الوطن لمن يحميه ويحافظ عليه
دائرة العشق البغدادية.. قراءة بريختية في اوراق عراقية

عبد الجبار العتابي من بغداد: عرضت يومي الاربعاء والخميس على المسرح الوطني ببغداد مسرحية (دائرة العشق البغدادية) للمخرجة الدكتورة عواطف نعيم المأخوذة فكرتها من مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) للكاتب الخالد (بريخت) وقد عرقتها المخرجة لتمنحها نكهة عراقية وتلبسها ملبسا عراقيا من واقع العراق وما يحدث فيه في رسالة واضحة للتعبير عن المواطنة الحقة، وادى ادوارها الفنانون عزيز خيون (بدور القاضي) وماجد فريد (بدور حاجب القاضي) وسمر محمد (بدور زوجة الحاكم) وفرح طه (بدور الخادمة) وعواطف نعيم (بدور محامي اول) ومحمد هاشم (بدورمحامي ثاني) وعدنان شلاش (بدور تابع زوجة الحاكم)، وهؤلاء اجادوا كثيرا في رسم نشاطهم بالاداء المميز الذي اثار انتباه الحضور وظهرت مهاراتهم.
بدأت المسرحية من وسط صالة المسرح (وسط الجمهور) حيث كرسي القاضي ينتصب ومع حاجبه يتحدث عن امور الزمان واحوال الناس تارة بشيء من السخرية وتارة بشيء من الجدية، وفي الاحاديث تشتعل السخرية التي تختلط فيها اللغة الفصحى باللهجة العامية من خلال العديد من التعليقات التي يبدع الفنانان في نسج حواراتها وصولا الى اللحظة التي يبحث فيها القاضي عن كتاب القضاء ويتساءل عنه فيرد عليه حاجبه (انه تحتك على الكرسي) ومن ثم يستطرد (الكراسي دائما تجد من يجلس عليها وعلينا) فيجده القاضي وهو يضحك يضحك ويقول (اشعر بالراحة حين اجلس عليه) ثم يتحدث عن عن الفقراء والاغنياء (واذا دسيت انفي في جيوب الاغنياء هذا كفر)، ثم تصدح موسيقى شعبية راقصة والحاجب ينادي على القاضي (مولاي وصلوا)، ويدخل من مدخل صالة المسرح من بين الجمهور زوجة الحاكم وتابعها والمحاميان وهو يرقصون طربا، وحين يصعدون الى خشبة المسرح تتحدث زوجة الحاكم عن (الخادمة) التي سرقت ابنها الطفل، وهذا يعني انها تطالب بمحاكمة الخادمة من اجل استرداد ابنها، وهنا تبدأ محاكمة الخادمة التي تتوسط خشبة المسرح والتي تقول ان الطفل ابنها، ويرد عليها احد المحامين (كفى وقاحة) ويطالبها بارجاع الطفل الى امه (المبجلة)،يبدأ المحاميان بأنتهاز الفرصة للتعبير عن تملقهما لزوجة الحاكم بكلمات قاسية ضد الخادمة التي تبدأ بسرد الحكاية للقاضي، يتغير الديكوروتضج اصوات تعلن الحرب تظهر زوجة الحاكم مع بعض الحاشية وهم مرتبكون ويتصارخون حول الحرب وانهم سيموتون ان ظلوا في القصر ويهرب الجميع بعد ان تجمع (المبجلة) جواهرها وملابسها واشياءها الثمينة وتهرب، وتظهر الخادمة وحيدة تنادي على سيدتها ولكن جواب وتعرف انهم هربوا وحين تحاول الهرب تسمع صوت الطفل وتتفاجأ به وقد تركته امه (المبجلة) وتحمله، وفي صراع داخلي بين ان تأخذه او تأخذه، مابين خوف على نفسها وخوف على الطفل ومع اصوات تطالبها بأنقاذ نفسها لانها الحرب لكنها تقرر ان تأخذ الطفل وتحميه وترعاه وتقول انها ستبيع ملابسها من اجل ان تطعمه، وان تعرضت بسببه الى المطاردة.
