لوسيان فرويد
اهتزازات النفس وإيقاعات البشر الداخلية

حسين السكاف:
احتفى أخيراً متحف لويزيانا للفن الحديث في الدنمارك، بأعمال الفنان التشكيلي الإنجليزي، الألماني المولد، لوسيان فرويد Lucian Freud، حفيد الطبيب والفيلسوف سيجموند فرويد. أكثر من تسعين عملاً فنياً وزعت على ثلاث قاعات متداخلة من بناية المتحف. تباينت بين الأعمال الزيتية والكرافيكية إضافة إلى عمل مائي واحد.

امرأة عارية ndash; زيت على القماش ndash; 1988
كان لوسيان في الحادية عشر من عمره حين هاجر وعائلته إلى إنجلترا عام 1933 ليستقر هناك حتى يومنا هذا، وهناك درس الفن التشكيلي في المدرسة المركزية للفنون الجميلة، ليصبح أحد أهم فناني إنجلترا. واليوم يعد واحداً من أهم فناني العالم الأحياء.
لوسيان فرويد فنان معروف بأعماله البورتريتية وشخوصه العارية، وهو معروف أيضاً باهتمامه في إظهار الإيقاع البشري الداخلي وصراعات الروح الخفية ليقدمها إلى المتلقي مادة جدلية لعوبة تثير الابتسام، فأعماله وطريقته في التنفيذ تساعد المشاهد على الكشف عن مكنونات الشخصية المرسومة، فسرعان ما يبتسم المشاهد لها حين يشعر أنه توصل إلى الفكرة الرئيسة حين يكتشف دلالة الإيقاعات الشخصية الدفينة والحالات الخاصة مثل القلق، الخوف، الانتظار، الرغبة والشهوات والفرح أحياناً. وهو بهذا يحاول أن يضع أمام الموديل نفسه بعد إتمام العمل ndash; أغلب موديلاته هم أشخاص يعرفهم أو يتعرف عليهم جيداً قبل أن يرسمهم، كعشيقاته وأفراد عائلته وأصدقائه وغيرهم ndash; وبطريقة المعالج النفسي، خفاياه الداخلية، حين يصوره كما هي إيحاءاته وإشعاعاته الداخلية المنبثقة. والملاحظ أن أغلب أعماله المعروضة، هي لشخصيات غالباً ما تظهر عارية، وهنا تتماسك أعماله مع نظريات سيجموند فرويد المتجهة نحو فلسفة الجسد، حيث تظهر الأجساد العارية الكثير
فتاة مع قطة (زيت على القماش 1947)
من الصراعات والتجليات النفسية، فتختفي من ذهن المشاهد دلالات الجسد الجمالية أو الشهوانية، ففي لوحة quot; امرأة عارية ndash; زيت على القماش quot; نلاحظ جسد ضئيل لامرأة عارية ممددة على فراش فقير، شعور بالبرد والوحشة، والجسد خاوي ومتهالك، وعلى الرغم من هذا، نلاحظ انتعاظ الحلمتين لتدلنا على حالة الشبق، مما يثير تفسيراً داخلياً لدى المتلقي quot; هل الروح المتهالكة ماتزال تحتفظ برغائبها وشبقها!!quot;
العنوان في أعمال فرويد الحفيد له دلالة خاصة، ففي اللوحة التي يظهر فيها جسد عاري لامرأة مستلقية على فراش وظهرها يقابل السقف، نجد أن عنوانها مثيراً للتساؤل quot; بورتريت ليلي، وجه ساقط quot; وهذا العنوان بلا شك هو إشارة إلى حالة إحباط أو سقوط من نوع معين. الرأس عنده يحظى باهتمام واضح، فهو مخزن الإيقاعات الداخلية وكنز معلومات الرحلة الحياتية لشخوصه، تماماً كما صندوق الطائرات الأسود. وكما هو في لوحتي quot; رأس لرجل عاري quot; و quot; رأس لامرأة عارية quot; نجد العنوان غير مألوف، فقد اعتاد المشاهد على عناوين تقليدية مثل وجه، امرأة، رجل، أو يكتفي بكلمة بورتريت، ولكن لوسيان فرويد أعتمد عناوين هي في الحقيقة ما يطلق على الأعمال النحتية، وكأن هناك رغبة عارمة في نفسه لتلمس أعماله بأصابعه. فهي إذاً، دعوة للمشاهد كي يتلمس الأعمال وللإشارة إلى ضرورة التمعن وقراءة العمل بطريقة مختلفة، تقترب إلى حد بعيد من نظرة الطبيب النفسي حين يلتقي مرضاه لأول مرة، بنظرة متفحصة سرعان ما يتم تدوينها على الورق. وكأنه في هذا يريد أن يحقق لنا التزامه وتأثره بالمدرسة الفرويدية. والحقيقة أن سيجموند فرويد ساهم في تغير نظريات الفن التشكيلي من خلال مجموعة من محاضراته في علم النفس وتحليل الشخصية التي جمعها في كتاب بعنوان quot; الطوطم والحرام quot; حيث غيرت أفكاره المطروحة في كتابه هذا، نظرة الفنان تجاه موديلاته، فصار يدخل في التفاصيل الداخلية للشخصية. وقد تأثر بأفكاره مجموع من الفنانين، يقف السرياليون على رأسهم، وذلك عند اكتشافهم أهمية وتأثيرات اللاوعي
بورتريت ليلي، وجه ساقط ndash; زيت على القماش
عند الإنسان التي بينها كتاب الفيلسوف فرويد.

