(بعد الوحي تأتي الثورة) برودون

منير بولعيش: حسب منظري ما بعد الحداثة و سدنتها الأوفياء (فرنسوا ليوتار على سبيل التمثيل لا الحصر)فإننا نعيش اليوم و دون أدنى شك، عصر نهايات بامتياز، نهايات تخيم بظلالها السوداء على لغة هذا العصر و نمط تفكيره و أسلوب حياته القائم (مثل كتاباته و إبداعه) على الإحتفاء بالتفكك و التشظي و التذري... و هي كما نلاحظ مصطلحات وريثة عصر يؤشر بامتياز على تفكك العلاقات و اندثارها الكامل، عصر مولع بالنهايات الكبيرة بدءا بنهاية التاريخ و حتى نهاية الأيديولوجيا مرورا بنهاية الأسرة و العلم و الميتافيزيقا و الدولة... و هو ما قد يدل و بوضوح على طبيعة الفكر المابعد حداثي المتشائمة إلى أبعد حدود، المتشائمة بدليل إيمانها المطلق بأن الإنسانية اليوم قد أعلنت إفلاسها الشامل في مختلف الميادين و المجالات، و أنه من الواجب عليها أن تبدأ من جديد، أن تبدأ تحديدا من نقطة الصفر!!
لكن و وسط هذه المعمعة المتشابكة و المعقدة، يبقى من الواجب على البشرية اليوم، أن تطرح مجموعة من الأسئلة الملحة المتعلقة بالمستقبل و بكل ما سيأتي، و أن تأمل بالتالي في وجود ضوء و لو خافت في آخر هذا النفق الذي تبقى العولمة هي تجسيده الأمثل؟!
عند انعقاد كل مؤتمر من مؤتمرات نادي الأغنياء بأعضائه الثمانية الثابتين، دائما ما ينطلق في الأفق صوت يزعج لقاءات سادة العالم و يخض طمأنينتهم الأبدية في سياتل و جنوة و بورتو أليغري...، صوت قوي، ينبعث من حناجر جيل كامل أصبح يلقب اليوم و في كل وسائط الميديا العالمية ب (جيل سياتل)، و هو الجيل الذي أصبح اليوم يقود و باقتدار كبير طلائع الرفض و معركة المواجهة ضد سياسات الماركتينغ العالمي، جيل يجسد بلاءاته الراسخة و رفضه الجميل، مشروع حركة/ضدّ جديدة مكوّنة من شباب يفكر بعقل و وعي مختلفين، جاهدين و بكل الوسائل و الإمكانيات البسيطة المتوفرة لهم في مد الجسور مع كل النبلاء و الثوار في العالم من أناركيين و يساريين و نقابيين و أحرار... و باحثين بالتالي عن خلق و بلورة ثقافة رفض بديلة تؤمن بالحب و الحرية و المساواة و العدالة...
ثقافة تنبع من الحاجة الملحة لهذا الجيل المطالب بعالم أفضل و هو ما يعبر عنه ليس فقط بنمط حياته المختلف و إنما أيضا عبر الفنون التي تحمل بصمته الإسثنائية و التي تظهر في نوع الموسيقى الخاصة به و أفلام الفيديو الخاصة و الأشعار التي تلقى وسط المظاهرات و المسيرات و تنشد باسمه الخاص و المتفرد *.
ثورة ماي 68 شكلت بحق منعطفا تاريخيا كبيرا، باعتبارها أولا ثورة طلبة و مثقفين بامتياز، و أيضا بقياس حجم تأثيراتها الكبيرة التي طالت العالم أجمع حينها، و قدرتها على تشكيل فكر جديد و خلق ذائقة و وعي مختلفين على جميع المستويات و خاصة المستويين الثقافي و الفني، هذا إلى جانب أنها استطاعت أن تحشد إلى جانبها كل أصوات المثقفين الكبار.
و اليوم يبدوا جيل سياتل (باعتباره يبقى في العمق هو الوريث الشرعي لثورة ماي68 ) كمن يحاول أن يتحرك في نفس الطريق و يخلق لنفسه ثقافة و فنا بخطاب مختلف يتوازى مع الرهانات الصعبة التي يجتازها عالم اليوم، و من يراقب عن كثب المظاهرات و المسيرات الإحتجاجية التي ينظمها هؤلاء الشباب، سيخرج بيقين أن هناك فكر جديد يتبلور و أن نشيد الحرية و الرفض الذي ينشده هؤلاء قد يسمعه كل العالم يوما ما.
التاريخ و في صيرورته الخالدة لا يؤمن أبدا بالفراغ أو ب(النهايات)، و أن منعطفاته الثورية الكبرى، تبقى في الأصل إضافات لبعضها البعض، و أن كل إبدال جذري في هذا التاريخ لا بد و أن يوازيه إبدال جذري آخر في الفكر و الثقافة و الفن ينسجم معه و يبشر به و بأفكاره، لذا يبدوا جيل سياتل بهذا المعنى هو التمثيل الأنبل و الصوت الحقيقي المعبر عن آمال و آلام الإنسانية الرازحة تحت الإستراتيجيات السياسية/الإقتصادية التي يرسمها نادي الأغنياء بأعضائه الثمانية.

* يرجى مراجعة مقالتي بإيلاف (قصيدة سياتل و شعرية الإحتجاج) بالضغط هنا