العراق 1945- 1958: ازدهار ثقافي ونضج سياسي وانفتاح اجتماعي (6/6)
بقلم أريك ديفس

الحلقه الاولى

الحلقه الثانيه

الحلقه الثالثه

الحلقه الرابعه

الحلقة الخامسة

تقديم وترجمة حسين كركوش: ما هي المعوقات البنيوية التي حالت دون قيام نظام حكم ديمقراطي عشية ثورة 1958؟
قبل كل شيء، إن الهوة الهائلة بين الحياة الحضرية والريفية كانت تمثل عائقا جديا. فقد كانت ظروف المجتمع الريفي، حيث يعيش الفلاحون كأقنان، وحيث يحكم شيوخ القبائل مناطقهم على طريقة مشابهة للحكم الذاتي، تمثل عائقا يحد من تأثير التطورات التقدمية التي كانت تشهدها المناطق الحضرية، خصوصا في بغداد والموصل والبصرة (67). إن إدراك حقيقة أن أقل من واحد في المائة من السكان كانوا يملكون أكثر من 46 في المائة من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة، كان بحد ذاته عقبة جدية أمام أي تغيير، وهو أمر دفع كل الجماعات ذي العقليات الإصلاحية، أن تجعل من مسألة الإصلاح الزراعي، قضية لا بد حدوثها، لأي تغيير اجتماعي.
وتكملة لطبقة ملاك الأراضي في الريف، كانت توجد نخبة صغيرة من تجار المدن، تضاف إليهم، بنسبة عددية أقل، البرجوازية الصناعية. وكان عدد من أفراد هذه الطبقة الاجتماعية، من الثراء الفاحش والخسة، بحيث يجعلهم يقفون ضد إحداث أي إصلاحات من شأنها أن تطال نفوذهم السياسي والاقتصادي.
وعلى أي حال، فأن القول بأن مشاكل التغيير الاجتماعي تعزى إلى نفوذ ملاك الأرض وتجار المدن والبرجوازية الصناعية وحدهم، دون غيرهم، وأن هذه الأطراف وحدها هي التي كانت تقف عائقا بوجه أي تغيير اجتماعي، لهو قول يتجاهل عدد من الاعتبارات المهمة. والتركيز على مسألة الصراع الطبقي وحدها، إنما يعني تجاهل استمرارية تواجد المسألة الطائفية، باعتبارها أحد العناصر الأساسية المعوقة للعملية السياسية. ورغم أن أحزابا، مثل الوطني الديمقراطي، والشيوعي العراقي كافحا بدون هوادة ضد الانقسامات الطائفية، إلا أن مؤسسات الدولة الرئيسية، كالبرلمان، والجيش، ورئاسة الحكومة، ظلت على الدوام تحت هيمنة وسيطرة العرب السنة. وقد تعين الانتظار حتى عام 1948 عندما تم، أخيرا، تعيين رئيس وزراء شيعي هو، صالح جبر. وفي الواقع، فأن اختيار صالح جبر لهذا المنصب لم يكن بدافع تعديل الكفة الطائفية، بقدر ما كان نتيجة لحسابات سياسية، على اعتبار أن صالح جبر كان مواليا للبريطانيين، وإن موقفه هذا، بالإضافة لكونه شيعيا، سيسهل إعادة صياغة معاهدة عام 1930 العراقية البريطانية، بطريقة ترضي النخبة السياسية الحاكمة. إما الشيعي الأخر، محمد الصدر، وهو شخصية دينية تحظى بالاحترام، فأن اختياره رئيسا للوزراء عام 1952، والذي لم تدم وزارته سوى أربعة أشهر ونصف، كان، ببساطة، ردا على الانتفاضة التي حدثت في تلك السنة، ومثل اختياره لهذا المنصب اعترافا ضمنيا من قبل النخبة السياسية الحاكمة، بالسخط الواسع لدى الشيعة إزاء الظروف السياسية والاجتماعية.
وإذا أخذنا كل حادثة على انفراد، فأننا نجد أنه في كل مرة يتم فيها اختيار شيعي لرئاسة الحكومة، فأن ذلك كان يحدث لتلبية حاجات النخبة السنية المسيطرة. والحقيقة، أن استخدام الورقة الطائفية لم يكن مطبقا على الشيعة وحدهم، وإنما كان يطبق على الأكراد، أيضا. فبعد قيام الاتحاد العربي مع الأردن، كرد على قيام الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا ومصر، تم اختيار جمال بابان رئيسا للوزراء، وكان اختياره لهذا المنصب بمثابة محاولة لتطمين مخاوف أبناء جلدته الأكراد، من الذوبان في الاتحاد الجديد.