من هنا وبالعودة إلى أعمال لوسيان فرويد نجد أن أغلب أعماله قد اهتمت بإظهار الإيقاع الداخلي للشخصية، فنجد مثلاً لوحات ركزت على الأشكال والوجوه الإيرلندية، حيث أظهر فيها بعض ملامح الصلابة إلى حد البلادة أحياناً والخواء في أحيان أخرى. وفي لوحة quot; الرجل الكبير ndash; زيت على القماش quot; نشاهد رجلاً ضخم الجثة يحتل أغلب مساحة اللوحة، يرتدي الملابس الرسمية الأنيقة يجلس منتصباً على كرسي جلدي قديم ممزق ومن خلفه مرآة كبيرة تغطي الخلفية بأكملها، وعند التأمل لملامح الرجل نجده وكأنه خارجاً للتو من مصيبة أو كارثة قد نزلت عليه، ولكننا سرعان ما نبتسم للعمل حين نكتشف بأنه كان منذ دقائق موظفاً كبيراً، ولكنه تسلم قرار فصله منذ قليل، وما المرآة سوى ذكرى أيامه الخوالي وحنينه إلى الماضي القريب.
الملاحظ أيضاً، أن جميع الأعمال المعروضة غير موقعة من قبل الفنان، وتلك الظاهرة لها دلالتها الفنية، فهناك الكثير من الفنانين التشكيلين ولوسيان فرويد أحدهم، يعتقدون أن توقيع العمل هو إعلان صريح عن إتمامه، وهذا خطأ، حسب رأيهم، كونهم مؤمنون بأن ما من عمل يمكن إتمامه.
في حوار له مع إحدى الصحف الإنجليزية قال: quot; أريد تنفيذ أعمالاً تصل في طبيعتها وإيحاءاتها إلى طبيعة وإيحاءات اللحم الحي.. صحيح أن رسوماتي تجسد أشخاصاً، ولكنها لا تشبههم بالضرورة. فأنا أرسم ما أنا أراه، وليس كما تريدني أنت أن أراه. أريد من أعمالي أن تبدو لي تماماً كما اللحم الحي.quot; وهذا الهم، نلاحظه في الكثير من أعماله خصوصاً الحديثة منها، كما في لوحة quot; ريا، بورتريتية عارية 200x100cm - 2007 quot; في

رأس لفتاة ndash; زيت على القماش - 1975
هذا العمل نجده وقد نُفِّذَ بكثافة لونية وكأن الألوان رُكِبتْ على شكل طبقات فوق بعضها بعد جفافها، لدرجة أننا نلاحظ العين اليمنى للشخصية وقد ارتفعت عن سطح القماش بما يزيد عن السنتيمتر، وكذلك هو شكل الأنف، وكأن الفنان يروم نحت الشكل موظفاً المادة اللونية كمادة للنحت بطريقة مبتكرة. أي أنه نفذ عمله هذا بطريقة quot; الريليف quot; النحت البارز. وريا، هي Ria Kirby مقتنية الأعمال الفنية المعروفة التي وضعت نفسها بفرح غامر موديلاً لفرويد ليخرج لنا عملاً فنياً مهماً ثُمِّنَ أخيراً بسبعة ملايين جنيه إسترليني.
لم يبتعد النقاد المتابعين لأعمال الفنان لوسيان فرويد عن الحقيقة حين اعتبروه من الأبناء المخلصين لمدرسة فرويد في تفسيرات الجسد وإسقاطات الجنس وتأثيراته. وإن أهمية أعماله يضاف لها أهمية التصوير لنظريات الفيلسوف سيجموند فرويد وتطبيقاتها عن طريق الفن التشكيلي، فنظريات المدرسة الفرويدية التي تأسست على فكرة الكبت الجنسي وتأثيراته، وفلسفة الجسد ودلالاته، هي بالحقيقة الموضوع الأساس لأغلب أعمال هذا الفنان.
[email protected]