وهنا يتدخل القاضي وحاجبه ويستجوبان الخادمة التي تصر على ان الطفل لها، وحين يسألها القاضي ماذا ستقول حين يمسكها الجنود فقالت: (انه من زوجي الذي سيعود من الحرب)، وهنا يضحك القاضي وحاجبه مستهزأين بما قالته (لا.. راح يرجع من......)، ضحك كثير، (بابا الحرب تاخذ ولاتعيد، الحرب تاخذ وما تطي)، وحين تقول الخادمة متساءلة (شلون؟)يقول لها القاضي (هسه هذا يحتاج سؤال).
وتنزل من خشبة المسرح لتمر من بين الجمهور وصولا الى القاضي الذي تقول له انها تبحث عن الامان (هو وينه الامان)، وهنا يمسد على شعرها القاضي الذي يترنم بأبيات من شعر (الابوذية) حول الارض والوطن، وبين تراجيديا وكوميديا، يطل على الخشبة من بعيد وسط ضوء خافت شاب يتحرك الى الامام بحركة واهنة تدل على تعرضه الى اصابة، انه خطيب الخادمة التي تسرع الى التهليل والفرح انه عاد سالما، وحين يعرف حكاية الطفل يطالبها بتركه لكنها ترفض (انه طفلي) وان كان ابن الحاكم، فيقول لها خطيبها (اذا كان الحاكم خلف في قلوبنا جروحا فماذا سيخلف ابنه؟)، وفي اداء رائع للشاب بهاء خيون ومؤثر مع الشابة فرح التي ترتفع حرارة ادائها، يتم الاعلان من القاضي على طريقة وهي (من تسحب الطفل من الدائرة فهو لها)، وتبدأ المراهنات (اراهن بشرفي وبغيرتي وبعرضي ان المبجلة ستفوز) يردد هذا الكلام المبجلة ذاتها والمحاميان وتابع زوجة الحاكم التي تقول بزهو (بعد النصر الكبير الذي حققه زوجي المنتصر لابد من اقامة احتفال كبير بالمناسبة واستقبل المهنئين والمباركين) فيرد عليها القاضي (معك حق ايتها المبجلة فالنصر ثمنه باهض) ثم يقول لحاجبه (شوف شغلك سلمان) الذي يعلن البدء بعملية سحب الطفل، وهنا تتجاذب زوجة الحاكم والخادمة الطفل وسحبه اليهما، وفي كل مرة ترفض الخادمة الاستمرار تارة لان الطفل يبكي وتارة لانها تستطيع سحبه لانه يتألم، وحتى حين منحها القاضي فرصة اخيرة افلتت الطفل الذي تأخذه زوجة الحاكم وتهزج راقصة مع جماعتها، وحين يسأل القاضي الخادمة (لما افلتيه يانورا؟) تقول: (لانني احبه، اخاف عليه، لايمكن ان اشده بهذه الطريق فيتألم، لن اكون السبب في عذابه)، فيقول القاضي (ولكنك ستخسرين) فقالت: (اخسره ولكن لااريد اذاءه او ترويعه،وليكن سعيدا في حضن اخرى)، وحين يوجه كلامه الى زوجة الحاكم (سيدتي المبجلة كنت شديدة في السحب والشد الا تخشين عليه؟) قالت بغنج (لم يكن امامي غير هذه الطريقة، والمهم انني فزت)، لكن القاضي يصدر في النهاية حكمه (نورا.. خذي الطفل فأنه لك)، ويواصل (المبجلة ولدته ولكن التي ربته وحمته هي نورا، المبجلة هربت بمجوهراتها وتذكرت ثيابها وتركت الطفل مثلما ترك الحاكم المدينة وهرب، وتحملت نورا الغمز واللمز والظنون، وكيف تكون اما وليس لها زوج) وبعد كلام يقول الحاكم (العبرة في ان تحفظ وتحمي وليس العبرة في ان تحمل وتلد)، ومع الاحتجاج يؤكد (ان الاشياء يجب ان تعطى للذين يقومون عليها خير قيام)، ويصرخ جماعة المبجلة (سنستأنف.. سنستأنف)، وهنا تخاطب زوجة الحاكم القاضي: (سنعين قاضيا جديدا ونكتب له قانونه)، ويقوم الجميع محاصرة الخادمة بينما بقعة الضوء (الدائرة) تبقى واضحة على خشبة المسرح في دلالة على ان الدكتاتوريات تبقى تحاصر الناس، ومن ثم تضج اصوات اغاني هابطة صارخة عراقية ومصرية وخليجية في اشارة الى (العولمة) ولكن مع اشارة الى ان الفكر يبقى هو الاصل والمهم.