الحكم التسلطي يتغذى من فقدان الأمن
هناك درسان أضافيان قدمتهما حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية في العراق، من شأنهما تفسير انتصار الحكم التسلطي، وعدم قيام مجتمع سياسي انفتاحي.
العامل الأول هو، أن العراق ظل يعاني منذ بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914، ولفترات طويلة ومستمرة، من الصراعات والفوضى. وما كان من الصعوبة أن نفهم كم كانت الطبقات الوسطى في المدن تتوق إلى إقامة النظام وترسيخ الاستقرار. بمعنى أخر، كانت هناك قطاعات محددة من السكان، وعلى الخصوص الطبقات الوسطى تظهر ميلا متزايدا لدعم الأحزاب التسلطية، والسبب وراء ذلك هو الرغبة القوية لدى هذه الفئات، للحصول على نوع من الإسناد في الحياة اليومية. وسنرى أن هذا الموقف نفسه عاد وكرر نفسه وعلى نطاق أوسع في عام 1968، عندما وصل حزب البعث ثانية إلى الحكم، بعد سنوات من الاضطراب غير المسبوق.
العامل الثاني الذي ترك تأثيره على التطور السياسي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يكمن في الهوس المتزايد بنظرية المؤامرة، والاستعانة بها لتفسير الأحداث السياسية. وهذا النمط من التفكير ترجع أصوله إلى فلسفة النظام التعليمي الذي أرسى أسسه ساطع الحصري خلال العشرينيات من القرن الماضي. وبالإمكان العثور على تجليات هذا التفكير في التفسير الذي قدمته الطبقة الوسطى العربية السنية (خصوصا داخل بغداد)، لحركة الأثوريين عام 1933، باعتبارها مؤامرة بريطانية لتقسيم العراق، وكذلك النظر إلى انقلاب بكر صدقي باعتباره مؤامرة كردية لسلب الامتيازات السياسية من العرب السنة. وهنا، نرى أن التصعيد الذي قام به (نادي المثنى) للمشاعر المعادية لليهود، لم يكن، فقط، تعبيرا عن أيديولوجية ذات توجه عنصري، وإنما كان، أيضا، محاولة لإيجاد تفسيرات مبسطة لقضايا معقدة. إن فقدان الثقة بين قطاعات مختلفة داخل النخبة السياسية، والحرمان الاقتصادي، وفشل المؤسسات السياسية، خصوصا تلك التي يفترض بها أن توفر انتخابات برلمانية حرة ونزيهة، هذه الأمور كلها استمرت حتى بعد حدوث ثورة 1958. ولهذا، فأن صدام وحزب البعث ليسا هما من أبتدع عقلية المؤامرة والتخندق، بقدر ما هما وريثان لتقليد قديم، وكل ما فعله صدام وحزب البعث هو، دفع الأمور إلى مستويات عالية جديدة، وصلت إلى حدود البرانويا ورهاب الأجانب.

ومع كل الذي ذكرناه حول الفترة الممتدة من 1945 و 1958، فأنها تظل واحدة من الفترات التي شهدت فورانا لا يصدق في مجال النشاط التنظيمي والثقافي. فالإنجازات التي حدثت في مجالات الأدب والفنون، جعلت العراق يحتل موقفا طليعيا في التطورات الثقافية التي شهدها العالم العربي. وقد أثبتت تلك الفترة أن العراقيين يمتازون بعقلية سياسية متطورة جدا، وإنهم قادرون على خوض انتخابات ديمقراطية. وكان انتشار الأحزاب السياسية، والمنتديات، والجمعيات المدنية والفنية، أمرا مذهلا، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الموقف العدائي للدولة ضد قيام أي تنظيم، يفلت من سيطرتها. ومن خلال الصحف، والمجلات، والمقالات، تسنى للعراقيين أن يعبروا عن حس قوي بالروح الوطنية، وأظهروا التزاما بالأمة العراقية، ورغبة بقيام مجتمع سياسي. ورغم أن الحكم التسلطي عاد إلى الوجود بعد التخلص من النظام الملكي، إلا أن الذاكرة التاريخية القوية التي تشكلت خلال سنوات فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ظلت موجودة، وبإمكان القوى الديمقراطية التي تعارض نظام حزب البعث، أن تعتمد عليها، في سعيها للإطاحة به، بعد أن جردته الحرب الإيرانية العراقية، وحرب الخليج، وانتفاضة عام 1991، من الدعم الذي كان يحظى به.