من نفوذها.