وفي ختام العرض استطلعنا بعض الاراء
قال الدكتور عقيل مهدي عميد كلية الفنون الجميلة: انه عمل جاد ضمن الظروف التي يمر بها العراق وهو ايضا دعوة لاعادة الانتباه الى المسرح الجاد وعدم التعالي عليه وعلى عقلية الجمهور وتقديم خطاب فني يمتلك شروطا جمالية جيدة ومقنعة، وهؤلاء الفنانون هم من الكادر الحقيقي للفرقة القومية للتمثيل واشتركوا في العديد من الاعمال واقصد د. عواطف نعيم وعزيز خيون، واضاف: الذي اعجبني في العرض هي الجدية في ربط نص من اصول عالمية بما جرى في عراقنا الحديث،وقد تم ايصال رسائل ضمنية بطريقة فنية مقنعة ومؤثرة، ويكفي انهم اختاروا ان يكونوا جادين حين يذهب الاخرون الى السخرية فقط.
اما المخرج المسرحي حاتم عودة فقال: العرض حقق المتعة تماما وعمل على ان يكون عملا مهذبا ومدروسا واكاديميا، وكان بحق عملا برختيا استطاع ان يكون درسا اكاديميا في هذا المجال من خلال كسر الايهام المستمر وضخ الفكرة الرئيسية او تكثيفها ضمن حكاية وان كانت معروفة، كذلك فأن الممثلين كاموا يعرفون ما يعملون من اجل تكامل اسلول العرض.
وقالت الفنانة بشرى اسماعيل: مسرحية دائرة العشق البغدادية قدمت الهم العراقي بكل جروحه وآلامه، وقد حقق متعة وامتاز بتقنيات عالية وبشكل فني مدروس، وبعث برسائل مهمة حول الهم العراقي الذي نعيشه، واتمنى ان ان تبقى هكذا عروض في دائرة السينما والمسرح وتقدم المتعة والفائدة للمتلقي واشكر كل العاملين في هذه المسرحية من المخرجة الكاتبة والممثلين والفنيين.
وقال الفنان صادق عباس: كان عرضا ساخنا في ظهيرة باردة، الممثلون رائعون والفكرة جميلة، ونحن بحاجة الى هكذا اعمال تعيد الى المسرح عافية المسرح العراقي الاصيل، واختلافي كان مع النهاية كان من الممكن ان تغادر البققة الضوئية المسرح، ان تتلاشى لانها ابقتنا اسرى للحكاية، واضاف: اعجبني حقا اداء الممثلين واستخدامات السينوغرافيا، ولا يسعني الا ان اقول انني في هذا العرض اكتشفت الفنان ماجد فريد ممثلا من طراز خاص، ويبقى عزيز خيون رائعا بصوته الرخيم.
المسرحية حققت نجاحا جميلا اعادت فيه الصورة الجميلة للمسرح، لم نشهد تلت الخطابات التي تتلوى فيها اللغة الفصحى او تتحرك بصلابتها مشحونة بحركاتها، بل جاءت سلسة وعفوية ممتزجة باللهجة العامية التي عرف الممثلون كيف يتصرفون بها.